استهل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الإثنين 12 يونيو/حزيران 2023، جولته إلى دول أمريكا اللاتينية، المقرر لها خمسة أيام، بزيارة العاصمة الفنزويلية كاراكاس، ومنها ستكون المحطة الثانية إلى كوبا ثم نيكاراغوا، تلبية لدعوة رسمية من رؤساء الدول الثلاثة بحسب وكالة “إرنا” الرسمية.
الزيارة هي الأولى للرئيس الإيراني الحاليّ لأمريكا اللاتينية منذ توليه الرئاسة، كما أنها الأولى كذلك منذ زيارة الرئيس السابق حسن روحاني قبل مشاركته في الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك عام 2016، وتأتي “في إطار سياسة طهران لإعطاء الأولوية للعلاقات مع الدول الصديقة والمتاخمة لها” وفق تعبير وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية.
وتهدف طهران من خلال تلك الجولة التي رافق فيها رئيسي وزراء الخارجية والدفاع والنفط والثقافة والصحة إلى تقوية شوكتها عبر تعزيز العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية التي تتشارك مع طهران استعداء الولايات المتحدة، فالدول الثلاثة بجانب إيران تعاني من فرض عقوبات أمريكية قاسية خلال السنوات الأخيرة، دفعتها للبحث عن تحالفات موازية لتقليل آثار وتداعيات تلك الإجراءات.
اللعب الإيراني في الفناء الخلفي لأمريكا، ومحاولة تعزيز نفود الدولة الإسلامية في تلك المنطقة الحساسة، أحد نقاط التوتر في العلاقات بين طهران وواشنطن التي تحيا مؤخرًا حالة من المرونة في التعاطي مع بعض الملفات، وسماح واشنطن لبغداد بالإفراج عن بعض الأموال الإيرانية المجمدة في البنوك العراقية، ما يدفع للتساؤل عن الرسائل التي تبعث بها الدولة الإيرانية للأمريكان من وراء تلك الزيارة، التساؤل ذاته ينسحب على حلفاء طهران اللاتينيين.
بعد وصوله إلى فنزويلا ، زار رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية آية الله ابراهيم #رئيسي ، قبر “سيمون بوليفار” زعيم ثورات التحرر بأمريكا اللاتينية ، ووضع عليه إكليلا من الزهور.https://t.co/sW64ezg7Jf pic.twitter.com/j8DNZED4hi
— وكالة إرنا العربیة (@irna_arabic) June 13, 2023
سياق مهم
تبذل طهران جهودًا دبلوماسية حثيثة خلال الآونة الأخيرة لتعزيز حضورها الإقليمي والدولي من خلال الإيحاء بتبني مرونة سياسية جديدة في توجهاتها إزاء الدول التي تعاني علاقاتها معها من توترات متلاحقة، وفي المقدمة منها علاقاتها مع السعودية التي دخلت نفقا جديدًا من التبريد، الأمر كذلك من المحتمل أن يكون مع القاهرة في ظل جهود الوساطة التي تقوم بها بغداد ومسقط.
وأمام هذا التوجه المثير لقلق الولايات المتحدة و”إسرائيل”، بدأت بعض الدول الغربية في تبني إستراتيجية تصعيدية مع طهران، خشية تمدد نفوذها الإقليمي والدولي، هذا بخلاف ما يعاني منه ملف الاتفاق النووي من تعثر بسبب تباين وجهات النظر إزاء بعض المسائل.
كما تأتي الزيارة في ظل مستجدات سياسية واقتصادية وأمنية أثرت بشكل كبير في تموضعات القوى الدولية على خريطة النزاعات والصراعات والمناطق الساخنة، حيث تزايد النفوذ الصيني على حساب الأمريكي في بعض الملفات، فضلًا عن الاهتزازات القوية التي ضربت جدران التحالف الأمريكي مع بعض القوى الشرق أوسطية وعلى رأسها دول الخليج.
تلك الأجواء أسالت لعاب الإيرانيين في السير بعيدًا حيث توسيع رقعة النفوذ، وتعويض التراجع الذي منيت به خلال الأعوام الماضية، مستغلة هشاشة السياسة الأمريكية الخارجية في الأشهر الأخيرة، وعليه جاءت تلك التحركات الكثيفة لترميم الشروخات التي تعاني منها جدران العلاقات مع بعض الخصوم من جانب، وتعزيز الشراكات مع الحلفاء من جانب آخر.
علاقات إستراتيجية أكثر منها دبلوماسية
رغم التعارض الأيديولوجي بين الهوية الإسلامية للدولة الإيرانية والفكر اليساري لدول أمريكا اللاتينية، فإن الظروف المشابهة التي تجمع بين الطرفين من حيث العداء للغرب لا سيما الولايات المتحدة، ووقوعهما ضحايا العقوبات الاقتصادية المستمرة لسنوات طويلة، فرضت على الجانبين برغماتية واقعية دفعتهما لتعزيز الشراكة وتعميق العلاقات بشكل أكبر مما هو معتاد في العلاقات الدولية الأخرى.
