يبدأ المزارع أبو جمعة الجبريني، مع بداية شهر يونيو/ حزيران من كل عام، حصاد محصول القمح البعلي، بينما يتأخر نضج محصول القمح في الأراضي الزراعية المروية حتى منتصف الشهر، ذلك عقب الانتهاء من حصاد محصول الشعير الذي ينضج قبل كليهما خلال الأيام الأخيرة من شهر مايو/ أيار.
ويتوقع الجبريني، الذي ينحدر من بلدة جبرين ويعمل في مشروعه الزراعي قرب بلدة دابق، إنتاجًا وفيرًا لمحصول القمح المروي، حيث يعتمد على نوعَين من الزراعة البعلية والمروية في أماكن متفرقة، بغية توسيع مشروعه الزراعي وتنويع طرق الزراعة.
وتوسعت زراعة محصول القمح خلال الموسم الزراعي الحالي مقارنة مع المواسم الزراعية الماضية، التي اعتمد فيها المزارعون على زراعة الحبوب العطرية والبقوليات التي كانت تشهد إنتاجًا وأسعارًا جيدة من خلال تسويقها خلافًا لمحصول القمح، ما ساهم في انحسار المساحات المزروعة بمحصولَي القمح والشعير.
حسن الحسن، مدير زراعة حلب، قال لـ”نون بوست” إن “مديرية الزراعة عملت على تشجيع المزارعين على زراعة القمح وتوفير دعم زراعي، بتمويل من صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا (SRTF)، لـ 2000 مزارع في ريف حلب، بإشراف مؤسسة إكثار البذار، والذي يهدف إلى زارعة 4 آلاف هكتار من القمح المروي”.
وأضاف: “إن مساحة الأراضي المزروعة بالقمح خلال العام الحالي بلغت 37 ألفًا و338 هكتارًا، في حين بلغت مساحة الأراضي المزروعة خلال الموسم الزراعي الماضي 24 ألفًا و400 هكتار، بزيادة تقدَّر بـ 13 ألف هكتار في منطقة ريفَي حلب الشمالي والشرقي”.
وأوضح أن مؤسسة إكثار البذار أمّنت 1000 طن من القمح المعقم والمغربل المخصص للزراعة، و800 طن من السماد الربعي المركب، حيث حصل كل مزارع على 500 كيلوغرام من بذور القمح و400 كيلوغرام من السماد المركّب لزراعة هكتارَين من القمح.
وحددت وزارة المالية والاقتصاد في الحكومة السورية المؤقتة تسعيرة طن القمح القاسي بـ 330 دولارًا للدرجة الأولى، بينما حددت سعر طن القمح الطري بـ 285 دولارًا للدرجة الأولى، ومن المفترض أن تشتري المؤسسة العامة الحبوب من المزارعين في مراكز الحبوب بمدن وبلدات أعزاز ومارع وعين البيضا في جرابلس والغندورة وبزاعة.
ويشكو مزارعو محصولَي القمح والشعير انخفاض أسعارهما في الأسواق المحلية (السوق السوداء)، كونها لا تغطي تكاليف الزراعة البعلية والمروية، حيث يبلغ سعر الطن من القمح 300 دولار، بينما يبلغ سعر طن الشعير من النوع الأول 250 دولارًا.
كلفة زراعة هكتار قمح بعلي
زرع عبد الغني الحسين أرضه الزراعية محيط مدينة مارع، البالغة مساحتها هكتار، بمحصول القمح، معتمدًا على ريّ مياه الأمطار الشتوية في مطلع ديسمبر/ كانون الثاني 2022، الوقت المخصص للزراعة في مناطق ريفَي حلب الشمالي والشرقي، بتكاليف مالية مرهقة.
وقال لـ”نون بوست”: “إن الكلفة المالية لحراثة الأرض وأجور البذّارة تبلغ 35 دولارًا، بينما تستهلك زراعة هكتار 250 كيلوغرامًا من القمح المغربل والمعقم المعدّ للبذار بقيمة تصل إلى 112.5 دولارًا، ووفقًا لسعر الطن خلال فترة الزارعة 450 دولارًا”.
