لم يجد السودانيون، حتى الآن، مشروعًا قوميًّا يمكن أن يُنهي حالة الانقسام التي تضرب بلادهم منذ تحررها عن الاستعمار عام 1956، ليعيشوا جميع سنوات التاريخ الوطني في خضمّ أزمات سياسية لا تنتهي، لكن أكبر أزمة يعيشها السوداني هي الهوية.
وأسهمت أزمة الهوية في هيمنة التفكير القَبَلي الأبوي في الشأن العام، حتى وصل الأمر بمعظم السودانيين إلى بحث العرق الذي ينحدر منه أي شخص يُناقش القضايا العامة بجانب الدين الذي يُدين به، وذلك بدلًا عن التفكير في الخطاب أو البرنامج الذي يُقدمه.
وتتفاقم أزمة الهوية يومًا بعد آخر، بسبب عدم وجود استقرار سياسي يدفع السودانيين إلى حلها، حيث ظلت بلادهم تعيش في دائرة شريرة تتمثل في الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية السلمية والحكم الانتقالي، يُضاف إليها الحروب.
وغذّت أزمة الهوية الحروب التي اندلعت في جنوب السودان قبل انفصاله عام 2011، وفي دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، وهي تغذّي القتال الحاليّ المندلع بين الجيش وقوات الدعم السريع، ما ينذر بحرب أهلية شاملة تقضي على الأخضر واليابس.
متى تصبح الدولة حيادية؟
يقطن في السودان مجموعات سكانية متنوعة عرقيًّا وثقافيًّا ودينيًّا ولغويًّا، بعضها لم يقتنع بالعيش وفقًا لنظام الدولة نتيجة لمحاولات المجموعات الأخرى فرض الثقافة العربية، بما تحتويه من دين وقيم وعادات، مقابل عدم الاهتمام بالثقافة الأفريقية أو جعلها في الهامش.
وأدّى فرض الثقافة العربية ومحاولات ربطها بالمكانة الاجتماعية، بما في ذلك الدراسة باللغة العربية في مدارس الأساس، إلى حرمان الكثيرين من المساواة في التعلُّم باعتبار أنها ليست لغتهم الأمّ، وفي المحصلة النهائية، قاد فرضها إلى التمييز بين السودانيين على أُسُس عرقية، وامتدَّ هذا التمييز إلى العلاقات الاجتماعية والزواج والوظائف.
حاول بعض المثقفين تقديم رؤى لحلّ إشكالية الهوية، تتجاوز تمسُّك المكونات العربية بالهوية العربية، وتشبُّث المجموعات الأفريقية بالثقافة الأفريقية، مثل مدرسة الغابة والصحراء، لكنها لم تستطع فرض رؤاها رغم انتقالها من المجتمع الأكاديمي إلى الصحافة وبالتالي إلى العامة، نتيجة لحالة الاستقطاب الحادة.
وتركز الانتقاد على هذا المدرسة لتمسكها بثنائية تصنيف السودانيين إلى أعراق عربية وأفريقية، دون الالتفاف إلى سودانيتهم التي يمكن أن تجمعهم وفقًا لتعبير رئيس حركة تحرير السودان جون قرنق، بجانب مطالبتها باتخاذ دولة سنار أساسًا لاستقرار البلاد.
الشفيع خضر: هذا السطوع القوي للتنوع والتعدد في السودان، لا يجب أن يعمي نظرنا وبصيرتنا عن رؤية عوامل وحدة المجتمع السوداني، والتي تراكمت داخله عبر القرون والحقب
وبدقّة، دعا قرنق إلى السودانوية، ويمكن تعريفها بقيام عقد اجتماعي وسياسي يقوم على حقائق الواقع التاريخي والمعاصر للدولة السودانية، يكفل الحرية والسلام والعدالة.
حكمت دولة سنار أو السلطنة الزرقاء مناطق واسعة من رقعة السودان الجغرافية في الوقت الحالي، في فترة 1504-1821، وتأسّست نتيجة تحالف قبائل الفونج الأفريقية بقيادة عمارة دنقس وقبائل العبدلاب بقيادة عبد الله جماع.
تركّزت المطالب في السنوات الأخيرة بضرورة ابتعاد الدولة عن فرض دين أو ثقافة معيّنة ليكونا معبّرَين عنها، على أن تعترف بكل الثقافات والأديان بما يُعرَف بإدارة التنوع بحيادية، لضمان كفالة الحرية والعدالة أمام جميع السكان دون تمييز على أي أسُس، بما يُسمّى بالمواطنة.
يعتقد الكاتب الشفيع خضر، في مقال نشره في سبتمبر/ أيلول 2019، أن بداية حل الأزمة السودانية تبدأ بالوعي بأن السودان بلد متنوع ومتعدد، في مستويات التطور الاجتماعي وفي الأعراق والإثنيات والقوميات، وفي الديانات والثقافات والتقاليد واللغات.
