تستعد القاهرة لاستضافة قمة إقليمية لدول الجوار منتصف يوليو/تموز الحاليّ، لبحث سبل وقف القتال الدائر في السودان منذ 15 أبريل/نيسان الماضي بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بمشاركة قادة كل من من ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإريتريا، بجانب إثيوبيا.
تأتي تلك القمة في ضوء فشل شبه كامل لكل الجهود الدبلوماسية المبذولة لاحتواء الموقف المتصاعد الذي خلف وراءه عشرات القتلى ومئات آلاف النازحين، داخليًا وخارجيًا، وكان مقررًا لها في النصف الأول من مايو/أيار الماضي، قبيل القمة العربية التي عقدت في جدة في 19 مايو/أيار، لكن تم تأجيلها بناءً على طلب بعض دول الجوار لمنح القاهرة فرصة للتشاور معهم، بحسب مصادر دبلوماسية.
ليس هناك تفاصيل معلنة – حتى كتابة هذه السطور – بشأن القمة وجدول أعمالها، كما أنه لم يتم التأكيد بعد على إرسال الدعوات للدول المقرر مشاركتها، لكن البعض يعول عليها في تحريك المياه الراكدة في هذا الملف الدموي خاصة أن القاهرة تحاول العودة من بعيد للانخراط في المشهد السوداني بعد تهميش منذ بداية الحرب في ظل ما يمثله هذا الملف من تهديد للأمن القومي المصري ناحية الجنوب والغرب.
الفشل سيد الموقف
عشرات الوساطات والجهود الدبلوماسية بُذلت منذ اندلاع المواجهات قبل ثلاثة أشهر تقريبًا، غير أن جميعها مُني بالفشل في ظل هيمنة الاستقطابات على المشهد، واتساع الهوة بين الساعة والأخرى بين البرهان وحميدتي، فالجهود السعودية لم تجن حصادها المتوقع في ظل اتهام الرياض بدعم البرهان.
الأمر كذلك بالنسبة لهيئة الإيغاد المرفوضة من الجيش وقياداته، هذا بخلاف فشل الوساطة الإثيوبية في ظل ما يلاحق أديس أبابا من اتهامات بالانحياز لحميدتي وقوات الدعم السريع، الوضع ذاته مع إفريقيا الوسطى وتشاد وجنوب السودان، بجانب التحركات الأممية غير المتوافق عليها، الأمر الذي حول الجهود الدبلوماسية المبذولة إلى ما يشبه الإبحار عكس التيار والسير في حلقة مفرغة، مضيعة للوقت وإهدار للجهد يدفع الشعب السوداني وحده ثمنه الباهظ.
وأمام هذا الفشل الذي يحكم الميدان، تزداد وتيرة القتال بين الجنرالات بشكل بات يمثل خطورة كبيرة، ليس على الداخل السوداني فقط، بل امتد إلى دول الجوار بعدما باتت الحدود مستباحة وتحولت إلى ساحات معارك ضارية، هذا في الوقت الذي تستمر فيه مغذيات الحرب الخارجية في تقديم الإمدادات المستمرة لطرفي القتال.
ومن هنا وفي ظل تلك الأجواء غير المبشرة لم تجد القاهرة بدًا من ضرورة الانخراط في المشهد بشكل مباشر، وذلك بعد الميل نحو التزام الحياد بداية الأزمة ومسك العصا من المنتصف باعتبار أن ما يحدث لدى الجار الجنوبي شأن داخلي، إلا أن تفاقم الوضع واشتعال المعارك في خاصرتها الخلفية دفعها نحو إعادة تموضع للتعاطي مع هذا الملف وفق مقاربات مختلفة نسبيًا عما كانت عليه قبل شهرين.
مقاربات القاهرة
العبث في الحديقة الخلفية ربما يضع الأمن القومي المصري في خطر حقيقي، ما يتطلب التخلي عن فكرة الحياد والاكتفاء بموقف المراقب من بعيد دون التوغل في المشهد بشكل فعال، خاصة في ظل الأجندات المتعددة التي تسعى لتحقيق مصالحها في تلك المنطقة الإستراتيجية من القارة الإفريقية.
ولتلك الحرب سيناريوهات أربع، ثلاثة منها ترفضها القاهرة، أو بالأحرى تخشاها لما ينطوي عليها من مهددات كبيرة، الأول أن ينتصر الجيش السوداني وهنا قد يعود فلول النظام السابق من الجماعات الإسلامية – خاصة الإخوان – إلى المشهد مرة أخرى، الثاني يتعلق بفوز قوات الدعم السريع ما يعني العودة لنظام الميليشيات التي تمثل كابوسًا للأمن المصري الإقليمي، أما السيناريو الثالث فهو الإبقاء على الوضع الحاليّ، حيث الاستمرار في القتال، وهنا مكمن الخطورة الأصعب.
