لا يتوقف الاحتلال الإسرائيلي عن محاولات السيطرة بشكل كامل على الضفة الغربية المحتلة التي يطلق عليها إسرائيليًّا مسمّى “يهودا والسامرة”، وهو مسمّى ديني يطلقه اليهود على الضفة، لا سيما الجماعات اليمينية الدينية والمتطرفين منهم على وجه الخصوص.
وتعكس الإجراءات المتسارعة، سواء مخططات الضمّ والمشاريع الاستيطانية، وإعادة بناء بعض ما تمّ إخلاؤه كمغتصبة “حومش” التي تمّ تفككيها خلال الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، إلى جانب مخطط E1؛ التفكير الإسرائيلي في ضمّ الضفة وتحويل السلطة إلى ما يشبه الإدارة المدنية الصغيرة.
ومؤخرًا، صادقت اللجنة الوزارية لشؤون التشريع الإسرائيلية على تعديل مشروع قانون يسمح بتحصيل غرامات من الفلسطينيين بالضفة الغربية، وهو ما يعني أن تقوم مراكز تحصيل الغرامات في الضفة التابعة للاحتلال بتحصيلها وتحويلها إلى ميزانية الحكومة الإسرائيلية.
أمام ما يجري لا يمكن الشك أن الإسرائيليين يشقون طريقهم منذ عقود باتجاه ضم الضفة الغربية، وإن كان ذلك بطريقة غير معلنة.
اللافت أن هذا القانون سيحال رسميًّا للتصويت على جميع بنوده خلال الفترة المقبلة، ما يعني منح صلاحيات رسمية على للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، بطريقة تجعل من السلطة مجرد مسيّر للحياة اليومية للفلسطينيين، إلى جانب مشروع قانون آخر يتعلق بفرض عقوبات بالسجن على أي موظف في السلطة الفلسطينية، يقوم بأي نشاطات لصالح السلطة في مناطق محددة أنها إسرائيلية، ومنها شرقي القدس.
وأخذَ التعامل مع الضفة الغربية طابعًا مغايرًا إلى حد ما، منذ أن فازت أحزاب اليمين المتطرف بغالبية برلمانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، إذ سرعان ما عدّلت قوانين الأساس الحكومية التي تعتبر أشبه بدستور إجمالًا، بشكل يتيح للحكومة أن تعيّن وزيرًا جديدًا خاصًّا ضمن إطار وزارة الحرب.
وفي فبراير/ شباط 2023، اتفقت حكومة الائتلاف القومية المتطرفة على واجبات الوزير الجديد: سيتسلم بعض السلطات المدنية الناظمة لأوجُه الحياة في الضفة الغربية، بعد أن كانت في السابق من اختصاص جيش الاحتلال الإسرائيلي حصرًا، وهو ما فُسِّر على أنه تغيير إداري بمثابة إعلان لبسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
وأمام ما يجري لا يمكن الشك أن الإسرائيليين يشقون طريقهم منذ عقود باتجاه ضم الضفة الغربية، وإن كان ذلك بطريقة غير معلنة، فمن الناحية الأولى أرسى الاحتلال أُسُس نظامَين قضائيَّين منفصلَين وغير متساويين في المنطقة، فوضعت الفلسطينيين (ونظريًّا كل الأراضي المحتلة) تحت القانون العسكري، في محاولة لتصوير السيطرة الإسرائيلية على أنها مؤقتة، وفي الوقت نفسه تعاظم اعتماد “إسرائيل” القوانين المدنية على المستوطنين من أجل استقطاب عدد أكبر منهم، والتشجيع على حياة “طبيعية” وترسيخ وجود “إسرائيل” في الأراضي المحتلة.