وقبل زيارة رئيسي كان وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان في جولة مشابهة في فبراير/شباط الماضي، وناقش مع نظرائه هناك “الدفاع عن مصالحهم الوطنية في مواجهة الضغوط الخارجية”، وفقًا لوزارة الخارجية الإيرانية، ومن قبلها كانت زيارة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو لطهران في يونيو/حزيران 2022 حيث وقع الطرفان اتفاق تعاون يمتد على فترة عشرين عامًا بهدف تعزيز التحالف بينهما.
وكانت طهران من أكثر الدول الداعمة لكاراكاس خلال السنوات الماضية، في الوقت الذي كانت تعاني فيه من عقوبات اقتصادية طاحنة من المعسكر الغربي، ففي عام 2020 أرسلت إيران 1.5 مليون برميل من الوقود وإمدادات غذائية، لإحياء مصافي التكرير الفنزويلية المتوقفة بسبب الشح الكبير في النفط، وهي الخطوة التي أثارت غضب الأمريكان واتهموا بسببها طهران بالالتفاف على العقوبات.
الرئيس الإيراني في تصريحاته التي رافقت الزيارة قال: “العلاقات بين طهران وكراكاس ليست علاقات دبلوماسية عادية، بل علاقات إستراتيجية”، مضيفًا “الشعب الايراني أثبت صداقته للشعب الفنزويلي وبيّن أنه صديق أيامهم الصعبة”، مؤكدًا على عمق تلك العلاقات وأهميتها لإيران.
وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده مع نظيره الفنزويلي في كراكاس الإثنين قال رئيسي: “إيران وفنزويلا لديهما مصالح مشتركة ووجهات النظر في مجالات السعي للاستقلال والحرية والعدالة، التي جمعت بين شعبي هذين البلدين”، مذكرًا بما أسماه “أعداء مشتركين” لشعبي البلدين لا يريدون لهما العيش بشكل مستقل.
وثمن الرئيس الإيراني ما أسماه “مقاومة الشعب الفنزويلي للضغوط الخارجية التي تعرضت لها بلاده”، مشبهًا إياها بما فعله الشعب الإيراني إبان الثورة الإسلامية حيث حول الضغوط والعقوبات إلى فرص، على حد قوله، مؤكدًا أن “وجود مصالح ووجهات نظر وأعداء مشتركين جعل التعاون الثنائي عميقًا وإستراتيجيًا”.
وتبعث طهران برسالة واضحة ومباشرة لحكومات الدول اللاتينية الثلاثة مفادها إصرارها على تعميق العلاقات مع تلك البلدان وتعزيز التعاون البيني وتطوير مستويات العلاقات بينهما إلى أبعد حد، مهما كانت الظروف والأجواء، وأن إيران لن تتخلى عن حلفائها مهما كانت الضغوط ومهما شهدت علاقاتها مع الأمريكان من تخفيف في مستويات التوتر.
منح الرئيس الفنزويلي نيكولاس #مادورو، رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية آية الله سيد إبراهيم #رئيسي وسام الاستحقاق الوطني من الدرجة الاولى. pic.twitter.com/0E0rf2cYLH
— ايران اليوم (@iranalyaum1) June 13, 2023
الاقتصاد عامل مهم
في مقال كتبه وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قبيل جولة رئيسي اللاتينية قال: “ظهور علامات على حدوث تغيير كبير في النظام العالمي وزيادة القوى الموجودة في المحيط الجغرافي في تشكيل النظام الدولي الجديد يتطلب تعاونًا متعدد الأطراف، لا سيما بين القوى الإقليمية”.
ويرى عبد اللهيان أن زيارة الرئيس الإيراني لفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا تعد تطورًا في اتجاه توطيد وتعزيز التعاون الذي يأتي في صالح شعوب البلدان الأربعة، معتبرًا أن تلك الجولة يمكن أن تفتح “نافذة جديدة في العلاقات العريقة بين إيران وأمريكا اللاتينية وتعزز التعاون متبادل المنفعة في مجالات الطاقة والعلوم والتكنولوجيا والصحة والطب والزراعة وتصدير السلع والخدمات الهندسية التقنية”.
وتمثل القدرات الاقتصادية الكبيرة لإيران ودول أمريكا اللاتينية في مجالات الزراعة والطاقة والصناعة والتعدين والتقنيات الجديدة والخدمات التقنية والهندسية والطب، بيئة خصبة لتعزيز الاستفادة الاقتصادية المشتركة بين الطرفين، مع إمكانية بلوغ التجارة البينية لمستويات غير مسبوقة خلال الآونة القادمة، حسبما يرى وزير الخارجية الإيراني.
