أعلنت القاهرة وأنقرة عودة العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل، عبر تبادل السفراء بينهما، بعد 10 سنوات من توتر الأجواء إثر تباين وجهات النظر بشأن عدد من الملفات، في خطوة تتوج الجهود المبذولة من البلدين لاستئناف العلاقات وتطبيعها وطي صفحة الخلافات الممتدة على مدار عقد كامل.
وزارة الخارجية المصرية وعلى لسان المتحدث باسمها أعلنت تعيين عمرو الحمامي سفيرًا لها في أنقرة، فيما أعلنت نظيرتها التركية عن اختيار صالح موتلوسن سفيرًا لها في القاهرة، وفي بيان مشترك للوزارتين أفاد بأن رفع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين “جاء تماشيًا مع قرار اتخذه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي”، لافتًا أن تلك الخطوة “تهدف لإعادة تطبيع العلاقات بين البلدين، وتعكس الإرادة المشتركة لتطوير العلاقات الثنائية بما يتماشى مع مصالح الشعبين التركي والمصري”.
الوصول إلى تلك المرحلة كان أمرًا متوقعًا في ظل محاولات التقارب التي شهدتها العلاقات المصرية التركية خلال العامين الماضيين تحديدًا، ساعد على ذلك تشاركهما معًا في قائمة التحديات والأزمات التي عصفت بالبلدين خلال الآونة الأخيرة ودفعتهما نحو إعادة تقييم السياسة الخارجية لكل منهما على أسس برغماتية بحتة بعيدًا عن المواقف الأيديولوجية والسياسية التي عمقت من الفجوة بينهما على مدار العشرية الأخيرة.
بداية جديدة
خطوة استئناف العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل كانت مسألة وقت، في ظل إرهاصات التقارب التي شهدتها السنين الماضية، منذ بدايات 2021 حين ارتأت القاهرة وأنقرة أن الصدام بينهما لن يسفر إلا عن مزيد من تأزم الموقف لدى الجانبين داخليًا وخارجيًا بعدما تغيرت قواعد اللعبة التي فرضتها المستجدات التي شهدتها الساحة الدولية في تلك الفترة.
حاول كلا البلدين مغازلة الآخر بشكل مختلف، يقينًا أن استمرار التناطح سيقود إلى نتائج عكسية، وأن البرغماتية هي الطريق الأسهل نحو طي صفحة الخلافات مهما كانت متخمة بأسطر التوتر وتباين وجهات النظر إزاء بعض الملفات الحساسة، التي يتشابك بعضها في معارك الأمن القومي والمرتكزات الوطنية.
البداية كانت من القاهرة حين حاولت قدر الإمكان مراعاة المصالح التركية في منطقة شرق المتوسط، إذ رفضت الرضوخ للشروط الفرنسية اليونانية في اتفاق ترسيم الحدود الموقع بين الدول الثلاثة في أثينا 2020، هذا بخلاف رفض الانضمام إلى المنتدى الرباعي (الإمارات – قبرص – “إسرائيل” – اليونان) الذي أعلنت عنه حكومة الاحتلال الإسرائيلي في أبريل/نيسان 2021 والرامي إلى السيطرة على ثروات المتوسط بعيدًا عن أنقرة.
قوبلت تلك المبادرات بترحيب من أنقرة التي حاولت قدر الإمكان طمأنة القاهرة فيما يتعلق بنشاط المعارضة المصرية المقيمة في تركيا، هذا بجانب تقريب وجهات النظر في الملف الليبي، وفتح قنوات اتصال رسمية في الملف الفلسطيني، إضافة إلى تخفيف حدة الخطاب الهجومي في الإعلام الرسمي للبلدين.
حرص البلدان أيضًا على إبقاء المسار الاقتصادي مستمرًا رغم الخلافات، فبينما كانت منصات الإعلام الرسمي والخاص في الدولتين تستهدف نظامي الحكم هنا وهناك، وصل التبادل التجاري بينهما إلى مستويات قياسية، حيث ارتفعت الصادرات المصرية لتركيا من 1.7 مليار دولار عام 2020 إلى 2.9 مليار دولار في 2021، وفي المقابل زاد حجم الواردات المصرية من المنتجات التركية بنسبة 13% في نفس الفترة، فيما قفزت معدلات التبادل التجاري بين البلدين بنسب تجاوزت 33% وفق الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي المصري للمحاسبات.
استجابة للتحديات
لا يمكن قراءة استئناف العلاقات الدبلوماسية بين القاهرة وأنقرة بمعزل عن التحديات التي شهدتها المنطقة وفرضت على البلدين إعادة تموضع بما يتلاءم والمرحلة الجديدة، حيث تعرضت خريطة التحالفات الشرق أوسطية والعالمية بصفة عامة لهزات أعادت تشكيلها بصورة جذرية.
كانت الضربة الأولى من واشنطن، حين أعلنت إدارة الرئيس جو بايدن تقليص حضورها في المنطقة، والانتصار لمبدأ “أمريكا أولًا” على حساب الأمن العربي والإقليمي، وهو الأمر الذي ترتب عليه تعزيز النفوذ الإسرائيلي في المنطقة، وترك الساحة فارغة للقوى الأخرى وعلى رأسها الصين وروسيا.
