في 3 مايو/ أيار المنصرم، وبعد أن تأكّد من استحالة توقف المعارك المندلعة بين الجيش والدعم السريع، غادر مقداد خالد وزوجته وأطفاله الثلاثة منزلهم في العاصمة الخرطوم إلى مدينة سنار وسط السودان، ليستقر مع صهره.
غادر الرجل الخرطوم، تاركًا منزله وورشة صيانة السيارات الملحقة به، والتي ظلَّت مورد رزقه سنوات طويلة، بحثًا عن الأمان الذي بات مطلب السودانيين الأول منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل/ نيسان 2023، والتي لا يبدو أن طرفَيها ينويان وضع أوزارها قريبًا.
يقول مقداد خالد لـ”نون بوست” إنه استقر مع صهره بسبب إصرار زوجته وعدم امتلاكه المال الكافي لاستئجار منزل مهيَّأ بعد توقف عمله، إذ إنه يساهم في النفقات اليومية من مدخراته الشحيحة، والتي يخشى أن تنتهي قبل نهاية الحرب.
يتحسّر خالد على وضع أطفاله، ليس من عدم تغذيتهم بصورة جيدة وهم في مراحل النمو وحسب، إنما بسبب ضياع القيم التي غرسها فيهم مثل عدم استغلال حاجة الآخرين وعدم استخدام العنف، وهذا نقيض ما يجري في الواقع الذي زعزع قناعات حاول ترسيخها فيهم.
مزيد من المعاناة
مقداد خالد هو واحد من جملة 1.9 مليون سوداني فرّوا من منازلهم في مناطق المعارك في العاصمة الخرطوم، وبصورة أقل من مناطق دارفور وكردفان، إلى المدن الآمنة وإلى دول مصر وإثيوبيا وأفريقيا الوسطى وتشاد وجنوب السودان.
وفضّل أكثر من 1.4 مليون شخص من مجموع الفارّين النزوح داخل المناطق الآمنة، حيث يقيم بعضهم مع أسرهم وأقربائهم، والبعض الآخر استأجر شققًا أو منازل مهيَّأة للسكن “مفروشة”، فيما استقر البقية في مراكز إيواء مؤقتة غالبًا ما تكون في المدارس يقوم على خدمتهم فيها متطوعون.
وإضافة إلى هؤلاء، تقيم 12 ألف أسرة في مدينة وادي حلفا شمال السودان، في انتظار العبور إلى مصر التي شددت إجراءات منح تأشيرة دخول السودانيين إليها، فيما يبدو أنه لمخاوف أمنية، رغم أن التشدد يعدّ انتهاكًا لاتفاق الحريات الأربعة الخاص بحرية التنقل والتملك والإقامة والعمل لمواطني البلدَين.
وجميع الـ 1.9 مليون شخص الفارّين واجهوا صعوبات جمّة، بداية من المجازفة بحياتهم أثناء خروجهم من منازلهم في ظل الاشتباكات العنيفة، مرورًا بتعرضهم لاستغلال من أصحاب المركبات العامة الذين رفعوا أسعار تذاكر السفر لأضعاف مضاعفة، وليس انتهاء باستغلال ملّاك العقارات.
يقول أبو عبيدة عادل (27 عامًا)، الذي فرَّ مع زوجته إلى مدينة عطبرة شمال السودان، إنه اضطر استئجار شقة صغيرة بمبلغ 600 جنيه (نحو 1000 دولار) شهريًّا، فيما لا يصل راتبه من المصرف الذي يعمل فيه نصف هذا المبلغ.
وأضاف في حديثه لـ”نون بوست” أنه باع حلي زوجته فاطمة إبراهيم، من أجل تغطية إيجار شهرَين ينتهيان بنهاية يونيو/ حزيران الحالي، دون أن يعرف كيفية تدبير مبلغ إيجار الشهر المقبل.
ويشير إلى أنه لا يستطيع الذهاب إلى أسرته في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور، بسبب سيطرة ميليشيات على المدينة، ما دفع أسرته إلى مغادرتها نحو مدينة إدري التشادية.
وظلت ميليشيات عربية تدعم قوات الدعم السريع ترتكب انتهاكات فظيعة في الجنينة على أساس عرقي، اعتبارًا من 23 أبريل/ نيسان الفائت، شملت القتل على أساس عرقي والتهجير القسري ونهب الأسواق والأحياء السكنية ومؤسسات الدولة ومقرات المنظمات العاملة في المجال الإنساني.
الفقر يلاحق السودانيين مثل ظلهم
كان هناك 15.5 مليون سوداني بحاجة إلى مساعدات إنسانية، لكن الحرب رفعت عددهم إلى 24.7 مليون شخص -حوالي نصف السكّان-، وتخطط الأمم المتحدة وشركاؤها الإنسانيون إلى تقديم مساعدات لـ 18.1 مليون شخص، بقيمة إجمالية تبلغ 2.6 مليار دولار.
