أعادت العملية العسكرية التي شنّها الاحتلال الإسرائيلي فجر 3 يوليو/ تموز على مخيم جنين، الواقع شمالي الضفة الغربية المحتلة، إلى الأذهان عملية “السور الواقي” التي شنّها قبل نحو 21 عامًا، عملية “السور الواقي”، في محاولة لإخماد المقاومة الفلسطينية، والتخلص من حالة الصداع المزمن الذي تسبّب فيه المخيم والمدينة للمنظومتَين الأمنية والعسكرية للاحتلال الإسرائيلي.
ومنذ معركة “سيف القدس” عام 2021، شكّل المخيم شرارة الانطلاق للمقاومة في الضفة الغربية بشكلها المنظَّم المعلَن، بعد الإعلان عن تشكيل” كتيبة جنين” المحسوبة على سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، قبل أن تلحق بها كتائب القسام ومجموعة أخرى محسوبة على كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.
تاريخيًّا، أُقيم مخيم جنين عام 1953 إلى الغرب من مدينة جنين، حيث يطلّ على سهل مرج بن عامر من جهة الشمال، وتحدّه من الجنوب قرية برقين، تحيط به المرتفعات، ويمرّ به وادي الجدي من المنطقة الغربية، حيث بلغت مساحته عند الإنشاء 372 دونمًا اتسعت إلى حوالي 473 دونمًا.
بلغ عدد سكانه عام 1967 حوالي 5 آلاف و19 نسمة، وفي عام 2007 وصل إلى 10 آلاف و371 نسمة، وارتفع عدد سكانه في منتصف عام 2023 إلى نحو 11 ألفًا و674 لاجئًا، ينحدر أغلبهم من منطقة الكرمل في حيفا وجبال الكرمل، وقرى تابعة لجنين اُحتلت عام 1948.
الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة أعلنت أنها في حالة انعقاد دائم لمتابعة العدوان الهمجي على جنين.
خلال الأسابيع الأخيرة، ركّز الاحتلال الإسرائيلي ميدانيًّا وإعلاميًّا على مخيم جنين، من خلال الإشارة إلى إمكانية تنفيذ عملية عسكرية واسعة، فضلًا عن تسريبات متفرقة للفت انتباه الجبهة الداخلية الإسرائيلية إلى ما سيحدث خلال الفترة المقبلة.
اللافت أن العملية العسكرية التي أوقعت عددًا غير محدد من الشهداء وعشرات الإصابات، نتيجة غياب الإحصائيات الرسمية والنهائية بفعل عرقلة عمل الطواقم الطبية، جاءت بعد محاولات اقتحام متكررة وفاشلة، فضلًا عن 3 محاولات لإطلاق الصواريخ من المخيم تجاه الأراضي المحتلة عام 1948.
ونظرًا إلى حالة النفي الإسرائيلي المتكررة لفكرة شنّ عملية عسكرية واسعة النطاق في مناطق شمالي الضفة الغربية المحتلة، خشية من اشتعال بقية المناطق والمدن ودخول جبهات أخرى للمشهد الميداني، كغزة في جنوب فلسطين المحتلة أو الجبهة الشمالية من خلال الفصائل الفلسطينية من لبنان، فإن السلوك الميداني الإسرائيلي يوحي بنيّته أن تكون عمليات الجيش مركزة ومحدودة النطاق.
في المقابل، يسعى الاحتلال دائمًا لتعزيز استراتيجية فصل الجبهات والساحات عن بعضها خلال عملياته العسكرية، سواء في غزة أو الضفة الغربية، وهي الاستراتيجية المضادة للاستراتيجية التي تتبنّاها المقاومة الفلسطينية القائمة على “وحدة الساحات”.
وبالتوازي مع ذلك، فإن الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، أعلنت أنها في حالة انعقاد دائم لمتابعة العدوان الهمجي على جنين، مع التلويح الواضح بأن المقاومة في كل الساحات لن تسمح للعدو بالتغول على جنين أو الاستفراد بها وبأهلها.
أهداف ودوافع.. ماذا يريد الاحتلال؟
عند الحديث عن العملية العسكرية القائمة في جنين، يجب الإشارة إلى أن النصف الأول من عام 2023 شهد ارتفاعًا في معدل العمليات وعدد القتلى بين صفوف المستوطنيين، فبحسب موقع صحيفة “إسرائيل اليوم” منذ بداية العام تمَّ تنفيذ 132 عملية متنوعة في الضفة الغربية، منها 111 عملية إطلاق نار، و13 عملية طعن، و6 عمليات دهس، أدت إلى مقتل 28 مستوطنًا إسرائيليًّا.
خلال الفترة السابقة، وتحديدًا منذ عام 2022، أقرّ الاحتلال بأنّ السلطة الفلسطينية فشلت في إجهاض المقاومة في مخيم جنين، ولم تنجح في تفكيك الخلايا المسلحة، وهو ما اُعتبر في مرات عديدة تمهيدًا لشنّ عمليات عسكرية محدودة أو واسعة النطاق في المخيم.
