لدى استقباله لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، دعى المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، إلى تكثيف الجهود من أجل تحرير فلسطين، معتبرًا أن السبب الرئيسي وراء جمود القضية الفلسطينية في الفترة الماضية، هو عدم دخول الشباب في الميدان، لكن الشباب الآن دخلوا الميدان بشكل عفوي، والأهم من ذلك اعتمادهم على الإسلام.
جاءت زيارة هنية إلى طهران بعد عدة أحداث أمنية شهدتها الأراضي الفلسطينية مؤخرًا، والتي كانت آخرها محاصرة عدد من الجنود الإسرائيلين في مدينة جنين، فضلًا عن الهجمات الإسرائيلية التي تحدث في قطاع غزة بين الحين والآخر.
إذ تدرك إيران أهمية الحفاظ على القضية الفلسطينية كركن أساسي في استراتيجيتها الإقليمية، إذ وفّر الاستخدام المتكرر من قبل الخطاب السياسي الإيراني لمفردات “تحرير القدس” هامشًا كبيرًا، تمكّنت من خلاله إيران طرح نفسها كمتغيّر مهم في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
والأهم من كل ذلك أيضًا، دعمها لأهم الفصائل الفلسطينية المسلحة، والحديث هنا عن حركة حماس، والحفاظ على مسار العلاقة معها في إطار علاقة استراتيجية تجمعها وحدة العداء لـ”إسرائيل”، والحرص على عدم تحويلها إلى علاقة إملائية من الممكن أن تؤثر على صورة الحركة داخل المكونات الاجتماعية الفلسطينية.
الخطاب السياسي الإيراني الذي أوجد رابطًا عضويًّا بين فكرة “تصدير الثورة” و”تحرير فلسطين” منذ عام 1979، لم يكن قادرًا طيلة 4 عقود ماضية على تفكيك هذه العلاقة العضوية.
ممّا لا شكّ فيه أن زياره هنية إلى طهران في هذا الوقت تطرح العديد من التساؤلات حول الأسباب الرئيسية التي تقف خلفها، فهي تأتي في ظل جوّ إقليمي جديد تشهده المنطقة، يمكن أن نطلق عليه “جوّ المصالحات والتوافقات”.
فمن جهة تحاول إيران أن ترسل رسالة واضحة للدول العربية، بأن انفتاحها على دول كالسعودية ومصر والأردن لا يعني بالمقابل التخلي عن سياستها الإقليمية الداعمة للقضية الفلسطينية، وتحديدًا حركة حماس، ومن جهة أخرى تحاول إرسال رسالة مهمة لهذه الحركة، بأن إيران ماضية في توطيد العلاقات معها، بغضّ النظر عن الحوارات الإقليمية الجارية.
وتدرك إيران تمامًا أن هناك حاجة كبيرة للتفريق بين ما هو تكتيكي واستراتيجي في الشرق الأوسط، فسياسة الانفتاح على السعودية ومصر والأردن تأتي اليوم في سياق إدراك إيران وجود حاجة للتهدئة في ظل الأزمات الاقتصادية التي تواجهها، ومن ثم هو خيار تكتيكي يخدم الأهداف المرحلية الإيرانية، وهذه السياسة مرشحة للتراجع في المستقبل، بعد أن تصل إيران إلى الغاية الاستراتيجية التي تطمح إليها.
ولعلّ تاريخ العلاقة التي تجمع إيران بهذه الدول، يعطي مؤشرًا واضحًا على مدى حالة عدم الاستقرار التي جمعت إيران بدول المنطقة، وربما السبب الرئيسي في ذلك أن إيران كدولة ثورية ذات أيديولوجية عابرة للحدود، لن تكون قادرة على المضيّ بسياسات ذات لون واحد لفترة طويلة من الزمن.
أما الاستراتيجي في سياسة إيران الإقليمية يتمثل بأطراف ما يطلق عليه “محور المقاومة”، والتي تمثل فيه حركة حماس ركيزة استراتيجية مهمة، بل الأساس المشروع لديمومة هذا المحور، فلا معنى استراتيجي لوجود “محور المقاومة” دون وجود هذه الحركة فيه.
