في شرق آسيا، تنشط “إسرائيل” في علاقاتها الاقتصادية القوية مع دول تلك المناطق، وتمارس دبلوماسية خاصة تجمع فيها تبادلات مادية وعسكرية، تسعى فيها لدعم اعترافها كـ”دولة لها حق في الأرض”، مستغلة غياب الدبلوماسية الرسمية الفلسطينية وتطبيع الدول العربية، حتى أصبح الاحتلال الإسرائيلي على رأس قائمة أكثر الدول في التبادل التجاري في الشرق، وتأتي من ورائه دولتان هما عرّابتَي اتفاقاته الحديثة: الولايات الأمريكية المتحدة والإمارات.
مؤخرًا، أعلن الاحتلال عن توقيع اتفاقية مع الحكومة الهندية لاستقدام 10 آلاف عامل هندي للعمل في الداخل المحتل في ورش البناء ورعاية المسنين، وسيتم استقدامهم على مرحلتَين، نصفهم خلال عام واحد، والنصف الآخر لاحقًا، وذلك ضمن سلسلة اتفاقيات بين الطرفَين تسمح بوصول 42 ألف عامل هندي إلى “إسرائيل”.
تأتي اتفاقية استقدام العمالة ضمن تعاون مستمر بين الهند والاحتلال الإسرائيلي وتبادل تجاري ضخم، إذ تعتبَر الهند ثالث أكبر شريك تجاري آسيوي لـ”إسرائيل” منذ عام 2014، وعاشر أكبر شريك تجاري بشكل عامّ، كما أن حجم تجارتهما البينية بلغ 5 مليارات دولار، مقارنة بـ 200 مليون دولار فقط لدى استئناف علاقاتهما الدبلوماسية عام 1992.
الإمارات عرّابة اتفاقية I2U2
بقيت نيودلهي حتى عام 1992 في الحلف المعادي للاحتلال الإسرائيلي، تتجنّب أي اعتراف بكيان الاحتلال للحفاظ على علاقتها القوية مع الدول العربية، لا سيما أن الساحة العربية كانت قبلة للعمال الهنود.
إلا أنه وبعد اتخاذ العرب خطوات نحو التطبيع وتوقيع اتفاقيات السلام مع الاحتلال الإسرائيلي من جهة، ومن جهة أخرى بدأت بوادر اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” بالظهور، ونية المنظمة الاعتراف بـ”إسرائيل” على أراضي عام 1948، لم تجد نيودلهي أي رادع من إقامة علاقات ثنائية مع تل أبيب.
وبدأت العلاقات الهندية الإسرائيلية تتحول رويدًا رويدًا إلى تحالف تجمعه رغبة مشتركة في “تكوين دول لها طابع عرقي قومي ومواجهة الحركات والقوى الإسلامية”، فأصبحت “إسرائيل” ثاني أكبر مورد للأسلحة للهند، وتوفر حلول الأمن السيبراني لتأمين بنية الهند التحتية الحيوية، كما تقوم بتدريب القوات الخاصة الهندية على “مكافحة الإرهاب”.
في الوقت ذاته، بدأت روابط العلاقة بين الهند ودول الخليج تتخذ مسارًا أكثر عمقًا، وضمّت الإمارات الهند إلى معسكرها ضمن توافق استراتيجي بين نيودلهي وأبوظبي، يتمحور حول مكافحة الحركات الإسلامية، والدفاع عن سيادة الدولة، وصدّ التأثير المتزايد للنظام الإسلامي الذي تقوده تركيا.
حديثًا، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أعلنت مجموعة من مجالس الأعمال الثنائية عن مبادرة جديدة لترويج اتفاقية تعاونية بين كيان الاحتلال والهند والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، عُرفت باسم اتفاقية I2U2، وتشكّل قواعد منتدى حكومي للتعاون الاقتصادي بين الكيانات الأربعة.
وفي يوليو/ تموز 2022، اجتمع الرئيس الأمريكي جو بايدن، ورئيس وزراء الاحتلال آنذاك يائير لابيد، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، والرئيس الإماراتي محمد بن زايد في اجتماع افتراضي لاتفاقية I2U2.
وجرى الاتفاق على إنشاء ممر غذائي تدعمه “إسرائيل” بين الإمارات والهند لمعالجة نقص القمح بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، كما قدم الاحتلال الإسرائيلي والإمارات 300 مليون دولار لتمويل مشاريع الطاقة النظيفة في الهند.