ما هو قانون “جباية الغرامات المالية”؟
في 11 يونيو/ حزيران 2023، أقرت اللجنة الوزارية لشؤون التشريع في الحكومة الإسرائيلية مشروع قانون يمنحها صلاحية جباية الغرامات المالية التي تفرضها المحاكم العسكرية على الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويستهدف القانون أيضًا الأسرى الفلسطينيين الذين تفرض عليهم غرامات مالية إضافة إلى الأحكام، ومخالفات المرور والبناء وغيرها، فيما لا توجد دوائر إسرائيلية مختصة حاليًّا في الضفة الغربية لجباية غرامات تفرضها المحاكم العسكرية ضد الفلسطينيين.
ومنذ سنوات تقوم السلطات الإسرائيلية باقتطاع أموال من المقاصة، وهي الضرائب التي تجبيها عن المعابر لصالح السلطة الفلسطينية بدل غرامات أو ديون لشركات إسرائيلية، غير أن التشريع الإسرائيلي بمثابة مغزى سياسي يتمثل في السيطرة على شؤون الفلسطينيين مع الحفاظ على صلاحيات محدودة للسلطة الفلسطينية، وهو ما يعني ضمّ الضفة وفرض القوانين الإسرائيلية عليها.
ويمكن قراءة القانون الحالي على أنه بمثابة تطبيق للقوانين المطبّقة على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 على أشقائهم في الأراضي المحتلة عام 1967، وهو أمر سيمنح الحكومة الإسرائيلية صلاحيات مدنية داخل الضفة خلافًا لاتفاق أوسلو المبرم مع منظمة التحرير.
ومع التعديل الذي أدخلته اللجنة الوزارية لشؤون التشريع الإسرائيلي، ستصبح الضفة تحت السيطرة المدنية التابعة للاحتلال، ما من شأنه أن يسلب السلطة مزيدًا من صلاحيتها المسلوبة أصلًا نتيجة للتمدد الاستيطاني المتسارع، خلافًا لكل التعهُّدات التي قُدِّمت في قمتَي شرم الشيخ والعقبة خلال عام 2023.
تأثيرات القانون المباشرة على الفلسطينيين
مع تحويل القانون للكنيست من أجل التصويت الرسمي عليه ودخوله حيز التنفيذ، فإن هذا القانون وغيره من القوانين المتعلقة بالضمّ ستحوّل العلاقة بين الفلسطينيين وحكومة الاحتلال إلى حالة مؤسسية سيضطر من خلالها الفلسطينيون التعامل مع المخالفات الإسرائيلية.
وسيجعل هذا التشريع الفلسطينيين ملاحقين من الحكومة الإسرائيلية ماليًّا ومعنويًّا، ليصبح حالهم قريبًا من حالة نظرائهم في القدس الشرقية أو المدن الفلسطينية المحتلة عام 1948، عبر الغرامات الباهظة التي تُدفع على البناء أو مخالفات المرور وغيرها، ما سينعكس سلبًا.
وإلى جانب ذلك، سيعجّل هذا القانون في الضمّ أكثر وأكثر للضفة، ضمن محاولة حكومة الاحتلال المتطرفة الحالية الانتقال إلى مرحلة حسم الصراع والخروج من مرحلة إدارة الصراع، التي كانت تقوم بها الحكومات الإسرائيلية السابقة على مدار عقود في استغلال واضح للموقف السياسي.
ولا يمكن فصل التشريع الحالي عن رؤية الوزير الإسرائيلي سموتريش للصراع مع الفلسطينيين، الذي وضع في خطته التي كتبها عام 2017 محاور مركزية، تتمثل في إغراق الضفة الغربية بالاستيطان ضمن مساعيه لحسم الصراع بشكل كامل، في ظلّ اعترافه بأن الفلسطينيين لا يقاتلون الاحتلال من أجل تحسين ظروفهم الاقتصادية بل استنادًا إلى أفكار وطنية.
وبحسب سموتريش، فإن المرحلة الأولى هي “تطبيق السيادة” في الضفة، ومن خلال العمل الاستيطاني عبر إنشاء المستوطنات والمدن، وتشجيع عشرات ومئات الآلاف من اليهود للانتقال والعيش في أراضي الضفة، بهذه الطريقة يمكن إنشاء واقع واضح لا رجوع فيه في هذا المجال في غضون بضع سنوات.