وتشكّل المخيمات الفلسطينية مركزًا رئيسيًّا للمقاومة في فلسطين، وأثبت مخيم جنين أنه رأس حربة المقاومة في الضفة الغربية المحتلة، ورمز ثوري لها، وتحوّل إلى مصدر إلهام وفخر للشعب الفلسطيني، حيث يشهد المخيم عمليات تدريب على السلاح وانطلاقًا للمجموعات المقاومة.
يبدو أن العملية العسكرية الحالية لا تستهدف احتلال المخيم بدرجة أساسية أو السيطرة عليه، لأن ذلك بالنسبة إلى الاحتلال يعني عودة سنوات طويلة للوراء قد تفتح عليه جبهات جديدة.
يرجع نجاح ظاهرة المقاومة في مخيم جنين إلى عدة عوامل، أبرزها قدرة فصائل المقاومة على صَهر هوياتها الحزبية في الإطار الوطني، ويكاد يغيب اللون الحزبي في مخيم جنين، وتعمل خلايا المقاومة، من كل الفصائل، وفق تنسيق وتناغم مشتركَين.
وتشترك كل الفصائل في المخيم، بما فيها حركة “فتح”، في العمل المقاوم، على نحو يتناقض مع رغبة السلطة الفلسطينية التي سعت لتفكيك الخلايا المسلَّحة وفشلت في ذلك، عندما حاولت شنّ عملية شاملة تمَّ تخطيطها لمدة طويلة بهدف القضاء على الخلايا العسكرية لفصائل المقاومة، نظرًا إلى حالة الإجماع الفصائلية والشعبية الناقمة على السلطة وسياستها ومسارها، سياسيًّا ووطنيًّا، وتبنّيها التنسيق الأمني.
وأمام هذه الحالة، فإن الاحتلال يخشى بشكل جدّي وواقعي أن تتحول جنين إلى “غزة 2″، حينما بدأت المقاومة عام 2001 بصناعة صواريخ بدائية كادت في نهاية المطاف أن تصل كل المدن المحتلة.
ويبدو أن العملية العسكرية الحالية لا تستهدف حصار المخيم بدرجة أساسية أو السيطرة عليه، لأن ذلك يعني عودة سنوات طويلة للوراء قد تفتح على الاحتلال جبهات جديدة، فيما يتركز السعي الإسرائيلي لشنّ عملية عسكرية محدودة النطاق لا تتجاوز يومًا أو يومَين على الأكثر.
سيناريوهات.. إلى أين يسير المشهد؟
تفتح هذه العملية العسكرية، التي لم تكن مستبعدة أو مفاجئة بالنسبة إلى كثيرين، في ضوء التسريبات الإسرائيلية المتكررة وحالة التحليق المكثف لطائرات الاحتلال العسكرية والمسيّرات على مدار أكثر من شهر، والتي نجحت المقاومة في أكثر من مناسبة في السيطرة على بعض المسيّرات؛ البابَ أمام التوقع بشأن السيناريوهات المقبلة.
لا يمكن استبعاد أن تتكرر العملية العسكرية الحالية بطريقة مشابهة أو أكثر عنفًا، تسعى من خلالها المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية إلى ضرب البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، ومنع تحولها من الأسلوب الدفاعي إلى الحالة الهجومية التي قد تعرّض المستوطنين والمدن المحتلة للهجمات مستقبلًا.
وبالتالي، قد لا تتجاوز العملية الحالية في نهاية المطاف سقفًا زمنيًّا يتراوح بضع ساعات إلى يومَين على الأكثر، من أجل أن تتمكن القوات الإسرائيلية في المستقبل من تنفيذ عمليات اقتحام واعتقال أخفّ تكلفة من الناحية العسكرية على قواتها وجنودها.
في الوقت ذاته، إن ارتفاع التكلفة البشرية والاعتداءات على جنين قد يدفع إلى سيناريو آخر لا يرغب به رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير حربه يوآف غالانت، يتمثل في دخول غزة على جبهة المواجهة، أو من خلال لبنان كما حصل في رمضان الماضي.
ويسعى نتنياهو لتحقيق نجاحات سياسية وأمنية واضحة، من خلال العملية العسكرية الحالية في جنين، يرفع من خلالها أسهمه المتردية أمام جمهور المستوطنين، في ظل تراجع شعبيته بشكل واضح على خلفية أزمة الإصلاحات القضائية في الاحتلال، وفشل إقرارها وتمريرها.
سيحدد المشهد الميداني خلال الفترة المقبلة بدرجة كبيرة طبيعة الشكل المحدد للمواجهة مع الاحتلال، إذ إن العملية الحالية لن تنهي من الناحية المنطقية والميدانية الكتائبَ المسلحة التابعة للمقاومة الفلسطينية، وهو ما يعني أن المشهد سيكون مفتوحًا على مزيد من الصراع.