عقب فوز الرئيس التركي بانتخابات 28 مايو/أيار بدأ بالإعلان عن تشكيلة الحكومة الجديدة وإحداث تغييرات في بعض المواقع المهمة، بما ينسجم مع رؤيته لـ”قرن تركيا الجديد” الذي كان شعار حملته الانتخابية.
آخر هذه التغييرات هو تعيين المصرفية البارزة حفيظة غاية أركان رئيسة للبنك المركزي التركي، كأول امرأة تركية تشغل هذا المنصب الهام.
وتسلمت حفيظة، أمس الجمعة، رسميًّا، منصبها الجديد رئيسة للبنك المركزي التركي. وفي مراسم التسليم، قالت أركان لسلفها شهاب قاوجي أوغلو “توليتم قيادة مرحلة صعبة مع فريقكم، شكرا لجهودكم المضنية”، مضيفة: “بالنيابة عن بلادنا وموظفي مصرفنا المركزي، أود أن تدركوا بأننا سنتذكر بامتنان دعمكم وجهودكم وخدماتكم”.
ظروف تعيين حفيظة أركان
حفيظة غاية أركان هي الرئيس الخامس للبنك المركزي التركي خلال 4 سنوات تقريبًا وسط ادعاءات بفقدان المركزي لقراراته المستقلة، وتعاني تركيا من أزمة اقتصادية مرهقة منذ أزمة كوفيد-19 العالمية، فقد خفض البنك المركزي أسعار الفائدة عام 2021 من 19% إلى 8.5%، ما ساهم – بالإضافة إلى عوامل داخلية وخارجية أخرى – في وصول التضخم لأعلى مستوياته خلال 24 عامًا، إذ بلغ نحو 85% نهاية العام الفائت.
وبعد أسبوعين فقط من إعادة انتخاب الرئيس التركي، تراجعت قيمة الليرة التركية بشكل حاد أمام الدولار، فأصبح الدولار الواحد يعادل أكثر من 23 ليرة بعد ثباته عند أقل 20 ليرة لأشهر طويلة خلال الفترة السابقة.
يأتي تعيينها بعد اجتماع الرئيس التركي الأول مع أعضاء حكومته الجديدة الذي أكد فيه على إعطاء الأولوية لعدة أمور في هذه المرحلة على رأسها تحسين الوضع المعيشي والاقتصادي والعمل على خفض نسب التضخم.
بعد تنصيبها رئيسة للبنك المركزي التركي كأول سيدة تتقلد هذا المنصب في تاريخ الجمهورية التركية.. ماذا تعرف عن حفيظة غاية أركان أصغر أستاذة مالية في الولايات المتحدة الأمريكية؟ pic.twitter.com/0NJP9gwEZO — TRT عربي (@TRTArabi) June 9, 2023
يرى الرئيس أردوغان أن سعر الفائدة المرتفع أحد الأسباب الرئيسة للتضخم، كما يرفع تكاليف الإنتاج مما يعيق الاستثمار، ويؤدي لإغلاق الشركات والمشاريع، إذ يكتفي أصحاب الأموال بالحصول على العائدات البنكية، ما يحول الاقتصاد التركي إلى اقتصاد ريعي وهو ما يخالف خطة الرئيس بتحويل تركيا إلى بلد منتج.
وبالفعل عندما رفع مسؤولو البنك المركزي التركي سعر الفائدة في مارس/آذار 2021 إلى 19%، لم تحل مشكلات الاقتصاد التركي على الصعيدين المالي والنقدي وبقيت معدلات البطالة مرتفعة 12.7%، ووصل التضخم إلى 19.7%.
نجحت خطة الرئيس التركي في بعض جوانبها، فقد ازدادت قيمة الصادرات من المنتجات والسلع التركية بفضل وجود قوة تصنيعية وإنتاجية في البلد، كما نشطت الحركة السياحية بشكل كبير، لكن هذا لم يكن كافيًا لأن الأمر يتطلب معالجة شاملة، وليس معالجة طرف أو متغير، على حساب باقي المتغيرات التي يكون لها تأثيرها السلبي على جوانب أخرى.
فالمطلوب تشجيع وتحفيز الاستثمار وفي نفس الوقت الحفاظ على قيم معتدلة للعملة المحلية تجاه العملات الأجنبية، وكما هو مطلوب بقاء القاعدة الإنتاجية التركية حية وقوية، والعمل على زيادة القيمة المضافة للأنشطة الاقتصادية المختلفة، فإنه ينبغي ألا يؤدي ذلك إلى إهمال المؤشرات المالية والنقدية، من أداء سعر الصرف ومعدل التضخم وعجز الموازنة، بحسب رأي الكاتب عبد الحافظ الصاوي.