ويزعم أن هذا “يساعد على تخلُّص الفلسطينيين من وهم الدولة الفلسطينية، ويوضّح لهم أنه لا توجد فرصة لإقامة دولة، لأن الحقائق على الأرض تغيّر الوعي وتقرره، وستثبت الكتل الاستيطانية ذلك. ومن يرفض منهم ذلك، يتم اللجوء للخيارات المذكورة سابقًا: القتل أو التهجير”.
تفسّر هذه الخطة جانبًا ممّا تقوم به الحكومة الإسرائيلية الحالية، إذ إن سموتريش الذي يشغل منصب وزارة المالية له صلاحيات الشؤون المدنية المتعلقة بالضفة الغربية المحتلة، ما يعكس أسباب التشريعات المتعلقة بالغرامات أو غيرها من القوانين الهادفة لفرض الضمّ.
ويعرف سموتريش، المحسوب على اليمين الديني التقليدي، في الخطة التي أعدّها أنه لن تكون هناك دولة عربية في قلب “أرض إسرائيل” تعمل على تحقيق التطلعات الوطنية للفلسطينيين، إذ يرى أن إنكار هذا الحلم سيقلل من دوافع تحقيقه.
ويعتقد وزير المالية الإسرائيلي أن العرب سيكون أمامهم بديلان أو ثلاثة، فأولئك “الذين يريدون وقادرون على التخلي عن تحقيق تطلعاتهم الوطنية، سيتمكنون من البقاء هنا والعيش كأفراد في الدولة اليهودية”، أما “أولئك الذين لا يريدون أو لا يستطيعون التخلي عن طموحاتهم الوطنية، سيحصلون على مساعدة منا للهجرة إلى إحدى الدول العربية العديدة، أو إلى أي وجهة أخرى في العالم”.
ويضيف سموتريش في خطته: “من المحتمل ألا يتبنّى الجميع هذين الخيارَين، وسيكون هناك من سيصرّ على اختيار “الخيار” الثالث، وهو الاستمرار في استخدام العنف ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث سيتم التعامل مع هؤلاء بشكل حاسم من قبل الجيش، بقوة أكبر ممّا نفعل اليوم وفي ظل ظروف أكثر ملاءمة لنا”.
ووفقًا لسموتريش، فإنه وبالنسبة “إلى أولئك العرب الذين يختارون البقاء هنا كأفراد، سيتعيّن تحديد نموذج إقامة يتضمن الإدارة الذاتية للحياة المجتمعية، إلى جانب الحقوق والواجبات الخاصة، وسيديرون حياتهم اليومية بأنفسهم أولًا من خلال بلديات خالية من الخصائص الوطنية، وهذه البلديات سيكون لها علاقات اقتصادية فيما بيننا وبينهم وبين السلطات المختلفة في الاحتلال، وبناءً على معايير الولاء والخدمة العسكرية في الجيش، سيكون من الممكن منحهم الإقامة، وحتى المواطنة”.
وتفسّر هذه الخطة جانبًا ممّا تقوم به الحكومة الإسرائيلية الحالية، إذ إن سموتريش الذي يشغل منصب وزارة المالية له صلاحيات الشؤون المدنية المتعلقة بالضفة الغربية المحتلة، ما يعكس أسباب التشريعات المتعلقة بالغرامات أو غيرها من القوانين الهادفة إلى فرض الضمّ.
أهداف إسرائيلية
يلفت السلوك الإسرائيلي المتسارع منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته المشهورة باسم “صفقة القرن”، الأنظار حول الأهداف والأسباب الإسرائيلية وراء حالة التسارع في إقرار القوانين، أو فرض إجراءات عملية متمثلة في فرض الاستيطان واقعًا.
