يذكر البنك الدولي أن النمو الاقتصادي في العالم شهد تباطؤًا حادًّا منذ بداية العام 2023، وأنه وسط الارتفاعات المتتالية لأسعار الفائدة، خصوصًا في الدول الصناعية المتقدمة، فإن اقتصادات الدول النامية تعرضت وستتعرض لضغوط مالية كبيرة، إذ سينخفض النمو العالمي إلى 2.1% خلال العام الجاري مقارنة بنسبة نمو بلغت 3.1% عام 2022، ويتوقع البنك الدولي أن نسبة النمو في الدول ذات الاقتصادات الناشئة أو النامية (باستثناء الصين) ستنخفض من 4.1% عام 2022 إلى 2.9% خلال العام الحالي.
من جهته، يرى جوزيف ليتل، الخبير الاقتصادي في مجموعة HSBC المصرفية العملاقة، أن الاقتصاد الأمريكي سيبدأ في التباطؤ ابتداءً من الربع الرابع هذا العام، لذلك، وفي وسط كل هذه التوقعات المتشائمة، فإن العالم مقبل على ركود اقتصادي خلال العام القادم.
حسب الأدبيات الاقتصادية، يحصل الركود الاقتصادي عندما يتراجع النمو الاقتصادي أو الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لمدة لا تقلّ عن 6 شهور، إذ يُفترض أن ينمو الاقتصاد في الظروف الطبيعية نتيجة لأسباب موضوعية، أولها النمو السكاني والتطور التكنولوجي.
إجراءات اقتصادية تنقصها الحكمة
ترجع نظرة الخبراء التشاؤمية إلى بعض البيانات القادمة من الدول الصناعية الكبرى، والتي تنبئ بحدوث تراجع اقتصادي يبدأ في تلك الدول العظمى، ومن ثم يعمّ العالم أجمع كما حصل في الأزمة الاقتصادية والمالية عام 2008.
تأتي هذه المعطيات بناءً على الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها القوى الكبرى خلال وبعد جائحة كوفيد-19، فقد اتسمت سياساتها بقصر النظر، جراء طباعة وضخّ تريليونات الدولارات في اقتصاداتها، الأمر الذي أدّى بطبيعة الحال إلى تضخم في الأسعار لم تعهده هذه الدول منذ 4 عقود، ثم امتدَّ التضخم -بمعدلات أقل- ليشمل الدول النامية ذات الاقتصادات الناشئة.
قررت البنوك المركزية رفع أسعار الفائدة بشكل متتابع لحل مشكلة التضخم، ففي عام واحد فقط، رفعت حكومات بعض الدول الأسعار أكثر من 10 مرات، محاولةً كبح جماح التضخم، الذي قد يتحقق كنتيجة لانخفاض الإنفاق والاستثمار الناجمين عن أسعار الفائدة المرتفعة، وتبني هكذا إجراءات، بوتيرة متسارعة، قد يمثلان وصفة مختصرة للدخول في الركود القادم المتوقع.
من جانب آخر، تعد أزمة الثقة التي يعيشها النظام المصرفي في العالم من أبرز الأسباب التي جعلت الاقتصاديين يؤكدون على أن الأزمة أو الركود الاقتصادي قادم لا محالة هذا العام، خصوصًا بعد انهيارات متلاحقة لـ 4 بنوك أمريكية، بالإضافة إلى بنك كريديت سويس السويسري.
انتقال الركود من الدول الصناعية إلى الدول النامية
تسيطر الدول الصناعية السبع الكبرى (G7) على أكثر من 40% من حجم الاقتصاد العالمي، فإذا أُضيفت الصين إلى مجموعة السبع فإن هذه الدول الثمانية تشكّل أكثر من 60% من حجم اقتصاد الكوكب، ولذلك إذا تعرضت تلك الدول الصناعية للركود، فإنه سيعصف أيضًا باقتصادات الدول النامية، لأن الاقتصادات الناشئة تستفيد من ازدهار الاقتصادات الصناعية في نموها واستقرار اقتصاداتها، لذلك سنلمس الآثار السلبية عند الركود في بعض الجوانب المهمة لدينا:
– انخفاض استثمارات الشركات في الدول الصناعية الموجهة للدول النامية.
– انخفاض صادرات الدول النامية إلى الدول الصناعية، وهي السوق الأكبر والأهم لمنتجات الدول النامية.
