ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال قمة مجموعة السبع التي انعقدت هذه السنة في مدينة هيروشيما اليابانية، لخّص الرئيس الأمريكي جو بايدن رؤيته للسياسة الخارجية في كلمتين: “الديمقراطيات تحقق النجاح“.
إنه شعور يشترك فيه العديد من القادة الديمقراطيين الآخرين، مثل رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين ورئيسة تايوان تساي إنغ وين، الذين يسعون إلى إظهار النجاح الديمقراطي في وقت خيبة أمل ديمقراطية واسعة النطاق. ولكن ما المقصود بنجاح الديمقراطيات؟ وكيف يمكنها تحقيق ذلك بشكل أفضل؟
في كتابه الأخير بعنوان “هزيمة الدكتاتوريين: كيف يمكن للديمقراطية أن تسود في عصر الرجل القوي”، يطرح الكاتب تشارلز دونست هذه الأسئلة مجادلًا بأن الديمقراطيات قدمت أشياء عظيمة في الماضي، من خطة مارشال إلى الهبوط على سطح القمر، لكن الأنظمة الديمقراطية تتعثر اليوم.
وإذا أرادت الديمقراطيات الحفاظ على تفوقها في المنافسة العالمية ضد الأنظمة الاستبدادية، فسوف تحتاج إلى تحديد عيوبها ومعالجتها. وفقط عندما تزدهر الديمقراطيات في الداخل، يمكنها تعزيز قوتها وتأثيرها في الخارج – وإقناع العالم بأن النموذج الديمقراطي يستحق الإعجاب والمحاكاة.
الأنظمة الاستبدادية الصغيرة مثل سنغافورة والإمارات توضح كيف يمكن للأنظمة غير الليبرالية أن توفر لشعبها نوعية حياة فاخرة حتى بحرمانهم من الحقوق السياسية الأساسية
وفقًا لدونست، فإن الحكومة يمكنها توفير “حياة كريمة” لمواطنيها. وهذا يعني عمومًا ضمان الاحتياجات الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم، ومؤسسات حكومية وظيفية وعادلة، واقتصاد قوي.
ويلاحظ دونست أنه عبر التاريخ، حققت الديمقراطيات النجاحات بفضل أنظمتها الحرة والمفتوحة والمستقرة. وكما جادل أحدنا في كتاب حديث، فقد تفوّقت الديمقراطيات باستمرار على الأنظمة الاستبدادية المنافسة على مدى الـ 2500 سنة الماضية، من الإغريق في مواجهة الفرس وصولًا إلى الحرب الباردة.
لكن دونست يحذّر من أن الأنظمة الاستبدادية اليوم أصبحت أكثر قدرة وجاذبية مما كانت عليه في الماضي، مما يهدد هيمنة الأنظمة الديمقراطية التي طال أمدها. ويجادل بأن الأنظمة الاستبدادية الصغيرة مثل سنغافورة والإمارات العربية المتحدة توضح كيف يمكن للأنظمة غير الليبرالية أن توفر لشعبها نوعية حياة فاخرة – حتى بحرمانهم من الحقوق السياسية الأساسية. وفي الحقيقة، يعتبر نظام الإسكان المدعوم في سنغافورة أو خدمات الرعاية الصحية المجانية في الإمارات جذابة للكثيرين.
يمكن للأنظمة الاستبدادية الأكبر أن تحقّق النجاحات أيضًا في بعض الأحيان. ويقول دونست إن الصين، على الرغم من تراجعها الأخير، قطعت أشواطًا كبيرة في البنية التحتية وقطاع التعليم والنمو الاقتصادي على امتداد العقود القليلة الماضية. ووفقًا لدونست، كانت الديمقراطيات تكافح مع شبكات الأمان الاجتماعي المتهالكة أو غير الموجودة، والبنية التحتية القديمة، والاستقطاب السياسي، وغيرها من التحديات، بينما تبني الأنظمة الاستبدادية مطارات جديدة وشبكات سكك حديدية عالية السرعة. وليس من المستغرب أن يبدأ البعض في التساؤل عما إذا كانت الأنظمة الاستبدادية فعالة بنفس القدر – إن لم يكن أكثر من ذلك – في تقديم حياة أفضل لمواطنيها من الديمقراطيات.
ويجادل دونست بأن ذلك لا يعني أن الديمقراطيات محكوم عليها بالفشل وإنما تحتاج إلى إعادة توجيه واتباع استراتيجيات أفضل وطويلة الأجل لتعزيز الحكم الرشيد والتنافس بشكل أفضل مع الصين والأنظمة الاستبدادية الأخرى. وهو يقدم سلسلة من التوصيات السياسية لتجديد الديمقراطية تشمل الاستثمار في رأس المال البشري والابتكار، وبناء بنية تحتية مادية ورقمية قوية للقرن الحادي والعشرين، وتحسين قطاع الرعاية الصحية وحقوق العمال، والقضاء على الفساد، وسنّ سياسات الهجرة الذكية لجذب أفضل وألمع المواهب إلى الدول الديمقراطية.
عمومًا، يعتبر كتاب “هزيمة الدكتاتوريين” عملا إبداعيًا ومحفزًا للتفكير تدعمه إحصاءات مدروسة للغاية، وروايات قوية، وقائمة من التأييد البارز من المدافعين عن الديمقراطية على الطرفين في الولايات المتحدة ومن جميع أنحاء العالم. كما أنه يوفّر نظرة ترحيبية ومتفائلة في الغالب حول موضوع يثير الكثير من التشاؤم في الآونة الأخيرة.