تعمل الحكومة الإسرائيلية الحالية في عدة مسارات لضمّ الضفة الغربية، مثل إعادة تفعيل الإدارة المدنية بكل مكوناتها كما كانت قبل مجيء السلطة الفلسطينية، على اعتبار أن الفلسطينيين سكان محليون وليسوا مواطنين، إلى جانب أن الفكر السياسي الاستراتيجي بالنسبة إلى “إسرائيل” ينظر إلى الضفة على أنها مكوّن منها، وأنه لا حلول تفاوضية مع الفلسطينيين، ولا شريك في الجانب الفلسطيني، وأن الحكومة الإسرائيلية يجب أن تأخذ قراراتها بنفسها.
ومن أبرز القرارات كان قرار وزير الحرب يوآف غالانت السماح للمستوطنين بالعودة إلى مستوطنة “حوميش”، الواقعة بين جنين ونابلس، والتي أُخليت قبل 18 عامًا وفقًا لخطة الانسحاب أحادي الجانب عام 2005، تنفيذًا لقانون إلغاء “فك الارتباط” في شمال الضفة الغربية، والذي أقرّه الكنيست قبل شهرَين لشرعنة وجود المستوطنين في “حوميش”.
وشهد العام الأخير انتقالًا من سياسات “الضمّ الفعلي الصامت” غير الرسمي التي تقوم بها دولة الاحتلال، إلى عملية الضمّ الكامل، فرغم امتناع الحكومة عن الإعلان الرسمي أو وجود قرار رسمي حول ضمّ المناطق المحتلة، خصوصًا مناطق (ج)، فإن نقل الصلاحيات المدنية إلى سموتريش بصفته وزيرًا في وزارة الحرب أدّى في الواقع إلى وضع مسؤول مدني للحكم في المناطق المحتلة.
يمكن القول إن التشريع الأخير ستلحق به سلسلة من التشريعات والقوانين والإجراءات على أرض الواقع التي تعزز من ضمّ الضفة الغربية وتعامل الاحتلال معها على أنها جزء منه، فيما ستبقى السلطة محصورة في بعض مناطق (أ) دون صلاحيات حقيقية.
وبات هدف الاحتلال هو ضمّ أكبر قدر ممكن من الأراضي وتقليص عدد السكان الفلسطينيين إلى الحد الأدنى، ففي العام الماضي تركزت جهود الترحيل في القدس الشرقية والمنطقة (ج) في القدس، حيث يتم استخدام الحرمان من حقوق التخطيط والبناء وهدم المنازل وإجراءات “تسوية الأراضي” في المدينة لنزع الملكية.
وفي المنطقة (ج) يقوم الجيش بالإعلان عن مساحات كبيرة كمناطق عسكرية مغلقة، لا يُسمح فيها بالحركة أو الزراعة أو الرعي، وبالتالي يتم إبعاد الفلسطينيين عن أراضيهم، خاصة في منطقة الأغوار، ومسافر يطا في منطقة الخليل، ومنطقة الخان الأحمر.
وبالتوازي، أصبحت أعمال عنف المستوطنين المخططة والممأسسة بدعم من قوات الجيش أكثر شيوعًا وتدميرًا، وعنف المستوطنين يعتبر أداة فعّالة لطرد الفلسطينيين من أراضيهم، وللتطهير العرقي لمناطق واسعة في المنطقة (ج)، وإلى جانب عنف المستوطنين ومحاولاتهم للسيطرة على أراضٍ فلسطينية، هناك تصاعد كبير في عنف قوات الجيش ضد الفلسطينيين.
وبالتالي، يمكن القول إن التشريع الأخير ستلحق به سلسلة من التشريعات والقوانين والإجراءات على أرض الواقع، التي تعزز من ضمّ الضفة الغربية وتعامل الاحتلال معها على أنها جزء منه، فيما ستبقى السلطة محصورة في بعض مناطق (أ) دون صلاحيات حقيقية.