توجه اقتصادي جديد
يعد الاقتصاد أحد أبرز المشكلات التي واجهها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، إذ خسر بعض المقاعد في البرلمان واضطر للدخول في جولة ثانية من الانتخابات الرئاسية، ولم يمنح الناخبون في المدن الكبرى، وهي الأكثر تضررًا من غلاء الأسعار، مثل أنقرة وإسطنبول الأغلبية للرئيس الحاليّ، ويتطلع الحزب الحاكم لاستعادة بلديتي هاتين المدينتين في الانتخابات البلدية المقبلة 2024.
يبدو أن أردوغان الذي كسب كل الانتخابات التي خاضها منذ 2002 سيخطو مثل القادة الذين يستفيدون من قراءة التاريخ ولا يصرون على آرائهم طويلًا، بل يتبعون سبيل التغيير عند الحاجة ويقفون على أقدامهم من جديد عند تعثر خطواتهم السابقة، إذ أشار أردوغان خلال خطاباته الأخيرة إلى حدوث تغييرات في السياسات الاقتصادية غير التقليدية التي اتبعها في الفترة السابقة.
وصف محللون الفريق الاقتصادي الجديد لتركيا بالفريق ذي التوجه الليبرالي وبأن تشكيلته أقرب للتكنوقراط، أي أن الرئيس اختارهم على أساس مهني أكثر من الأولوية الحزبية، ويتكون من أركان التي تولت قيادة البنك المركزي ووزراء التجارة عمر بولات، والصناعة محمد فاتح قجر، والمالية محمد شيمشك الذي يحظى بتقدير كبير من المستثمرين في تركيا وخارجها، وقد عمل لسنوات طويلة في بريطانيا وأمريكا.
وقال شمشك خلال حفل تسلمه الوزارة بأن سياسته الأساسية ستكون دعم البنك المركزي وذلك بمكافحة التضخم من خلال السياسة المالية والإصلاحات الهيكلية التي سيتم تنفيذها.
ويرى صناع القرار أن الحل الاقتصادي في تركيا يلزمه التنسيق بين جميع مكونات السياسة الاقتصادية، ويجب النظر لتبعات أي قرار يخص البنك المركزي على الإنتاج والاستثمار والسياحة ومعدلات البطالة.
ومن المهم الإشارة إلى أن هذه التعيينات اللافتة والرؤية الجديدة لا تعني تغييرًا في النهج السياسي الاقتصادي الأساسي لتركيا الذي يركز على الاستثمار والإنتاج والتوظيف والنمو، وبالطبع الصادرات، لكننا سنرى الآن بعض التعديلات الجديدة لتحقيق الهدف ورفع مستوى الصناعة والإنتاج المحلي للوصول إلى نتائج اقتصادية دائمة مستقرة.
حفظية أركان.. سيرة مهنية لافتة
ولدت حفيظة غاية أركان في إسطنبول عام 1982 لأب مهندس وأم معلمة قدما من إيلازيغ، وفي عام 2001 تخرجت أركان بتفوق في جامعة بوغازيتشي بتخصص الهندسة الصناعية، ثم سافرت لإكمال دراستها في جامعة برينستون.
بعد ذلك، تلقت أركان عروضًا لمنح دراسية من كبرى الجامعات الأمريكية، قبل أن تحصل على منحة الدكتوراه الفخرية من جامعة برينستون التي تُمنح لشخصين فقط سنويًا، حصلت من خلالها على ميزانية غير محدودة من مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية لتمويل أبحاثها، كما أكملت برنامجين تدريبيين آخرين في علوم الإدارة في كلية هارفارد للأعمال والقيادة في جامعة ستانفورد.
بعد تنصيبها رئيسة للبنك المركزي التركي كأول سيدة تتقلد هذا المنصب في تاريخ الجمهورية التركية.. ماذا تعرف عن حفيظة غاية أركان أصغر أستاذة مالية في الولايات المتحدة الأمريكية؟ pic.twitter.com/0NJP9gwEZO — TRT عربي (@TRTArabi) June 9, 2023
تتمتع رئيسة البنك المركزي الجديدة بسيرة مهنية مليئة بالنجاحات بدأتها عام 2005 في بنك Goldman Sachs، إذ قدمت خدمات استشارية لمجالس إدارة البنوك الكبرى وشركات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية في مجالات إدارة الميزانية العمومية واختبار الضغط وتخطيط رأس المال وإدارة المخاطر وعمليات الدمج والاستحواذ.