ثمة دوافع تجبر القاهرة على الغوص في مستنقع الأزمة السودانية، متخلية بشكل أو بآخر عن فكرة الحياد، ومتراجعة عن سياسة ترك الساحة للقوى الإقليمية الأخرى للقيام بهذا الدور منفردة، لكن تبقى الرغبة والقدرة على تحقيق ما فشل فيه الآخرون مسألة محسومة بعدة محددات
فيما يأتي السيناريو الرابع والأخير الذي لا ترضى القاهرة عنه بديلًا، وهو التوافق السياسي والحل الدبلوماسي لتلك الأزمة، ووقف الحرب عبر تفاهمات بين الطرفين المتحاربين، بما يمهد نحو مرحلة جديدة من الاستقرار والهدوء السياسي والأمني، ويمهد أيضًا نحو بيئة مناسبة لعودة النازحين لبلادهم مرة أخرى، علمًا بأنه منذ بداية الحرب نزح ما يقرب من 200 ألف سوداني للأراضي المصرية، مع احتمالية تزايد هذا العدد كلما استمر القتال.
وخلال الآونة الأخيرة حاولت القاهرة بذل المزيد من الجهود الدبلوماسية لرأب الصدع بين الأطراف المتقاتلة في السودان، إلا أن الجهود الإقليمية الأخرى حالت دون تفعيل خطواتها بشكل كبير، ولعل الزيارة التي قام بها نائب رئيس مجلس السيادة السوداني مالك عقار إلى القاهرة قبل فترة تعكس هذا الدور وإمكانية قيام الجانب المصري به بشكل كبير، هذا بخلاف التعاون الاستخباراتي بين البلدين منذ بداية الأزمة.
ومن هنا يعول البعض على قدرة القاهرة على تحريك المياه الراكدة في هذا الملف، وذلك لما تتمتع به من اتصالات استخباراتية مع طرفي الأزمة، رغم ما أثير قبل ذلك بشأن دعم القيادة المصرية للجيش بقيادة البرهان، إلا أن المستجدات التي شهدتها الحرب دفعتها لإعادة النظر في مواقفها السابقة والعمل على فتح قنوات اتصال مع الجانبين من أجل حلحلة الأزمة سياسيًا.
3 محددات
احتمالية نجاح القاهرة فيما فشلت فيه السعودية وجنوب السودان وإفريقيا الوسطى وإثيوبيا والإيغاد والأمم المتحدة ليست بالأمر القطعي، حتى إن كانت موجودة فهي بالطبع ليست بنسب كبيرة، في ظل العقبات والتحديات التي تواجه عملية الحل السلمي بشكل فعال، خاصة مع إصرار البرهان وحميدتي على المضي قدمًا في طريق التصعيد، ورفض كل منهما العودة خطوة للوراء من أجل إسدال الستار على تلك الحرب.
ومن هنا فإن هناك بعض المعطيات التي تحكم مدى نجاح القاهرة في تلك المهمة من عدمه، حصرها الكاتب الصحفي محمد أبو الفضل في 3 محددات رئيسية: الأول حصول الجانب المصري على ضمانات من البرهان وحميدتي لتنفيذ مخرجات القمة، أيًا كانت، بجانب القوى المدنية والحركات المسلحة الأخرى التي تشكل الخريطة السياسية والعسكرية للسودان.
ومن هنا فإن الأمر يبدو صعبًا للغاية، ففي حال التوصل إلى إتفاقات تميل لكفة طرف دون الآخر فليس هناك ضمانات لإجبار الطرف الآخر على الالتزام بها، حتى إن أبدى موافقته على ذلك في أثناء القمة، فما الضمانات الرادعة التي تجبره على الوفاء بما التزم به، وعليه فالعملية تحتاج إلى جهود دبلوماسية مكثفة.
أما المحدد الثاني فهو إقليمي بامتياز، حيث الهوة الكبيرة بين مواقف دول الجوار بشأن الأزمة، ففريق يدعم الجيش والآخر يدعم الدعم السريع والثالث يقف على الحياد، ومن هنا فإن تقليل تلك الهوة وردمها بشكل كامل مسألة شاقة سياسيًا وتحتاج إلى جهود مضنية في هذا الوقت الضيق، خاصة أن العلاقات المصرية مع دول الجوار تشوبها الكثير من علامات الاستفهام والتوتير، إذ إن التشكيك في النوايا وحرب الاستقطابات المشتعلة تمثل المعضلة الأولى في مواجهة الحل الدبلوماسي لحرب الجنرالات السودانية.
فيما يأتي البعد الدولي كثالث المحددات لإنجاح القمة في تحقيق أهدافها، إذ إن الحرب لم تكن بين البرهان وحميدتي كما يظن البعض، فهي أكبر من ذلك وتتشابك بشكل أو بآخر بأجندات دولية كبيرة، ولا يمكن إيقافها دون إذن من الممولين والداعمين لها، إقليميًا ودوليًا، وهو أمر تعيه القاهرة جيدًا، ومن ثم يجب أن تضعه في الحسبان على جداول أعمال هذا اللقاء.
ثمة دوافع تجبر القاهرة على الغوص في مستنقع الأزمة السودانية، متخلية بشكل أو بآخر عن فكرة الحياد، ومتراجعة عن سياسة ترك الساحة للقوى الإقليمية الأخرى للقيام بهذا الدور منفردة، لكن تبقى الرغبة والقدرة على تحقيق ما فشل فيه الآخرون مسألة محسومة بعدة محددات، فهل تنجح مصر في مهمتها الجديدة أم ستضاف تلك القمة إلى قائمة الجهود الدبلوماسية الفاشلة؟