ويضيف: “إن التحدي الذي سيظل على الدوام يواجهنا جميعًا إذا ما أردنا التصدي لهذه الأزمة الخانقة في البلاد، وإرساء أُسُس السلام والعدالة والديمقراطية والتنمية والحفاظ على وحدة البلاد وتماسك نسيجها الاجتماعي.. لا يقف عند الوعي، أو الاعتراف بحقيقة التعدد والتنوع في السودان، بل التقدم لصياغة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تترتّب على هذا الاعتراف، وهذا ما نعنيه بإدارة التنوع بنجاح”.
ويشير إلى أن هذا السطوع القوي للتنوع والتعدد في السودان، لا يجب أن يعمي نظرنا وبصيرتنا عن رؤية عوامل وحدة المجتمع السوداني، والتي تراكمت داخله عبر القرون والحقب.
والخلاصة هي أن أزمة الهوية في السودان ظلت معقدة، وتزداد تعقيدًا يومًا عن الآخر في ظل استمرار محاولة فرض الدولة ثقافة معيّنة، ما قاد إلى اندلاع الحروب بسبب فرضها أو تأثير نتائج فرضها.
حروب لا تنتهي
قاد فرض الهوية العربية وسياسة الاستعمار البريطاني التي تُعرَف بالمناطق المقفولة في جنوب السودان، بجانب مخاوف الجنوبيين من الهيمنة الشمالية، إلى اندلاع شرارة التمرد قبل استقلال البلاد ببضعة أشهر.
تركزت سياسة الاستعمار في المناطق المقفولة بمنع دخول الأفراد العرب إلى جنوب السودان إلا بموجب إذن، مع تجاهل تنميته اقتصاديًّا واجتماعيًّا، تاركة مهمة التعليم إلى البعثات التبشيرية المسيحية، قبل أن يتم التخلي عنها عام 1947.
تمردت قوة من الجيش في منطقة توريت عام 1955، لتشكّل أساسًا لحرب عصابات بلا قيادة منظمة حتى عام 1963، ثم تطور الأمر إلى حركة انفصالية سُمّيت بـ”الأنيانيا”، لكنها تشظّت بسبب الخلافات القَبَلية الداخلية، ليؤسِّس على أنقاضها جوزيف لاقو حركة “الأنيانيا 2”.
معظم الحركات في جنوب السودان والنيل الأزرق وجنوب كردفان تحمل السلاح من أجل مطالب عادلة، لكنها سرعان ما تقع في فخّ الانشقاقات بسبب الخلافات القَبَلية.
وقّع نظام الرئيس الراحل، جعفر نميري، اتفاق سلام في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1972، مع زعيم الحركة المتمردة جوزيف لاقو، بموجبه مُنح جنوب السودان حكمًا ذاتيًّا تمثل في هيئة تشريعية وحكومة تنفيذية مستقلتَين، بجانب دمج قوات الأنيانيا في الجيش والشرطة.
قام الرئيس نميري بانتهاك الاتفاق بتقسيم جنوب السودان إداريًّا إلى 3 أقاليم، وفرض أحكام الشريعة الإسلامية في كل البلاد، ما دفع الضابط في الجيش، جون قرنق، إلى التمرد مؤسسًا الحركة الشعبية لتحرير السودان.
استطاع قرنق بعبقريته الفذّة حشد دعم الجنوبيين إلى حركته، ولاحقًا انضمَّ إليه بعض الشماليين أشهرهم ياسر عرمان الذي يتزعّم حاليًّا الحركة الشعبية – التيار الثوري الديمقراطي في السودان.
حاول نظام الرئيس المعزول، عمر البشير، تحويل الحرب التي قادها قرنق ابتداءً من عام 1983 من حرب أهلية تتعلق بمطالب سياسية إلى حرب دينية جهادية استنفر لقتالهم الجهاديين، إضافة إلى الشباب الذين جرى تدريبهم قسريًّا بعد اختطافهم من الأسواق والشوارع فيما عُرف بـ”الكشة”.
وفي عام 2005، وقّع نظام البشير والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاق سلام، بموجبه اُتخذت تدابير لتقاسم السلطة والثروة ووضع دستور انتقالي جديد، كما نصَّ على إجراء استفتاء شعبي بعد 6 سنوات من توقيع الاتفاق لتحديد مصير المنطقة التي اختار سكانها الانفصال باغلبية كاسحة.
حرصت الأنظمة العسكرية على قمع التمرد المسلح عسكريًّا، لكنها عندما تستبين الفشل تنحو إلى التفاوض وتوقيع اتفاقيات سلام.
شارك زعماء من النيل الأزرق وجنوب كردفان في الحرب تحت لواء الحركة الشعبية، وبعد انفصال الجنوب اندلعت الحرب مرة أخرى في المنطقتَين، حيث نجح نظام البشير في استعادة مناطق واسعة من النيل الأزرق، لكن هذا النجاح لم يحالفه في جنوب كردفان.
