كان من المنتظر أن يزور الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون باريس أو أن يصدر بيان رسمي بشأن الزيارة المرتقبة له إلى فرنسا، التي كانت مقررة في النصف الثاني من يونيو/حزيران، إلا أن الرئيس الجزائري حل ضيفًا على نظيره الروسي في زيارة تدوم ثلاثة أيام، بحسب ما أعلنت الرئاسة الجزائرية، ما يعني أن العلاقات مع روسيا ستشهد تطورًا أكبر، فيما ستعرف العلاقات مع فرنسا تدهورًا إضافيًا.
زيارة دولة لروسيا
بعد أيام قليلة من عودته إلى الجزائر قادمًا من البرتغال، توجه الرئيس عبد المجيد تبون إلى روسيا، بدعوة من نظيره فلاديمير بوتين في “إطار تعزيز التعاون بين البلدين الصديقين”، وفق بيان للرئاسة الجزائرية.
ومن المنتظر أن يشرف تبون اليوم على افتتاح أشغال الجولة الثانية من منتدى الأعمال الجزائري-الروسي، ويشارك فيه وفد من رجال الأعمال الجزائريين ومديرو كبرى الشركات الاقتصادية الجزائرية التي تعمل في قطاعات مختلفة، وعدد من رجال الأعمال والشركات الروسية.
يهدف هذا المنتدى إلى تعزيز فرص الشراكة والتعاون والاستثمار من أجل إعطاء دفع قوي للعلاقات الاقتصادية بين البلدين، وكانت الجزائر قد احتضنت قبل نحو أسبوعين الجولة الأولى من المنتدى، وبحث سبل تطوير الشراكات بين الشركات الجزائرية والروسية.
يأمل قادة البلدين أن تُخرج هذه الاتفاقية الجديدة، العلاقات الجزائرية الروسية من مربع التعاون العسكري الذي هيمن عليها منذ الستينيات
تقول الرئاسة الجزائرية إن تبون سيشرف على تدشين ساحة ونصب تذكاري للأمير عبد القادر، ويعد هذا المعلم التذكاري الجديد، الأول من نوعه في روسيا الذي يمجد شخصية إسلامية وعربية، وذلك تقديرًا لإسهامات ودور مؤسس الدولة الجزائرية في نشر قيم التسامح وحوار الأديان ومبادئ الإنسانية.
كما سيزور تبون بعد ذلك كل من مجلس الدوما ومجلس الاتحاد الروسي، كما سيلتقي بممثلين عن أفراد الجالية الوطنية في روسيا، وسيشارك في أشغال المنتدى الاقتصادي الدولي بسان بطرسبورغ الروسية، كما ستكون له أيضًا لقاءات مع مسؤولين روس على رأسهم الرئيس بوتين.
تؤكد هذه الزيارة أهمية العلاقات بين البلدين، إذ تعد الجزائر الحليف التقليدي لروسيا في شمال إفريقيا، ويشكل المجال العسكري عصب العلاقات التاريخية بين البلدين، وكان وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة، قد أعلن أن “الجزائر وروسيا شريكتان مهمتان لبعضهما البعض”.
وثيقة تعاون إستراتيجي مرتقبة
من المتوقع خلال هذه الزيارة أن يوقع تبون مع نظيره بوتين على “وثيقة تعاون إستراتيجي” يجري الإعداد لصياغتها بين الجزائر وموسكو منذ يونيو/حزيران الماضي، وسبق أن أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال زيارة إلى الجزائر في مايو/أيار 2022، أن البلدين باتا مقتنعين، أنه “يتعين التوقيع على اتفاق تعاون إستراتيجي”.
تهدف هذه الخطوة إلى تحقيق تقارب سياسي واقتصادي وعسكري بين البلدين، إذ تعكس هذه الاتفاقية التي جاءت باقتراح جزائري حسب لافروف تحيينًا لاتفاقية عام 2001 التي وقعها بوتين والرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة، الرغبة في الاستجابة للتطور السريع للعلاقات الوثيقة بين البلدين في جميع المجالات.
يأمل قادة البلدين أن تُخرج هذه الاتفاقية الجديدة، العلاقات الجزائرية الروسية من مربع التعاون العسكري الذي هيمن عليها منذ الستينيات، إلى المجالات الاقتصادية والتجارية وقطاعات حيوية أخرى، على غرار الزراعة والسياحة وتكنولوجيا المعلومات وعلوم الفضاء والثقافة.
وترتبط الجزائر وموسكو بعلاقات متينة قائمة وشراكة وثيقة منذ الاستقلال، سواء على المستوى الاقتصادي مع تبادلات تجارية بأكثر من 3 مليارات دولار، أم على المستوى السياسي والإستراتيجي، خاصة أن روسيا أكبر مورد للسلاح لأكبر بلد إفريقي من حيث المساحة.
وتعدّ الجزائر من بين أكبر 4 مشترين للأسلحة الروسية في العالم، وبلغت ذروتها في عقد أسلحة تزيد قيمته على 7 مليارات يورو عام 2021، وتؤمن روسيا أكثر من 80% من معدات الجزائر العسكرية، من طائرات ومدرعات وصواريخ وغيرها.
