في أثناء زيارتها للمغرب، وعدت المدير العام لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، بأن تعويم الدرهم أمر جيد، مستشهدة بنمو صادرات البلد، بما يشمل الصناعات وأهمها السيارات والطاقة المتجددة، على طرف النقيض يلح البنك المركزي المغربي على تأجيل هذه الخطوة، وقد يرفض مجددًا بدء المرحلة الثانية من التعويم في الوقت الحاليّ، في ظل استمرار حالة عدم اليقين الاقتصادي.
تأتي زيارة غورغييفا من أجل التحضير للاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي الذي يحتضنه المغرب خلال الممتدة من 9 حتى 15 أكتوبر/تشرين الأول المقبل في مراكش، وقد أشادت بارتفاع حجم صادرات المغرب من السيارات إلى 700 ألف وحدة، ما يعني ارتقاءه إلى مستويات أعلى على سلسلة القيمة.
“كما يصنع هذا البلد قطع غيار الطائرات وأصبح اليوم رائدًا في مجال الطاقة المتجددة، وضمن هذه الظروف يصبح من الجيّد للمغرب أن يفكر في الانتقال إلى سعر صرف مرن مطلق للعملة”، تقول مديرة صندوق النقد، التي اعتبرت هذه المؤشرات دعامة لصمود الدرهم في سوق العملات.
إلا أن محافظ البنك المركزي المغربي عبد اللطيف الجواهري لديه رأي آخر، فقد طالب صندوق النقد بعدم الإلحاح على التعويم الكلي للعملة، من واقع أن أي خطوات متسرعة على صعيد سعر الصرف يمكن أن تجر البلد لمتاعب، بينما الهدف الأساس هو تجاوز الأزمة الحاليّة.
نسيج اقتصادي غير مهيأ
شرع المغرب في تعويم الدرهم عام 2018 باعتماد نطاق تقلب بنسبة 2.5% صعودًا وهبوطًا عوضًا عن 0.3% كما في السابق، وفي 2020 تم توسيع النطاق إلى حدود 5% ارتباطًا بسلة عملات تضم اليورو بنسبة 60% والدولار بنسبة 40%.
بينما يستمر صندوق النقد الدولي بالإصرار على دعوة السلطات المالية المغربية إلى المرور نحو مرحلة جديدة من التحرير لاستهداف التضخم، يبدي البنك المركزي تحفظًا حيال الأمر، معتبرًا أن النسيج الاقتصادي في البلد غير مهيأ تمامًا لتحرير سعر الصرف بوتيرة متسارعة، لأنه يقوم على الشركات الصغرى بنسبة 90% والشركات المتوسطة 9% والشركات الكبرى 1%.
لعل أكثر ما يثير القلق هو إفلاس الشركات المغربية الذي تصاعد بوتيرة سريعة للغاية خلال الأشهر الثلاث الأولى من 2023، إذ سُجّلت 3830 حالة إفلاس بزيادة 28% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، حسب بيانات مكتب “أنفوريسك” المتخصص في المعلومات المالية والقانونية للشركات، كانت حصة الشركات الصغرى من الإفلاسات هي الأكبر حيث ناهزت 98.8% و1.1% للشركات المتوسطة والصغيرة و0.1% للشركات الكبيرة.
توجد نحو 13 ألف مقاولة مغربية معرضة لمخاطر الإفلاس خلال العام الحاليّ 2023، بما سيمثل ارتفاعًا بنحو 53% مقارنة بعام ما قبل الجائحة 2019، وفقًا لشركة التأمين الدولية “أليانز تريد”، إذ جاء المغرب في المرتبة الرابعة عالميًا، بعد كل من بولندا وإسبانيا وهنغاريا، من حيث عدد الشركات المعرضة للإفلاس، ما يفاقم الوضع الاقتصادي المتأزم ويزيد من نسب البطالة المرتفعة.
ويسعى البنك المركزي إلى تشجيع الاستثمار، في الوقت الذي لا تتجاوز مساهمة القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني 35%، يبرز الطموح إلى رفع هذه المساهمة إلى 66%، وهو أمر يصعب تحقيقه على المدى القصير في ظل الأزمات الحاليّة.
نمو مرهون بالفلاحة
استطاع المغرب أن يرفع مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 35%، لكن الجفاف أو تأخر التساقطات أو قلتها تؤثر بشكل حاد على النمو الاقتصادي، ما دام هذا الأخير مرتبطًا بالعوامل المناخية التي تعد أحد الثوابت الرئيسية في بلد تساهم فيه الفلاحة بمتوسط يتراوح بين 12 و14% في الناتج الداخلي الإجمالي.
تبدو مساهمة الفلاحة أقل بكثير من مساهمة الصناعة، بيد أن هناك العديد من المهن مرتبطة بالفلاحة بشكل مباشر، بما في ذلك الأسمدة والبذور والنقل والتجارة الداخلية والخارجية والصناعة الغذائية التي تأتي في الطليعة حيث تمثل 24% من حجم الأعمال الصناعية.
بالتالي فالجفاف والفلاحة يقوضان الانتعاش الاقتصادي، فقد تباطأ النمو الاقتصادي عام 2022 إلى 1.2%، إذ تراجع الإنتاج الزراعي 15% بسبب الجفاف الشديد، بعدما سجل النمو انتعاشًا بـ7.9% في 2021، ومن المتوقع ألا تتجاوز نسبة النمو خلال العام الحاليّ عتبة 3% لأن الموسم الفلاحي لا يبدو مبشرًا.
في المقابل، استمرت الزراعات المعتمدة على السقي في النمو، علمًا بأن كميات كبيرة من هذه الخضراوات والفواكه معدة للتصدير، فقد تجاوزت عتبة 1.5 مليون طن خلال الموسم الماضي، نصفها تقريبًا من الطماطم، بالإضافة إلى الأفوكادو والفراولة والتوت بأنواعه والبرتقال واليوسفي وغيرها من الثمار المستنزفة للاحتياطات المائية، لكن المفارقة هي أن أسعار هذه المنتجات ارتفعت بشكل مقلق في السوق المحلية.
وتساهم الصادرات بكل أنواعها في رفع احتياطات النقد الأجنبي، ومن المتوقع أن تبلغ احتياطات المغرب 35 مليار دولار خلال 2023، إذ تكفي هذه القيمة لتغطية احتياجات الاستيراد لمدة 5 أشهر و21 يومًا.
خروج من اللائحة الرمادية
إلى الآن، لم يعرب البنك المركزي عن موقفه من الإلحاح الأخير من طرف غورغييفا على التحرير الكلي لصرف الدرهم، فقد عبر عن رفضه آخر مرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكن بالتأكيد سيجدد صندوق النقد والبنك الدولي مطالبهما رسميًا على الأقل بعد مرور عام، أي خلال الاجتماع المرتقب في مدينة مراكش.
وغالبًا ما ستكون توصية التعويم هذه المرة مدعومة بقرار شطب المغرب من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي “غافي” (GAFI)، الخاصة بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب، ومن شأن ذلك أن يعزز جاذبية البلد لرؤوس الأموال ويطمئن المستثمر بشأن الطابع السليم لتشريعاته ومنظومته الضريبية.
إن إخراج البلاد من القائمة الرمادية يؤثر بشكل إيجابي على التصنيفات السيادية وتصنيفات البنوك المحلية، ومن شأنه أن يساعد البلاد للحصول على خط سيولة مرن من صندوق النقد الدولي، كما سيسهل على المغرب الحصول على قروض بشروط تفضيلية مقارنة بالسابق، مع إمكانية الوصول إلى مؤسسات مالية جديدة.