“لم أتخيل يومًا أن العنف يمارس على المرأة في أصعب لحظاتها وأكثرها حرجًا.. في اللحظة التي تنتظر فرحة تولد من أحشائها”، تختصر “خنساء. ع” 25 عامًا، ما تعرضت له في أثناء وﻻدتها طفلها اﻷول، في أحد المشافي التي تقوم عليها إحدى المنظمات الإنسانية غير الحكومية.
وما بين آلام الوﻻدة التي تصفها خنساء بأنها أقرب إلى “الموت”، وتوقعاتها بالحصول على الرعاية ممن حولها، وجدت نفسها بين ألم المخاض واﻹهانة النفسية والجسدية، مستذكرةً آلام التهجير القسري الذي وعته من ريف دمشق.
تتابع خنساء وهي تنظر بعينين باكيتين، في حديثها لـ”نون بوست”: “شعرت بانقباضات الوﻻدة، مغصٌ وألم رافقه وهن عام، ذاك اليوم الذي أنهيت فيه شهري التاسع بالحمل، كان الألم ممزوجًا بأمل ترقب صغيري الذي تمنيته أنثى جميلة”.
وتستطرد “للفقر دور يغلب على خياراتك في التوجه إلى الطبيب أو المشفى، فارتفاع تكاليف الوﻻدة كان عائقًا ومانعًا لذهابي إلى مشفى خاص، فاتخذت القرار مع زوجي أن نختار أحد المشافي المجانية”.
“لم يكن الخيار مؤلمًا كثيرًا في البداية، قيل لنا إن الكادر الطبي الذي يعمل هنا، يعمل أيضًا في مشافٍ خاصة، ومع دخولي إلى قبو المخاض كانت اﻷجواء ساخنة بحرارة تلك الغرفة وربما أشد”، بحسب خنساء، وأضافت “لم يسمح لزوجي بالدخول، فقط أختي اﻷكبر سنًا مني، سمحت لها الممرضة، وبطريقة فجة في التعامل، كانت أولى حاﻻت الاستقبال المهينة”.
“لوحت بيدي لزوجي، لتبدأ بعد دقائق الصرخات تعلو المكان، قسم التوليد كان أشبه بالمشرحة، وحده التوسل إلى الله كان يطمئن قلبي، رغم أنه يكشف مقدار ما تعانيه النساء في تلك الغرفة التي يفصل بين أسرتها حاجز من ستارٍ أخضر اللون، متسخٌ وملطخ بقطراتٍ من الدماء على أطرافه”.
“على الجانب اﻷيمن مني علبة من البلاستيك مليئة بالشاش والقطن بلونٍ أحمر قاتم، من الدماء التي نزفت وسال بعضها على اﻷرض دون أن يتم تنظيفه بعد، ويبدو أنه دمج بأرضية الغرفة حتى صعبت إزالته”.
“ما شلحتي لسة؟! وبعدين معك في ورانا غيرك”، تلك كانت أول كلمةٍ أسمعها بعد أن وضعت “ملاك الرحمة” يدها على كتفي بعنف، تذكرت عبارة “رحمة” وأيقنت لحظتها معنى “أبالسة العذاب” التي تغتال روحك دون أن تموت، وتتهافت بعدها اﻷسئلة: “جاوبي بسرعة.. بأي شهر أنتِ؟”.
“استقبال لائق، في منطقة يفترض أنها ثارت على كل اﻷعراف والتقاليد التي رسخها نظام اﻷسد، وهجرنا من أجلها ومن أجل كرامتنا”، كما تقول خنساء وهي تجفف دموعها بمنديل تبلل وتمزق.
لم تترك القابلة المجال ﻷجيب عن أسئلتها، “نامي ع السرير”، بأسلوبٍ أقرب للإهانة منه إلى اﻷمر، وبدأت بفحصي، طلبت مني أن أشرب زجاجة كاملة من “زيت الخروع”، قالت إنه يساعد في تيسير الوﻻدة، “خدي اشربيها كاملة وما بدي شوف إقياء على بلاط المشفى وقرف”.
تتوقف خنساء قليلًا، تتلعثم قبل أن تكمل: “بكيت بصوتٍ مرتفع ﻷسمع الممرضة تنهرني، “حساسة كتير يا بنت”، ثم تضحك مع إحدى زميلاتها التي تقف إلى جانبها.. توسلت إلى الله أن يكون هذا حلمًا.. كنت وحيدة فلم يسمحوا ﻷختي بالدخول معي هنا.. تمنيت أن يزول اﻷلم.. أن أصحو من الكابوس.. أن يتوقف العنف بحقي كأنني متهمة”.
يُعرف “العنف التوليدي” وفقًا لمنظمة الصحة العالمية بأنه إحدى المشكلات الصحية العمومية التي تحدث نتيجة استخدام القوة والعنف البدني عن قصد، سواء للتهديد أم للإيذاء الفعلي ضد النفس أو ضد شخص آخر أو ضد مجموعة أو مجتمع، وقد يؤدي العنف أو يحتمل أن يؤدي إلى الإصابة أو الوفاة أو الضرر النفسي أو سوء النمو أو الحرمان، وقد أصبح العنف واحدًا من المشكلات الصحية الرئيسية في وقتنا الحاليّ، ولا يوجد بلد أو مجتمع لم يتأثر بالعنف.