وأضاف: “يستهلك هكتار القمح 100 كيلوغرام من السماد الشتوي ثمنها 46 دولارًا، كما يحتاج إلى 100 كيلوغرام من السماد الربعي البالغة قيمته 66 دولارًا”، كما وضع لأرضه الزراعية مبيدات أعشاب ومبيدات حشرية بكلفة مالية إجمالية بلغت نحو 80 دولارًا منتصف فصل الربيع، بعدما انتشرت الأعشاب والحشرات الضارة في الحقل الزراعي.
ويستخدم المزارعون السماد الشتوي (اليوريا) بعد مرور أسبوعَين من وضع البذور في التربة، ويحتوي على نسبة من النتروجين المسؤول عن كثافة العنصر الخضري للنبات، بينما السماد الربعي (المركّب) عبارة عن خليط بين النتروجين والبوتاسيوم والفوسفور، يحمل الصيغة (NPK).
وبعد وصول محصول القمح مرحلة الحصاد مع بداية يونيو/ حزيران، بحث الرجل عن حصّادة قمح في المنطقة حيث بلغ إيجار حصاد هكتار واحد من القمح 70 دولارًا، متضمنًا فرم بقايا الساق والأوراق وتحويلها إلى “تبن” مخصص لعلف المواشي، فيما يضاف إلى تكاليف الزراعة ثمن الأكياس ونقلها إلى مستودعات التخزين بقيمة 20 دولارًا.
وينتج هكتار القمح البعلي في مناطق ريف حلب 2 طن من القمح كحدّ وسطي، فيما يبلغ سعر طن القمح في الأسواق المحلية 300 دولار، وفي المؤسسات المؤقتة 330 دولارًا للطن من الدرجة الأولى، كما ينتج طن واحد من التبن بقيمة 1000 ليرة تركية (42.5 دولارًا حسب سعر الصرف 23.5 ليرة تركية لكل دولار).
ووضع المزارع كلفة إجمالية لزراعة هكتار من القمح البعلي منذ مرحلة البذور حتى مرحلة البيع 433 دولارًا، وبعد مضيّ أيام احتاج إلى سداد ديونه الزراعية المتراكمة عليه، ما دفعه إلى عرض محصول القمح على تجّار الحبوب في السوق المحلية، إلا أنهم دفعوا له 300 دولار للطن الواحد.
وأوضح أنه قرر عدم بيع المحصول، وينتظر افتتاح مركز الحبوب في المدينة متأمّلًا في دفع سعر أفضل من السوق السوداء بعدما يتم الكشف عن جودة المحصول، مشيرًا إلى أن الإنتاج الكلي في حال دفع 320 دولارًا في طن القمح و70 دولارًا في إنتاج التبن مع ضمان الأرض للرعي، فإن إنتاجه الكلي سيبلغ 700 دولار أمريكي، وبذلك يحصل على هامش ربح 310 دولارات.
إيجارات الأرض توقع المزارع في محنة
ربما يحصل بعض المزارعين الذين يزرعون أراضيهم الزراعية على هامش من الربح، لكن نسبة كبيرة من الفلاحين تعتمد على الإيجار، ومن بينهم مصطفى عبد الحي الذي يعمل مزارعًا دون امتلاكه قطعة أرض واحدة، ما يدفعه إلى استئجار أراضٍ زراعية بمساحات مختلفة، في حين تبلغ تكلفة إيجار الهكتار 500 دولار أمريكي.
وقال المزارع خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن الكلفة الإجمالية لزراعة هكتار من القمح تتراوح بين 433 و450 دولارًا، لكن عندما يضاف إليها أجور الأرض ترتفع الكلفة الكلية للزراعة إلى 933 دولارًا، وبالكاد ينتج الهكتار المزروع من القمح 700 دولار أمريكي لكل المحاصيل، هنا يكون المزارع وصل مرحلة الخسارة”.
وأوضح أن معظم المزارعين الذين يستأجرون الأراضي ويعتمدون على الزراعة البعلية، خسروا نتيجة الإنتاج القليل وانخفاض سعر القمح في السوق السوداء ومراكز الحبوب، مشيرًا إلى أن التسعيرة المؤقتة لا تغطي الكلفة الزراعية لأرض الإيجار.