تطرق أولا إلى المنهجية مشكوك فيها. يستشهد دونست بأنجح الديكتاتوريات في العالم، مثل سنغافورة والإمارات العربية المتحدة، ويحدد نجاحاتها السياسية التي يجب على الديمقراطيات أن تحاكيها.
لكن هذا التركيز على الأنظمة الاستبدادية الشاذة للغاية يخاطر بتجاهل الصورة الأوسع والأكثر قتامة للديكتاتوريين في جميع أنحاء العالم، التي تحدّث عنها دونست بإيجاز. فبعد كل شيء، من المرجح أن تحقق الديكتاتوريات فشلا ذريعًا أكثر من تحقيق نجاحات بارزة. فعلى سبيل المثال، هناك علاقة قوية بين الحكم الاستبدادي ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي المنخفض. علاوة على ذلك، تعد كل من سنغافورة والإمارات دولتين صغيرتين. ومن المشكوك فيه أن تحاكي كبرى الدول الأخرى نموذجهما – سواء كانت أنظمة استبدادية أو ديمقراطية.
العديد من توصيات دونست المعقولة غير واقعية، وهو ما يعترف به شخصيا. ولن يكون تمرير حقوق التصويت الشاملة أو تشريع إصلاح الهجرة في الولايات المتحدة وكبرى الديمقراطيات الأخرى أمرًا سهلاً. ومن المحتمل أن تكون بعض حلوله لكسر الجمود – حتى يكون الساسة “أكثر جرأة ” و”شجاعة” – غير كافية.
إن عدم القدرة على فرض تغيير هائل في الواقع سمة – وليس خللا – للديمقراطية. فحثّ الديمقراطيات، كما يفعل دونست، على التغلب على انقساماتها ومواردها الضخمة للاستثمار في الأولويات الرئيسية يشبه نصح الديكتاتوريين بفرض ضوابط وتوازنات على أنفسهم لتقييد عملية صنع القرار المتهورة. ولا تتوافق أي من مجموعتي التوصيات مع منطق النظام السياسي المعني.
يمكن للديمقراطيات هزيمة الديكتاتوريات من خلال تقديم أفضل ما لديها، بتوفير المؤسسات الاقتصادية المستقرة والحريات التي تطلق العنان للابتكار الاقتصادي الجذري ومعدلات النمو المرتفعة على المدى الطويل
ثانيًا، من خلال تأكيده القوي والمبرر على تجديد الأنظمة الديمقراطية على الصعيد المحلي، يتجاهل الكتاب في الغالب المزايا المهمة التي توفرها الديمقراطية في السياسة الخارجية. لقد أظهر باحثو العلاقات الدولية أن الديمقراطيات تبني تحالفات أكبر وأكثر فاعلية، ومن المرجح أن هذه الأنظمة توقع وتلتزم بالاتفاقيات الدولية، ومن المرجح أن تكسب الحروب التي تخوضها.
وفي خضم المنافسة الاستراتيجية بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية، قد تكون الإنجازات التي يمكن أن تحققها الديمقراطيات معًا أكثر أهمية من الإنجازات التي يمكنها تحقيقها بشكل منفصل في الداخل. وفي أعقاب الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا سنة 2022، كانت هناك وحدة عالمية حرة ملحوظة، حيث عملت الولايات المتحدة وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا معًا لمعاقبة روسيا وتقديم المساعدة لأوكرانيا.
وفي العديد من المجالات التي يدافع فيها دونست عن الاستثمارات الديمقراطية، مثل التقنيات الناشئة، ستكون الديمقراطيات أكثر نجاحًا إذا تظافرت الجهود وعملت معًا. فعلى سبيل المثال، يمكن لتحالف تكنولوجي ديمقراطي أن يساعد العالم الحر في الحفاظ على تفوقه الابتكاري وأن يعمل على ترسيخ المعايير الديمقراطية في تقنيات القرن الحادي والعشرين. ويمكن أن تساعد الشراكات التجارية والاقتصادية الديمقراطية الجديدة في “إزالة المخاطر” وتأمين سلاسل التوريد من الإكراه الاستبدادي وتقليل الاعتماد المفرط على الصين وروسيا
من المؤكد أن تحقيق التوازن بين الأولويات المحلية والتزامات الحلفاء سيكون دائمًا مهمة صعبة، كما يتضح من إحباط أوروبا الأخير من نهج واشنطن “اشترِ منتوج أمريكي” لابتكار الطاقة النظيفة. مع ذلك، فإن التنسيق الدولي الأكبر بين الديمقراطيات ذات التفكير المماثل ينطوي على إمكانات هائلة.
في النهاية، يمكن للديمقراطيات هزيمة الديكتاتوريات من خلال تقديم أفضل ما لديها. ويجب أن تستمر في توفير المؤسسات الاقتصادية المستقرة والحريات التي تطلق العنان للابتكار الاقتصادي الجذري ومعدلات النمو المرتفعة على المدى الطويل. ويجب عليها استخدام ثقلها الاقتصادي المشترك لبناء القوة العسكرية اللازمة لردع الأنظمة الاستبدادية الرجعية. ويجب عليها توسيع وتعميق تحالفاتها وشراكاتها مع الدول ذات التفكير المماثل لتعزيز الأهداف المشتركة وتطوير استراتيجيات العالم الحر في المستقبل. كما يجب عليها مراعاة نصيحة دونست، إلى أقصى حد ممكن، وتقوية مجتمعاتها ومؤسساتها لإطلاق العنان لإمكانات الديمقراطية الكاملة في الداخل.
المصدر: فورين بوليسي