يعطي انعدام الأمن الغذائي لنصف السكان صورة عامة عن استشراء الفقر في البلاد الغنية بمواردها الطبيعية، والتي اُستغلَّت من النافذين على مدى سنوات طويلة نتيجة سيطرة العسكر على مقاليد الحكم فيها.
تقول الأمم المتحدة إن خطتها الإنسانية تلقت تمويلًا بنسبة 15.7% فقط، وينبئ ضعف الاستجابة الدولية لتقديم مساعدات وبوادر فشل الموسم الزراعي المطري الحالي واتّساع نطاق الحرب وارتفاع الأسعار، بأن السودان مقبل على مجاعة في الأشهر المقبلة.
كانت تماضر أبو بكر تتلقى مساعدات من صندوق الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، قبل أن تغادر العاصمة الخرطوم بحثًا عن الأمان في مدينة ود مدني بولاية الجزيرة، لتستقرَّ مع طفلتها الوحيدة، والتي أنجبتها من زوجها الذي هجرها منذ 3 سنوات، في مدرسة هيَّأها ناشطون لتكون مركز إيواء مؤقت.
تقول تماضر لـ”نون بوست” إنها كانت تعمل بائعة شاي في شارع البلدية وسط الخرطوم، لكن عملها الذي تعتاش منه توقف بسبب الاشتباكات العسكرية، وهي تعيش الآن على الوجبات التي يعدّها المتطوعون في المدرسة.
وقبل الحرب، كانت آلاف النساء يعملن كبائعات شاي في الشوارع، وهي أشبه بالمقاهي الشعبية الرخيصة، ولا شك أنه بعد اندلاعها توقفت أعمالهن نظرًا إلى انعدام الأمن، ما يجعلهن فريسة للفقر.
وضاعفت الحرب من أزمات السودانيين، إذ فقدَ عشرات الآلاف من العاملين في القطاع الصناعي الذي يساهم بنحو 21% من الدخل الإجمالي المحلي، أعمالهم مؤقتًا بعد تعرض معظم المصانع في العاصمة الخرطوم لعمليات نهب واسعة وقصف بطيران الجيش الحربي.
وتوقفت أيضًا رواتب عشرات الآلاف من العاملين في القطاع الحكومي، نظرًا إلى توقف عمل مؤسسات الدولة، رغم محاولات بعض الوزراء ممارسة مهامهم من مدينة ود مدني ومدينة بورتسودان شرق السودان، لكن دون فعالية.
وضع مزرٍ في المناطق المستضيفة
ركزت الأنظمة الحاكمة على إقامة البنية التحتية وتقديم الخدمات من العاصمة الخرطوم التي منها حُكمت بقية المناطق مركزيًّا، فيما جرى تجاهل الولايات الأخرى من التنمية.
وهذا الأمر جعل ولاة الولايات لا يملكون صلاحيات لمعالجة أوضاع العاملين في القطاع الحكومي، إذ إن الرواتب كانت تصلهم من العاصمة، ناهيك عن تنميتها، ونتيجة لذلك تعاني الولايات من بنية تحتية متهالكة، بما في ذلك المستشفيات التي غدت مكدّسة بالمرضى وسط نقص حادّ للاحتياجات الطبية.
ولم تهتم الحكومات المحلية لمناطق السودان برقابة الأسواق ومحطات خدمة الوقود وأسعار إيجار المنازل، ما جعل أسعار السلع والخدمات تخضع لمطامع التجار والملّاك الذين يهتمون بجني أكبر قدر من الأرباح من أزمة الفارّين من القتال.
ويقول الخبير في المنظمات الإنسانية، محمد عبد المجيد، في تصريح لشبكة “عاين“، إن الوضع الإنساني في الولايات “كارثي للغاية”، فـ”ملايين السودانيين هائمون على وجوههم في الولايات، وهم يواجهون شحّ الغذاء والأدوية والمال، والمجتمعات المستضيفة أفرغت ما لديها من مؤن ومال”.
ويضيف: “نحو مليون شخص في أكثر من 15 ولاية سودانية وضعهم الآن معقّد في النواحي الإنسانية، لم يحصلوا على الأجور، ووزارة المالية لا تملك الحل لأن التغطية المالية غير متوفرة لدى السلطة الحالية”.
لم يكن في السودان حكومة منذ الانقلاب الذي نفّذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي” في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، إذ قام الأول بإعادة تعيين بعض الوزراء وفقًا لاتفاق تقاسم السلطة مع الحركات المسلحة، الموقّع قبل عام من الانقلاب.
وبعد الانقلاب، أوقفت الدول الغربية والمؤسسات المالية العالمية انسياب قروض وتعهدات تبلغ مليارات الدولارات، مشترطة استئنافها بعودة الحكم المدني، ليزيد هذا الأمر من التردي الاقتصادي الذي يعيش فيه السودان منذ عقد على الأقل.