أسّس عبد العزيز الحلو ومالك عقار وياسر عرمان الحركة الشعبية-شمال، التي اتخذت من كاودا بجنوب كردفان معقلًا لها، قبل أن تدبَّ بينهما الخلافات، لينفرد الحلو بالحركة التي أُسّست في المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة مدنية تدير هذه المناطق تحت حماية الجيش التابع للحركة.
وقبل توقيع اتفاق السلام وإنهاء الحرب في جنوب السودان، اشتعلت حرب أخرى في إقليم دارفور عام 2003، عندما حمل متمردون السلاح بذريعة إهمال الإقليم سياسيًّا واقتصاديًّا، فيما عُرف في الأدبيات السودانية بـ”التهميش”.
حاول الجيش والأمن سحق المتمردين الذين تفرقوا لاحقًا إلى عشرات الحركات، لكنهما فشلا، ما قاد نظام البشير إلى تكوين ميليشيات من أفراد القبائل العربية، أبرز قادتها موسى هلال ومحمد حمدان دقلو “حميدتي”، اللذين حاربا عنه بالوكالة.
ونتيجة لفظاعة العنف في دارفور، نشرت الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي عام 2007 قوات مشتركة، شمل تفويضها استخدام القوة لحماية المدنيين، قبل أن ينهي مجلس الأمن الدولي تفويضها بعد عزل البشير بناءً على تعهُّدات من حكومة الانتقال بتوفير الأمن.
وقّع نظام البشير العديد من اتفاقيات السلام مع حركات دارفور، دون تطبيق فعلي لنصوصها، وعدم التطبيق لازمَ اتفاق السلام الذي أبرمته حكومة الانتقال مع معظم حركات دارفور الفاعلة في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2020.
والملاحظ أن معظم الحركات في جنوب السودان والنيل الأزرق وجنوب كردفان تحمل السلاح من أجل مطالب عادلة، لكنها سرعان ما تقع في فخّ الانشقاقات بسبب الخلافات القَبَلية، كما أنها عندما توقع اتفاق سلام لا تحرص على مصالحٍ تقول إنها حملت السلاح لأجلها، بقدر اهتمام قادتها بتقاسُم السلطة.
حرصت الأنظمة العسكرية على قمع التمرد المسلح عسكريًّا، لكنها عندما تستبين الفشل تنحو إلى التفاوض وتوقيع اتفاقيات سلام.
وأدى نجاح الثورة السلمية في الإطاحة بنظام البشير الذي سيطر على الحياة العامة تمامًا طوال 30 عامًا، إلى التشكيك في جدوى استخدام السلاح وسيلة لنيل الحقوق، وربما هذا ما قاد الحركات الموقّعة على اتفاق السلام إلى المشاركة في انقلاب البرهان.
الدائرة الشريرة.. متى تنتهي؟
قد لا يكون الانقلاب الذي نفّذه الجنرال عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 آخر الانقلابات في السودان، الذي شهد أول انقلاب عام 1958 قاده الجنرال إبراهيم عبود.
نفّذ البرهان انقلابه قبل أقل من شهر من موعد تسليم منصب رئيس مجلس السيادة الذي يتقلده إلى المدنيين، عقب افتعاله أزمة سياسية زائفة مع قوى الحرية والتغيير حول الموقف من انقلاب عسكري فاشل قاده عبد الباقي بكراوي.
استمر الجنرال إبراهيم عبود حاكمًا على السودان حتى أكتوبر/ تشرين الأول 1958، لتطيح به ثورة شعبية سلمية أعقبها حكم انتقالي، نُظّمت بعدها انتخابات برلمانية فاز فيها الصادق المهدي ليصبح رئيسًا للوزراء، لكن قبل أن يكمل ولايته انقلب عليه الجنرال جعفر نميري في 25 مايو/ أيار 1969.
ظلَّ السودان في معظم تاريخه الوطني خاضعًا لحكم العسكر، ما جعله يعيش في أزمة سياسية ممتدة لم يستطع فيها التقاط أنفاسه لحلّ الأزمات الأخرى مثل الهوية والحروب.
ظلَّ نميري رئيسًا للبلاد 16 عامًا، تحولت فيها سياساته من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، لتثور عليه الجماهير في أبريل/ نيسان 1985، ما دعا قادة الجيش إلى عزله مشكلين مجلسًا عسكريًّا ترأّسه الجنرال عبد الرحمن سوار الذهب لمدة عام واحد.
نُظمت انتخابات برلمانية فاز فيها برئاسة الوزراء الصادق المهدي مرة أخرى، وللمرة الثانية قبل أن يُكمل ولايته نفّذ عمر البشير انقلابًا عسكريًّا في 29 يونيو/ حزيران 1989 بتنظيم من الحركة الإسلامية.
إذًا، ظلَّ السودان في معظم تاريخه الوطني خاضعًا لحكم العسكر، ما جعله يعيش في أزمة سياسية ممتدة لم يستطع فيها التقاط أنفاسه لحلّ الأزمات الأخرى، مثل الهوية والحروب.