ولديها خبرة في الأعمال المصرفية والاستثمار وإدارة المخاطر والتكنولوجيا والابتكار الرقمي، إضافة لعملها أيضًا في المجلس الاستشاري لقسم بحوث العمليات والهندسة المالية بجامعة برينستون.
وعلى هامش الدور الاقتصادي الذي ستلعبه “الفتاة التركية الشابة” تمثل عودتها لبلادها وإدارتها ملفات حساسة تشجيعًا على الهجرة العكسية للشباب والكفاءات التركية، كما يأتي تعيينها بناءً على كفاءتها تأكيدًا على الدور الذي يراه حزب العدالة والتنمية للنساء، بعد انتشار الكثير من الدعايات الانتخابية التي ترهب النساء من التصويت للحزب المحافظ، وقالت حفيظة غاية أركان في أول لقاء لها: “أود أن أشكر تركيا وبلدي وممثلي ولايتي على توفير هذه الفرصة والرؤية للمرأة التركية”.
وصفتها كاثرين وايلد، الرئيس التنفيذي لـ Partnership for New York City حيث عملت أركان لفترة معينة، في تصريح لرويترز بأنها “شخصية قوية وذكية وفاعلة وصاحبة قرارات مستقلة”.
آراء وانطباعات وتبريكات
أثار قرار تعيين أركان سيلًا من ردود الفعل الإيجابية، فقد عبر خلوق بيرقدار الرئيس التنفيذي لشركة بايكار للدفاع والطيران عن إعجابه بالنجاحات التي حققتها حفيظة غاية أركان في الفترة السابقة وعن أمله في نجاحها أيضًا مع الفريق المالي الجديد في محاربة التضخم وتحقيق العدالة الاجتماعية على المدى القريب والمتوسط والبعيد.
Oldukça başarılı bir eğitim ve iş hayatı geçmişi bulunan ve Sayın Cumhurbaşkanımız tarafından Merkez Bankası Başkanlığı’na atanan ilk kadın başkan olan Sayın Hafize Gaye Erkan’a yeni görevinde başarılar dilerim.
Bugüne kadar hem şahsi hem de yöneticisi olduğum firmamızdan bir… — Haluk Bayraktar (@haluk) June 9, 2023
كما هنأتها جامعة بوغازيتشي التي تخرجت فيها في إسطنبول بالمركز الأول وتمنت لها التوفيق في مهمتها:
Boğaziçi Üniversitesinde 1997-2001 yılları arasında eğitim gören ve Endüstri Mühendisliği Bölümünden 1’incilikle mezun olan Sn. Dr. Hafize Gaye Erkan’ı Türkiye Cumhuriyet Merkez Bankası Başkanlığı görevine atanmaları dolayısıyla tebrik ediyor, başarılar diliyoruz. pic.twitter.com/BtK4gcek9O — Boğaziçi Üni. (@UniBogazici) June 9, 2023
وتمنى لها وزير المالية التوفيق وأبدى إيمانه بعلمها ومعرفتها وخبرتها:
Türkiye Cumhuriyet Merkez Bankası Başkanlığı’na atanan sn Hafize Gaye Erkan’ı kutluyorum. Bilgisine ve tecrübesine güveniyorum.
Sn Erkan bugün devir teslim töreni ile görevine resmen başladı. Kendisine başarılar diliyorum. Ülkemize hizmet yolunda Allah yardımcısı olsun. — Mehmet Simsek (@memetsimsek) June 9, 2023
تستلم أركان رئاسة البنك المركزي في فترة صعبة ومليئة بالتحديات في المشهد الاقتصادي التركي، لكن بوجود فريق سياسي واقتصادي طموح يمكن أن تتحول إلى قفزة نوعية على طريق استقلال تركيا الاقتصادي، وفيما تركز الصحافة الأجنبية على الدور الذي يمكن أن يلعبه الفريق المالي الجديد على صعيد رفع الفائدة كطريق تقليدي لخفض التضخم وجذب الاستثمار الأجنبي يبدو أن القادة الاقتصاديين الجدد لديهم خطط أكثر من ذلك لإنعاش اقتصاد بلدهم.