خنساء ليست حالة نادرة في التعرض لمثل تلك المواقف، في الشمال المحرر، وفق استطلاع أجراه “نون بوست”، بعض النسوة تحدثن عن تفاصيل مشابهة، أو أقل إلى حدٍ ما، وهؤلاء اللواتي تعرضن إلى تعنيفٍ أقل، تعلمن من بعض ممن سبقتهن إلى تلك المشافي، أن مبلغًا ماليًا صغيرًا يوضع في “جيب القابلة أو الممرضة” يكفي لتعاملها بلطف لمدة ساعتين تقريبًا.
تقول خنساء: “لم أكن أعلم أن الدراهم مراهم، إلى هذه الدرجة، قد ﻻ ألوم هؤلاء، فالفقر والتربية يلعبان دورًا في شخصية الناس”.
بدأت مرحلة جديدة، عندما نادت إحدى الممرضات باسمي، بدأت ذات القابلة التي ينادونها “أم صطيف” بعملية ضغط شديد على بطني، وكنت لحظتها أنزف ويسيل الدم على قدمي، في تلك اللحظات ارتفع صراخي من الألم.
توقفت “خنساء” مُجددًا عن الكلام، وصوت بكاؤها يعلو، أمسكت منديلها المبلل، ونظرت إليه كان ممزقًا من الدموع، تهمس بصوت خافت: “ممزقةٌ أنا مثل هذا المنديل”، طلبت اﻻستراحة قليلًا، ما لبثت أن شربت قطرة ماء، وقالت: “صفعتني الممرضة على وجهي ﻷتوقف عن الصراخ، نعم كتمت صوتي من الخوف لدقائق، لكنني واصلت البكاء والصراخ. لم يكن بمقدوري إﻻ ذلك. اﻷلم شديد”.
للتعنيف مبرراته
على غير المتوقع، يبدو وفق وجهة نظر إحدى القابلات اللاتي وافقت على الحديث عن مسألة “التعنيف” خلال الوﻻدة، تقول القابلة القانونية “أم رفعت” (اسم مستعار) وتعمل في أحد مشافي مدينة الدانا شمال إدلب لـ”نون بوست”: “نلجأ أحيانًا إلى الشدة مع الحوامل في لحظاتٍ حرجة من الوﻻدة، هي لحظة نزول رأس الطفل، وعادةً يكون الصوت المرتفع نتيجة خوف القابلة، على اﻷم أو الجنين، لكنه يترافق مع الرغبة في تعزيز قوة اﻷم لتدفع بجنينها خارج أحشائها”.
تستطرد القابلة في حديثها، بأن بعض الحاﻻت تستدعي الشدة، كالضغط على الرحم بقوة، ونتيجة خوف المرأة في أثناء الوﻻدة، قد تغلق ساقيها فتخنق الجنين، ما يؤدي لموته، فإذا لم نجد تعاونًا نلجأ إلى رفع الصوت”، بالمقابل، لم تبرر بعض حاﻻت العنف التي شاعت، لكنها تراها قليلة، على الأقل، مما لمسته خلال عملها.
وأرجعت عدد من السيدات اللواتي استطلعنا رأيهن في إدلب وريف حلب، أن الحاﻻت التي تعرضن فيها للعنف خلال مرحلة الوﻻدة والمخاض، كانت في المشافي المجانية، وبنسبةٍ أقل في المشافي الخاصة، وبلغ عدد من استطلعنا رأيهن 25 سيدة في أعمارٍ مختلفة، ومن مناطق مختلفة، معظمهن مهجرات.
بدورها، تقول “سمية. ف” (فضلت عدم ذكر اسمها كاملًا) وهي مدربة في مؤسسة مدنية، إنها تعرضت للعنف في أثناء الوﻻدة، في أحد مشافي إدلب، لكن بدرجة أقل مما سمعت به من مشتكيات وصديقات لها في المشافي الأخرى.
ورجحت اﻷحمد أن معرفة الكادر الطبي بمكانتها ووظيفتها خفف عليها، فضلًا عن كونها دفعت بعض النقود للممرضات والقابلة قبل دخولها إلى غرفة العمليات (وكانت ولادتها قيصرية).
تقول “الأحمد” لـ”نون بوست”: “إدراة المشافي المجانية تتحمل هذا الخلل، بينما نتحمل نحن كجهات مدنية بتقديم التوعية للنساء الحوامل بحقوقهن، لكن الكثيرات يسكتن عن المطالبة بحقهن ويكتفين بالصمت أو في بعض اﻷحيان الخوف من تجربة وﻻدة ثانية”.
بالمقابل، تنفي بعض المنظمات وجود مثل تلك المشاكل، التي يراها أحد إداريي إحدى المنظمات اﻹنسانية فضل عدم التصريح عن وظيفته ومكان عمله، أن التعميم خاطئ، ويرى أنه حال حدثت مثل تلك الحاﻻت فاللجوء إلى صندوق الشكاوى هو الحل.