ويعد الاقتصاد أحد أبرز الملفات الرئيسية التي حملها رئيسي خلال تلك الجولة، حيث رغبة الجانبين، طهران ودول أمريكا اللاتينية، في تعزيز العلاقات الاقتصادية بينهما، في ظل التحديات التي تواجههما جراء العقوبات الأمريكية المفروضة وتضييق الخناق على نشاطهما الاقتصادي، التي تنعكس بطبيعة الحال على الشأن الداخلي بما يهدد أمن واستقرار الحكم في تلك البلدان.
وتشير الإحصاءات إلى طفرة كبيرة في حجم التعاون بين هذه الدول، فعلى سبيل المثال زاد حجم التجارة بين إيران وفنزويلا من 600 مليون دولار عام 2021 إلى أكثر من 3 مليارات دولار بنهاية 2022، مع توقع زيادة هذا الرقم إلى 10 مليارات دولار كخطوة أولى و20 مليار دولار كخطوة ثانية بحسب الرئيس الإيراني الذي وصف توقيع 19 وثيقة تعاون بين البلدين – على هامش تلك الزيارة – في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والطاقة والعلوم والتكنولوجيا بأنه “تعبير عن إرادة الجانبين لتوسيع العلاقات الثنائية، مضيفًا “آمل أن نتمكن من خلال تنفيذ هذه الوثائق من اتخاذ خطوة كبيرة في مسار تحسين مستوى العلاقات بين البلدين”.
اعتبر وزير خارجية الجمهورية الاسلامية الايرانية ” #حسين_أمير_عبداللهيان ” الزيارة التي يقوم بها رئيس الجمهورية ” السيد ابراهيم #رئيسي ” إلى فنزويلا تأتي في إطار الدبلوماسية والسياسة الخارجية المتوازنة للحكومة الحالية.https://t.co/gxA6YxXt50 pic.twitter.com/k4pamN1YTq
— قناة العالم الاخبارية (@alalam_arabic) June 13, 2023
المناورة من الفناء الخلفي لأمريكا
تعلم طهران حساسية وجودها في الحديقة الخلفية لأمريكا، ولديها يقين تام بإثارة هذا الوجود لحفيظة الأمريكان، فالحضور الفعال في هذا الفناء يمثل تهديدًا مباشرًا لأمن الولايات المتحدة القومي، وهي مسألة غاية في الخطورة وتجرح بشكل أو بآخر كبرياء أمريكا وتخدش سمعتها الدولية، وهذا ما يسعى إليه الإيرانيون من خلال تعميق علاقتهم بخصوم أمريكا جنوبًا.
لا يمكن قراءة تلك الزيارة التي يقطع فيها رئيسي مسافة تقترب من 12 ألف كيلومتر بين طهران وكراكاس بمعزل عن الرغبة الإيرانية في إرسال رسالة مباشرة لواشنطن بأن فناءها الخلفي ليس عنها ببعيد، لا سيما أن السلطات الإيرانية تعزز وجودها العسكري والاقتصادي والسياسي في تلك المنطقة منذ سنوات وعبر ذراعها المسلح “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي تقول واشنطن إن له موقعًا تدريبيًا في منطقة وارنيس البوليفية، هذا بجانب الحضور اللافت للأسطول البحري الإيراني بالقرب من المياه الأمريكية.
كما حذر رئيس أركان القيادة الجنوبية الأمريكية الجنرال كريغ فالر، في أبريل/نيسان 2020، من “زيادة تحركات الفيلق في منطقة الكاريبي وفنزويلا”، ويميل البعض إلى أن الزيارة التي قام بها قائد الفيلق السابق الجنرال قاسم سليماني، إلى فنزويلا، عام 2019، كانت أحد أسباب اغتياله من سلاح الجو الأمريكي في بغداد مطلع عام 2020.
وتسعى طهران للتعامل مع واشنطن وفق سياسة الند بالند، فحين تعزز أمريكا حضورها في الشرق الأوسط بهدف الضغط على الإيرانيين وتجييش المنطقة ضدهم، وفرض عقوبات اقتصادية وسياسية بحق نظامها الحاكم، فلا بد على طهران أن ترد هي الأخرى بذات السلاح، الوجود في الحديقة الخلفية لأمريكا وتهديد أمنها القومي، على هذا الوتر يعزف الخطاب الشعبوي الإيراني.
اللافت هنا أن الفترة الأخيرة تشهد مرونة نسبية في الخطاب السياسي بين إيران وأمريكا، رغم التعثر الواضح في مسار الاتفاق النووي، ومن هنا تأتي تلك الزيارة التي تعزز بها طهران علاقاتها بحلفائها اللاتينين كورقة ضغط من الممكن استخدامها ضد الولايات المتحدة وقتما يتطلب الأمر، وهي الفرضية التي لها العديد من السوابق الأخرى في سوريا واليمن ولبنان وغيرهم.