سبقها جائحة كورونا التي ألقت بظلالها القاتمة على المشهد الاقتصادي ككل، وفاقمت من الوضع المتدني في البلدان التي تعاني في الأساس من أوضاع اقتصادية متدنية، كمصر وتركيا، وهو ما انعكس على الساحة الداخلية لدى البلدين، الأمر الذي دفعهما لإعادة النظر في الملفات كافة في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 لتزيد من تأزم الوضع الاقتصادي والأمني، وتشتعل معها أزمة الطاقة العالمية وتهديدات الأمن الغذائي، كل ذلك دفع بعض العواصم الإقليمية للعودة خطوة للوراء لإعادة تقييم المشهد، فتخلت الرياض عن خصومتها مع أنقرة، وفتحت كذلك قنوات اتصال مع خصمها الإقليمي اللدود، طهران، بجانب طي صفحة الأزمة الخليجية مع الدوحة.
النهج ذاته سلكته القاهرة وأنقرة، فارتأت سلطتا البلدين أن تصفير الأزمات وتجفيف منابع الخصومة مع الجيران ودول المنطقة هو اللجام الأكثر قوة للتصدي للتحديات الراهنة، فتخلت القاهرة عن تعنتها في بعض التوجهات، وكذلك أنقرة، بعدما بات النظامان هنا وهناك عرضة لمزيد من الاحتقان بعدما وصلت الأوضاع الاقتصادية لمستويات غير مسبوقة.
الغاية المنشودة
بعيدًا عن المحفزات السياسية والأمنية التي فرضتها التحديات الناجمة عن المستجدات الإقليمية والدولية، فإن الاقتصاد كان الدافع الأبرز في تطبيع العلاقات بشكلها الحاليّ، حيث تتشارك الدولتان في الأزمة الاقتصادية الخانقة، من حيث انهيار تاريخي للعملة الوطنية، وارتفاع جنوني في مستويات التضخم والبطالة، وعجز نقدي ومالي هائل، نتيجة جزءية لسياسات اقتصادية ثبت فشلها.
لعبت تلك الأوضاع المنهارة دورًا مؤثرًا في تعزيز رقعة المعارضة وزيادة منسوب الاحتقان والغضب الشعبي، بسبب فقد الكثير من المواطنين القدرة على الحياة الكريمة، الأمر الذي كان له انعكاسات واضحة على جماهيرية وشعبية النظامين، ورغم نجاح الرئيس التركي في الانتخابات الأخيرة وقدرة نظام السيسي على إفشال أي حراك معارضي، إلا أن النار لم تزل تحت الرماد في ظل الإحصائيات المقلقة والأوضاع المعيشية القاسية.
بناءً على هذا الوضع، كان من الضروري البحث عن منافذ إنقاذ عاجلة، وأبواب تستدعي الطرق بأقصى سرعة، بعيدًا عن أي اعتبارات سياسية أخرى، وهو ما دفع البلدين إلى غض الطرف عن مسببات التوتر والبحث عن أرضية مشتركة تحسن بها كل بلد وضعها الاقتصادي ومن ثم ترتقي بمستوى شعبها المعيشي بما يخفف من حدة الاحتقان ويساعد على فرض الأمن والاستقرار الداخلي.
توضح هذه المعطيات مصالح البلدين في عودة العلاقات حتى لو من باب الاقتصاد كخطوة أولية، حيث زاد حجم الصادرات بينهما، من 3 مليارات دولار عام 2013 إلى 9.7 مليار دولار عام 2022، بنحو 50% لكل طرف، حسبما أشار نائب رئيس مجلس الأعمال المصري التركي حمادة العجواني، الذي ألمح إلى طفرة اقتصادية متوقعة بعد استئناف العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل.
#العلاقات_التركية_المصرية
الخطوة التالية المتوقعة عقب رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي بين تركيا ومصر إلى تبادل السفراء وتسمية اسمي السفيرين في أنقرة والقاهرة، هو تبادل الزيارات بين رئيسي البلدين، والذي من المتوقع أن يتم قبل نهاية هذا العام.
أكثر الدول تضررا من هذا التقارب بدرجات… pic.twitter.com/sVManPkWPk— سمير العَركي (@s_alaraki) July 4, 2023
من المتوقع خلال الفترة المقبلة زيادة وتيرة وحجم ومستوى الزيارات المتبادلة بين وفود المستثمرين المصريين والأتراك لبحث سبل تعزيز التعاون في ظل ما يمتلكه البلدان من فرص استثمارية واعدة كونهما ضمن أكبر الأسواق في المنطقة العربية والشرق أوسطية، البداية ستكون الشهر الحاليّ حين يزور وفد من رجال أعمال أتراك القاهرة لمناقشة الفرص الاستثمارية الجديدة وفق رئيس جمعية رجال الأعمال المصريين الأتراك نهاد أكينجي.
ربما تشهد الأيام القادمة زيارة قريبة للسيسي إلى أنقرة، أو أخرى لأردوغان إلى القاهرة، زيارة ستقرأها وسائل الإعلام على أنها إعلان رسمي لطي صفحة الخلافات وبداية مرحلة جديدة من العلاقات الدبلوماسية، لكن الأمور في السياسة لا تكون بهذا الشكل في الغالب في ظل الرواسب العالقة بين الدولتين التي من الصعب إذابتها بتلك السرعة.
خطوة يراها البعض إستراتيجية وملحة في ضوء ثقل البلدين وقدرتهما على الصمود في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية التي فرضت نفسها على الساحة مؤخرًا، لكن آخرين كانوا أكثر تشاؤمًا بشأن صمودها وثباتها في معركة النفوذ المتباينة بين الدولتين، لتبقى المرحلة القادمة هي الاختبار الحقيقي لهذا التطبيع ومدى رسوخ أقدامه في مقابل العواصف المحتملة.