والأهم من ذلك أن الخطاب السياسي الإيراني الذي أوجد رابطًا عضويًّا بين فكرة “تصدير الثورة” و”تحرير فلسطين” منذ عام 1979، لم يكن قادرًا طيلة 4 عقود ماضية على تفكيك هذه العلاقة العضوية، بسبب النتائج الكارثية التي يمكن أن تطال المشروع الإيراني في المنطقة.
خامنئي يعود خطوة إلى الوراء
التصريحات الأخيرة التي أدلى بها خامنئي بعد استقباله هنية، مثّلت بدورها انقلابًا واضحًا على تصريحات سابقة صدرت قبل أسبوعَين، عندما طالب الفريق التفاوضي الإيراني بعدم التخلي عن مسار المفاوضات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما أنها مثلت انقلابًا على تصريحات مماثلة متعلقة بضرورة توفير أفضل السبل لتهيئة الظروف بالحوار مع مصر، وفيما يتعلق بالحالة الثانية، مثّلت القضية الفلسطينية محورًا مهمًّا من محاور الخلاف الإيراني المصري، وذلك بسبب اختلاف وجهات النظر لكل منهما حول سبل معالجة القضية الفلسطينية.
حيث إن أحد أبرز أسباب التجاوب المصري مع المبادرات الإيرانية الراغبة بالحوار، تتمثل في رغبة مصر باستثمار الجهد الإيراني في دعم مشروع المصالحة الفلسطينية التي تقوم بها، فضلًا عن الحفاظ على التهدئة في الأراضي الفلسطينية، ومن ثم قد تنعكس دعوة خامنئي الأخيرة بصورة مباشرة على مسارات هذا الحوار، وربما من الممكن القول إن إيران تحاول مكاشفة الفصائل الفلسطينية عن مسارات الحوار مع مصر، وموقع القضية منها.
إلا أنه من جهة أخرى، يمكن القول أيضًا إن تصريحات خامنئي يمكن أن تشكّل ردة فعل إسرائيلية غير متوقعة، ما قد تنتج عنها أحداث أمنية معقدة في الأراضي الفلسطينية، مع وجود حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نيتنياهو، التي تبدو منزعجة حتى الآن من المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في سلطنة عُمان.
تعي إيران جيدًا أن لا قيمة لدورها في القضية الفلسطينية، دون أن يكون مبنيًّا على علاقة وثيقة مع حركة حماس.
إن نظرة بسيطة إلى طبيعة الأدوار المشوّهة التي تقوم بها إيران في المنطقة، تعطي مؤشرًا واضحًا على أن القصدية السياسية الإيرانية راغبة في تحقيق عدة أهداف في آنٍ واحد، فهي من جهة تتفاوض مع الولايات المتحدة، وتتحاور مع مصر، وتدعو إلى الجهاد من أجل تحرير فلسطين.
هذه المسارات الثلاثة ستجعل إمكانية فهم ما يدور في مخيلة صنّاع القرار بالمنطقة صعبة للغاية، ما يجعل الهدف النهائي الذي تطمح إليه إيران بالنهاية يتمثل بمحاولة تحقيق مكاسب استراتيجية على عدة جبهات، دون تفضيل جبهة على حساب أخرى، وهو ما يفسّر لنا نجاح إيران حتى الآن في البقاء ضمن معادلة التوازن الاستراتيجي الإقليمي، رغم النكسات الاستراتيجية الكبيرة التي مرّت بها بعد اغتيال قاسم سليماني.
إجمالًا، تعي إيران جيدًا أن لا قيمة لدورها في القضية الفلسطينية، دون أن يكون مبنيًّا على علاقة وثيقة مع حركة حماس، وهذه الحاجة الإيرانية هي ما حوّلت بدورها العلاقة بين إيران والحركة إلى علاقة تشاركية، خشية أن تبتعد الحركة عنها.
فالحركة بالنهاية لديها مرجعيتها الفقهية والدينية في تنفيذ واجباتها، دون أن تكون مضطرة إلى إطاعة أوامر الولي الفقيه في إيران، على النحو ذاته الذي تفعله الجماعات والحركات الشيعية المسلحة، ورغم حالة عدم الاستقرار التي أطّرت العلاقة بينهما، إلا أن إيران ظلت حريصة على عدم الوصول إلى نهايات واضحة في علاقاتها مع الحركة.