– انخفاض عوائد السياحة بسبب انخفاض أعداد مواطني الدول الصناعية القادمين للسياحة في دولنا النامية.
– تأثر العمالة المهاجرة من الدول النامية إلى الدول الصناعية، بسبب انخفاض دخولهم وتسريح البعض منهم، وبالتالي تناقص تحويلاتهم إلى بلدانهم.
– انخفاض صادرات الدول النامية، ومنها العربية، من النفط ومصادر الطاقة الأخرى الموجهة للدول الصناعية والصين.
ستؤدي هذه الآثار السلبية مجتمعة إلى ارتفاع في معدلات البطالة في الدول الصناعية والدول النامية على حدّ سواء، وهذا أسوأ ما يمكن أن يصاب به الاقتصاد، ذلك أن البطالة المتفشية ستخلق مشاكل واضطرابات كثيرة، سواء اجتماعية أو سياسية.
من جهة أخرى، تعاني الدول النامية وستعاني أكثر ماليًّا، حيث إنها تعتمد أساسًا في تمويل مشاريع التنمية المستدامة لديها على الاقتراض الأجنبي، فإذا ارتفعت كلفة الدين مع ارتفاع أسعار الفائدة عالميًّا، ستواجه الكثير من هذه الدول مشاكل جمّة في الحصول على الاقتراض اللازم لتمويل تلك المشاريع، بسبب انخفاض التصنيف الائتماني لمعظمها، والأمثلة كثيرة حتى في عالمنا العربي، خصوصًا في الفترة الحالية.
كيف نستقبل الركود؟
هناك سلوك للحكومات وسلوك للأفراد، فمن جهة الحكومات يجب عليها تفعيل أدواتها المالية، من خلال التوسع في الإنفاق الحكومي على المشاريع الرأسمالية التي من شأنها التخفيف من حدّة البطالة.
كذلك، وهذا الأهم، على الحكومات التخفيف من العبء الضريبي، خصوصًا لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة وحتى على الأفراد، لأن التخفيضات الضريبية من شأنها أن تُنشط الأسواق والاقتصاد.
وقد تخسر الحكومات بعضًا من إيراداتها الضريبية على المدى القصير، لكن على المدى المتوسط سيرتفع التحصيل الضريبي لديها نتيجة للنشاط والتحفيز الاقتصادي الذي أحدثته تلك الإعفاءات الضريبية، وهو إجراء تمّت تجربته في الكثير من الدول الصناعية، حيث عمدت بعض الحكومات الغربية مثلًا إلى تخفيض ضريبة القيمة المضافة أو ضريبة المبيعات إلى النصف ولمدة قصيرة (3-6 شهور)، وقد كان لذلك نتائج جيدة في تحفيز الاقتصاد، ولنا في الركود الذي ترافقَ مع جائحة كوفيد-19 خير مثال على ذلك.
كذلك مطلوب من الحكومات التوسع في التيسير الكمّي، من حيث تأجيل أقساط القروض وجدولتها، وكذلك تأجيل دفعات الضمان الاجتماعي وتخفيض أسعار الفائدة السائدة في البلاد، أما على صعيد الأفراد، فمن الضروري أن يكون لدى الأسر ما يُسمى بـ “مدخرات الطوارئ”، لمواجهة أي ظروف طارئة مثل فقدان الوظيفة بسبب الركود المتوقع.
بالنسبة إلى المستثمرين، الكبار والمبتدئين، فمن المهم جدًّا عدم الهلع ، خصوصًا مع الانخفاض الكبير المتوقع في أسعار الأسهم في الأسواق المالية المحلية والدولية، فهذا من الآثار الطبيعية للركود، لذا يجب التمسك بالأسهم والأصول عمومًا، وعدم التخلص منها بخسائر، حتى أن الكثيرين، مثل وارين بافيت أيقونة الأسواق المالية، وكذلك روبرت كايوساكي أسطورة الاستثمار العقاري، يستفيدون من انخفاض أسعار الأسهم والأصول في أثناء تعمق الكساد، وذلك عن طريق زيادة الشراء وتعزيز محافظهم الاستثمارية لتحقيق أرباح طائلة عند تعافي الاقتصاد من الركود، والذي فيما عدا الكساد العظيم قبل 100 عام لا يستمر طويلًا.