لا يقتصر التعاون في المجال العسكري على صفقات الأسلحة، ففي سنة 2021، أجريت أول مناورات تكتيكية روسية جزائرية مشتركة في ملعب تارسكوي التدريبي في أوسيتيا الشمالية، وفي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس السنة، أجرت البحرية الروسية والبحرية الجزائرية تدريبات مشتركة في البحر الأبيض المتوسط تزامنًا مع مناورات “بولاريس 21” التي شاركت فيها ست دول أعضاء في حلف الناتو.
دفع الموقف الذي اتخذته الدول الغربية من قضية الصحراء الغربية والدعم غير المشروط للمغرب بالجزائر إلى أحضان الشرق
كما يرتبط البلدان بعلاقات قوية في خصوص ملف الطاقة، حيث تنسق الجزائر مع روسيا في إطار منتدى الدول المصدرة للغاز، وفي اجتماعات الدول المصدرة للنفط “أوبك بلاس”، وتوجد شراكات عديدة بين شركتي “غازبروم” الروسية و”سوناطراك” الجزائرية.
وما يدلل على عمق العلاقات بين البلدين، رفض الدبلوماسيون الجزائريون الانضمام إلى جانب الولايات المتحدة وإدانة موسكو في جلسة الأمم المتحدة المنعقدة في مارس/آذار 2022، في علاقة بالحرب في أوكرانيا رغم التزامهم التاريخي بمبادئ سيادة الدول.
التوجه نحو الشرق
جاءت هذه الزيارة، في وقت تأجلت فيه زيارة مماثلة لتبون إلى فرنسا لموعد لاحق لم يحدّد بعد، وبعد أيام قليلة من قرار السلطات الجزائرية إعادة مقطع من نشيدها الوطني يحمل عبارات تتوعد مستعمرها السابق، فرنسا، بـ”الحساب” بعد أن حذفته قبل عقود.
يذكر النشيد الجزائري في مقطعه الثالث فرنسا، بعبارات تعتبرها أطراف فرنسية حاملة لنبرة العداء والتهديد، وسبق أن طالبت بسحبها في القرن الماضي، ويقول المقطع الذي ألفه الشاعر الجزائري، مفدي زكريا، خلال فترة سجنه إبان الاستعمار الفرنسي: “يا فرنسا قد مضى وقت العتاب وطويناه كما يطوى الكتاب، يا فرنسا إن ذا يوم الحساب، فاستعدي وخذي منا الجواب، إن في ثورتنا فصل الخطاب، وعقدنا العزم أن تحيى الجزائر، فاشهدوا.. فاشهدوا”.
نفهم من هنا وجود محاولات جزائرية للضغط على فرنسا والحصول على امتيازات جديدة، في ظلّ المتغيرات الجيوسياسية التي تعرفها المنطقة، وترى السلطات الجزائرية أن الدول الغربية لم تنصفها ولم تقف إلى جانبها في أبرز قضاياها، على رأسها ملف الصحراء الغربية وجبهة البوليساريو، رغم أنها ساهمت في رفع الخناق عن الأوروبيين في أزمة الطاقة الشتاء الماضي، وزادت من تموينها للدول الأوروبية كإسبانيا وإيطاليا وسلوفينيا وغيرها بحاجياتها من الغاز والطاقة.
منذ بداية الازمة الروسية الأوكرانية رئيسان فقط قاما بزيارة الى #روسيا الرئيس الصيني واليوم الرئيس عبد المجيد تبون #الجزائر pic.twitter.com/i7134sbJlv
— أحمد سكندر 🇩🇿 (@ahmedskndr85) June 13, 2023
يرجع اهتمام الجزائر بإرساء علاقات مع روسيا إلى سنوات طويلة، حيث دفع الموقف الذي اتخذته الدول الغربية من قضية الصحراء الغربية والدعم غير المشروط للمغرب بالجزائر إلى أحضان الشرق، تحديدًا روسيا وبدرجة ثانية الصين.
نفهم ذلك أيضًا من رغبة الجزائر في الانضمام لمجموعة بريكس، وسيكون هذا الملف على طاولة المحادثات بين بوتين وتبون، وسبق لروسيا أن أبدت دعمها لانضمام الجزائر التي تريد دخول هذا التكتل قبل نهاية السنة الحاليّة وفق ما سبق للرئيس الجزائري التصريح به.
ومن المرتقب أن تستثر الجزائر قضية انتخابها للعضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، تزامنًا مع الرئاسة الدورية لروسيا للمجلس نفسه، في دعم موقفها من العديد من الملفات الإقليمية، خاصة أنها تطمح إلى أن يكون لها مكانة إقليمية مهمة.
من الصعب جدًا أن تقف الدول الغربية مكتوفة الأيدي، تجاه هذا التحول الحاصل في الجزائر، الذي سيؤثر على خريطة النفوذ في شمال إفريقيا، لكن كيف لها أن تتحرك خاصة أنها فقدت العديد من نقاط القوة التي كانت تعتمد عليها في السابق لدعم نفوذها في المنطقة.