بدوره قال حسان المحمد، مدير مؤسسة العامة للحبوب، لـ”نون بوست” إن “السعر الحالي قد لا يناسب بعض المزارعين، بسبب التكاليف الإضافية كالإيجار والري، ونسبة الهطول المطري ونوع التربة في الأرض الزراعية، والسعر المحدد بشكل وسطي يراعي كافة الجوانب من قبل لجان عملت على دراسة الكلفة الإنتاجية لطن القمح”.
الزراعة المروية.. كلفة مالية وإنتاج وفير
انخفضت المساحات الزراعية المروية تزامنًا مع انخفاض نسبة المياه الجوفية الناتج عن حفر الآبار من قبل المزارعين بشكل عشوائي في مناطق ريفَي حلب الشمالي والشرقي، ما أدّى إلى انزياح المياه، والذي انعكس سلبًا على القطاع الزراعي.
ويعتمد المزارع أبو جمعة الجبريني على ري القمح 3 ريّات خلال دورته الزراعية بشكل وسطي، ويستخدم محرّكَين لضخّ المياه، الأول مسؤول عن ضخّ المياه من البئر إلى البركة، والثاني مسؤول عن ضخّ مياه البركة إلى شبكات الري، ويستهلكان في الساعة الواحد 25 ليترًا من المازوت.
وقال لـ”نون بوست” إن “الريّة الواحدة تستهلك 250 ليترًا من المازوت، وإجمالي استهلاك 3 ريّات 750 ليترًا، وكان سعر برميل المازوت سعة 220 ليترًا في فصل الشتاء 115 دولارًا، ما يعني أن كلفة المازوت وتبديل زيت المحركات وأجور العمّال وكلفة الري تصل إلى 500 دولار”.
وأضاف: “إن أرضي الزراعية المروية أنتجت 4 أطنان من القمح، وفي حال بعتها بخصم محدود بسعر 320 دولارًا لكل طن، فإن ثمنها يبلغ 1280 دولارًا، إضافة إلى إنتاج التبن وضمان الأرض يصبح الناتج الإجمالي 1360 دولارًا، ويكون هامش ربحي منها 860 دولارًا، لكن في حال كانت الأرض إيجار يعني انخفاض هامش الربح إلى 360 دولارًا”.
وأوضح أن أسعار القمح الصادرة عن مؤسسة الحبوب غير مدروسة بالشكل الصحيح، ولا تمنح المزارع هامش ربح جيد، لأن المزارع يتابع الأرض طوال دورة الزراعة، لذلك لا يعدّ رابحًا بعد انتظار دورة موسمية كاملة حتى تنتج الأرض، مشيرًا إلى أن المزارعين سيمتنعون عن زراعة القمح بسبب انخفاض قيمته هذا العام.
وكانت المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب في وزارة الزراعة في حكومة الإنقاذ بمحافظة إدلب، قد حددت تسعيرة طن القمح من الدرجة الأولى بـ 320 دولارًا، بينما حددت الإدارة الذاتية التابعة لـ”قسد”، التي تسيطر على شمال وشرق سوريا، تسعيرة شراء طن القمح من المزارعين بـ 430 دولارًا، في حين حددت سعر طن الشعير بـ 350 دولارًا، بينما حددت المؤسسة العامة للحبوب التابعة للنظام السوري طن القمح بـ 2 مليون و300 ألف ليرة سورية (260 دولارًا)، بينما طن الشعير بـ 2 مليون ليرة سورية (225 دولارًا).
ويستنكر معظم المزارعين أسعار القمح رغم تغطية الإنتاج لتكاليف الزراعة وصولًا إلى مرحلة الري في بعض المواقع، نظرًا إلى جودة التربة ومعدّلات الهطل المطري وغيرها.
كما أن مشكلة القطاع الزراعي لا يمكن حصرها في نوع واحد من المحاصيل الزراعية، لأنها مترابطة فيما بينها، حيث يضطر المزارعين إلى زراعة مختلف المحاصيل للحصول على إنتاجية متوازنة تغطي المحاصيل غير الناجحة، في ظل عدم استقرار الأسواق وسط صعوبة التسويق والتخزين.