العمالة الأجنبية في “إسرائيل”
ليست الهند وحدها التي ترسل بعمّالها إلى الاحتلال الإسرائيلي للعمل في ورش البناء ودور المسنين وغيرها، بل يتخذ الاحتلال الإسرائيلي استراتيجية استقدام العمال الأجانب لقلة ثمن الأيدي العاملة، ومن ناحية أهم للأبعاد الأمنية من وجود عمال فلسطينيين، والخوف من العمليات الفدائية.
وخلال الفترة 1980-2000، استقدم الاحتلال الإسرائيلي نحو 200 ألف عامل أجنبي من دول فقيرة، مثل كولومبيا ورومانيا وغانا والصين وتايلاند، إضافة إلى عمال قدموا كمهاجرين غير شرعيين كما يسميهم الاحتلال من سيراليون وليبيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأثيوبيا وإريتريا ودارفور في جنوب السودان.
وفي عام 2017، وقّعت الصين و”إسرائيل” اتفاقية يجري بموجبها استقدام 20 ألف عامل بناء من الصين للعمل في الأراضي المحتلة، كما يتحدث الإعلام العبري حاليًّا عن عودة اتفاقيات استقدام العمال الصينيين إلى الواجهة بعد انحسار وباء كورونا.
ونقل موقع “واللا” العبري في أواخر مايو/ أيار 2023، أن وفدًا وزاريًّا لدى الاحتلال زار الصين لمدة أسبوعَين، بهدف توظيف المزيد من العمال الصينيين في صناعة البناء، ونُظّمت اختبارات التوظيف لحوالي 5 آلاف عامل صيني.
ليست دول الشرق آسيوية والدول الفقيرة فقط هي محطّ أنظار الاحتلال الإسرائيلي، بل حتى الدول العربية والإسلامية، إذ كشف مكتب الاتصال الإسرائيلي في العاصمة المغربية الرباط في يونيو/ حزيران 2022، عن “استمرار تل أبيب تواصلها مع المغرب لإعداد اتفاقية تقضي باستقدام عمّال مغاربة للعمل في السوق الإسرائيلية”، وذلك خلال زيارة وزيرة الداخلية آنذاك أياليت شاكيد، واجتماعها مع نظيرها المغربي عبد الوافي لفتيت، ولم يتم التوصل إلى اتفاق رسمي حتى اللحظة.
العمال الفلسطينيون في الداخل المحتل
مع بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، بدأ الاحتلال يخشى من العمال الفلسطينيين في الداخل المحتل، ويتخوف من العمليات الفدائية التي يمكن أن ينفّذها العمال في قلب كيانه، فبدأ بتقليص عدد أذونات العمل الممنوحة للعمال الفلسطينيين عام 1990.
وفي حين كان العمال الفلسطينيون يشكّلون 4.5% من اليد العاملة في “إسرائيل”، وكان العمال الأجانب يشكّلون 16%، هبطت نسبة العمال الفلسطينيين عام 2000 إلى 3.3%، بينما ارتفعت نسبة العمال الأجانب إلى 8.7%.
وبينما يركز استقدام الاحتلال للعمال على مجال البناء، تشير البيانات عام 2023 إلى أن نحو 80 ألف عامل فلسطيني من الضفة الغربية، ونحو 23 ألفًا و400 عامل أجنبي يعملون في عمليات البناء في الداخل المحتل.
ووفق بيانات جهاز الإحصاء المركزي، يبلغ عدد العمال الفلسطينيين نحو مليون و133 ألف عامل، 940 ألفًا منهم يعملون في الضفة الغربية وقطاع غزة، مع نسبة بطالة في صفوف الفلسطينيين تبلغ الربع تقريبًا من نسبة القادرين على العمل، و193 ألف عامل في الداخل الفلسطيني المحتل والمستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة عام 1967.
ويستخدم الاحتلال ورقة العمل في الأراضي المحتلة كوسيلة ضغط سياسي واجتماعي واقتصادي على الفلسطينيين، إذ لسنوات حُرمَ سكان القطاع من العمل في الأراضي المحتلة، وتحديدًا منذ عام 2000 مع اندلاع شرارة انتفاضة الأقصى، حيث كان يعمل قرابة 100 ألف فلسطيني من غزة داخل الخط الأخضر، فيما أعيدت تصاريح العمل عام 2021 بعدد لم يتجاوز 20 ألفًا.
يسعى الاحتلال الإسرائيلي من خلال استقدامه العمال الأجانب من الهند والصين وغيرهما إلى تحسين بنيته التحتية المقامة على المجازر التي ارتكبها بحقّ الفلسطينيين، ضمن استراتيجية مستمرة في التطبيع مع دول العالم لانتزاع الاعتراف بوجوده كدولة مستقلة، وككلّ اتفاقيات التطبيع الأخيرة، تكون الإمارات عرّابتها الأولى.