ذرائع خلف العنف
ترجح اﻷستاذة “هيفاء” مسؤولة في إحدى المنظمات اﻹنسانية امتنعت عن ذكر اسمها الصريح، واكتفت بالقول إنها تعمل في منظمة “شام” الإنسانية، بالقول: “المشكلة في أساسها مالية بحتة، فالقابلات والممرضات يشعرن بأنهن يتعرضن للغبن، حيث تتراوح أجورهن بين 5000 ألف ليرة تركية إلى 6 آلاف ليرة شهريًا، وهو ما ﻻ يتناسب برأيهن مع حجم وضغط العمل في مشافٍ مكتظة بالمرضى.
لكن بالمقابل، لا تبرر الأنسة هيفاء حدوث مثل تلك اﻷخطاء، وتؤكد أن الكلام والذرائع صحيحة في ظل الفقر الذي يعيشه الشمال المحرر، وتشير إلى غياب عدالة توزيع اﻷجور، مقارنة باﻷطباء المختصين الذين تقل ساعات دوامهم وحجم الضغط مقارنة بالقابلات اللواتي يتحملن الجزء اﻷكبر من ضغط العمل.
يذكر في هذا السياق، أن حالة الفقر التي يعيشها أبناء المناطق المحررة شمال سوريا، بلغت ذروتها، متزامنة مع انخفاض وانعدام فرص العمل، وارتفاعٍ حاد في مستوى البطالة، حيث يعيش في منطقة إدلب ما يزيد على 4 ملايين نسمة، أغلبهم وربما معظمهم من المهجرين قسرًا على خلفية اﻻحتجاجات الشعبية ضد نظام اﻷسد، ويعيش هؤلاء ظروفًا إنسانيةً صعبةً.
وتؤكد “مديرية صحة إدلب” أن المنطقة بحاجة إلى 100 مركز توليد، على أقل تقدير، بينما يوجد في إدلب 22 مركزًا فقط مختص بالولادة الطبيعية، في حين بلغ عدد المشافي المختصة بالتوليد 8 فقط.
مخاوف ما بعد الوﻻدة
تترتب على مثل تلك الحاﻻت من العنف، مخاوف من تجدد تلك الظاهرة، بحسب ما ترويه السيدات ل”نون بوست”، اللواتي تعرضن للتعنيف، خلال الوﻻدة، وهو ما تخشاه “خنساء” التي ترفض أن تدخل مشفى مجاني مرة ثانية.
وأجرى مراسل “نون بوست” جولة على بعض المشافي الخاصة، للاطلاع على أجور التوليد، التي تراوحت ما بين 90 دولارًا أمريكيًا للوﻻدة الطبيعية و150 دولارًا أمريكيًا للوﻻدة القيصرية، فيما تختلف قيمة اﻷدوية حسب الحالة وفي حدها اﻷدنى تقترب من 20 دوﻻرًا.
للقانون رأيه
تجزم المحامية هديل الصالح في حديثها ل”نون بوست”، أن معظم النساء اللواتي تعرضن لمثل تلك الحاﻻت من التعنيف لم يتوجهن إلى القضاء، أو على أقل تقدير يخشين الدخول في هذه المتاهة، بالتالي، يصعب وضع حدٍ لمثل تلك الظاهرة، التي قد تزداد، ما لم يتم تحريك الملف قضائيًا وإعلاميًا في آنٍ واحد.
وترى أنه من المعيب على اﻷقل في منطقة ثارت من أجل الكرامة وضحت بأوﻻدها وأعز ما تملك أن تعيش مثل تلك الحاﻻت من “اﻹهانة” بحق المرأة وأن تعنف في أحرج لحظات حياتها، وليس أقل من توثيق حاﻻت العنف من خلال كاميرا الموبايل، ونشرها إن لم ترغب المتعرضة لحالة العنف اللجوء إلى القضاء أو مكاتب الشكوى في المشافي، بحسب اﻷستاذة هديل.
من جهةٍ أخرى، فإن التعميم أمر غير منطقي ويتنافى مع المهنية اﻹعلامية، لكن تسليط الضوء على مثل تلك الحاﻻت في المجتمع أمر بات من الضرورة، في مجتمع ثوري ناضل من أجل الحرية والكرامة اﻹنسانية.
ويؤكد مراسلنا أن جولة في بعض المشافي المجانية والخاصة، تؤكد وجود كادر طبي متميز في تعامله مع المرضى إنسانيًا وأخلاقيًا، فضلًا عن التمتع بالخبرة الطبية.
فيما تؤكد المعايير الدولية أن حقوق النساء في غرفة الولادة كثيرة أهمها بأن يُعلِم الطبيب/ة السيدة بالإجراء الطبي الذي سيتم اتخاذه، وأن يتأكد أولًا أنها فهمت تمامًا الإجراء.
وكذلك تنص المعايير الدولية بأنه يحق للمرأة رفض التعامل مع طبيب أو ممرض محدد، واستبداله، وكذلك طلب التواصل مع إدارة المشفى للإبلاغ عن أي انتهاك تتعرض له في غرفة الولادة.