كان من المتوقع بقوة أن يطبّق البنك المركزي التركي سياسة رفع الفائدة، وهذا التوقع مرجعه تعيين محمد شيمشك وزيرًا للمالية عقب تشكيل الحكومة الجديدة، والتسريبات التي أشارت إلى اشتراطه أن يكون مستقلًّا بسياسته وإدارته للاقتصاد.
وتحقق ذلك بالفعل، فقد اجتمع البنك المركزي يوم 22 يونيو/ حزيران وقرر رفع سعر الفائدة 650 نقطة أساس، لتصل إلى 15% بعد أن كانت 8.5% نتيجة سياسة متشددة في خفض الفائدة بدأت منذ عامَين.
هذا التحول الراديكالي بطبيعة الحال كانت له ردة فعل عنيفة ظهرت على سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، حيث كسرت حاجز الـ 25 ليرة أمام الدولار لأول مرة، وحاجز الـ 27 ليرة أمام اليورو، وذلك منذ الساعات القليلة والتي تلتها حتى صباح اليوم التالي من قرار البنك المركزي.
بعيدًا عن انعكاسات ذلك على السوق، كان هناك سؤال مهم يتعلق بالدافع وراء تغيير الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، تصميمه على سياسة خفض الفائدة التي بدأها أواخر عام 2021، وتأكيده على مواصلة ذلك حتى خلال الحملة الانتخابية للانتخابات الأخيرة.
لا يمكن التعامل مع قرار البنك المركزي الجديد على أنه تغيُّر عادي في وجهة نظر أردوغان، فقناعته فيما يتعلق بضرورة خفض الفائدة لم تتغير، ولقد كان ذلك واضحًا للغاية على لسان الرئيس التركي نفسه، حيث قال على متن طائرة العودة من أذربيجان منتصف الشهر الحالي: “لم أتغير”.
ما دافع أردوغان وما الذي جرى؟
خلال تصريحات أردوغان ذاتها آنذاك، استدرك عدم تغيره بموافقته ومنح الضوء الأخضر لسياسة شيمشك، والموافقة على السياسات “التي يجب اتخاذها بسرعة وسهولة من قبل البنك المركزي، لهدف رئيسي هو “مكافحة التضخم””.
إذًا، التضخم المتفاقم في تركيا على كافة الأصعدة في العقار والأسواق هو الهاجس الأكبر بالنسبة إلى الرئيس التركي والحكومة الجديدة، ولذلك يمكن القول إن تحقيق هذا الهدف سيكون بمثابة تحدٍّ للوزير شيمشك وسياسة رفع الفائدة التي اصطدمت بجدار صلب، ظلّ أردوغان يعزز دعائمه منذ فترة.
ما يريد أردوغان قوله إن قناعته بسياسة خفض الفائدة لم تتغير، لكنه مضطر قبول وضع جديد نزولًا عند رغبة وإرادة الكثيرين، حول ضرورة وجود إدارة اقتصادية مستقلة لمكافحة التضخم المرتفع، والذي لا شك أنه كان عاملًا في تراجع أصوات الحزب والرئيس في إسطنبول وأنقرة، وهما المدينتان الأكثر تضررًا.
تناغمًا مع استعداد العدالة والتنمية للانتخابات البلدية، يريد الحزب تجاوز ولو قدر قليل من عائق الأزمة الاقتصادية، من خلال النجاح في خفض الأسعار المرتفعة.
في تصريحات أردوغان ذاتها، أكّد أن الهدف والعزم قائمان على خفض التضخم إلى خانة الآحاد، بعد أن انخفض لأول مرة منذ عام إلى 39% بحسب بيانات هيئة الإحصاء التركي والتي نشرتها مطلع يونيو/ حزيران الحالي، ما يعني أن قبول أردوغان بالوضع الجديد متعلق بهذا الإطار.
في الوقت ذاته، يستعدّ حزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة أردوغان للانتخابات المحلية “البلديات” مطلع عام 2024 المقبل، ومن مصلحة الحزب أن يدخل الانتخابات بوضع اقتصادي مريح، لا سيما في إسطنبول وأنقرة اللتين خسرهما في انتخابات 2019 المحلية.
من المعلوم أن أردوغان أوعز لإدارة وكوادر حزبه بالبدء في الاستعداد للانتخابات المحلية، وهي خطوة سبّاقة أربكت أحزاب المعارضة التي يبدو أنها لا تزال منشغلة بتصفية حسابات الانتخابات التي خرجت منها خاسرة تحالفات وأحزابًا، في السباقَين الرئاسي والبرلماني على حد سواء.
وتناغمًا مع هذا الاستعداد المبكر، يريد الحزب تجاوز ولو قدر قليل من عائق الأزمة الاقتصادية، من خلال النجاح في خفض الأسعار المرتفعة ورفع ذلك كإنجاز أمام ناخبي مدينة إسطنبول، والتي يبدو أنها ستفتقد مرشحًا قويًّا في صفوف المعارضة، في ظل تركيز رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو على أزمة حزبه الشعب الجمهوري الداخلي، ومنافسه رئيسه كمال كليجدار أوغلو.
كيف انعكس رفع سعر الفائدة على المشهد السياسي والمعارضة؟
رغم أن القرار كان متوقعًا، فإن ردود فعل أحزاب المعارضة، وهي متوقعة كذلك، كانت عنيفة، فقد كانت تدعو إلى تطبيق سياسة رفع الفائدة منذ وقت، وتساءلت اليوم عن سبب تأخير تطبيق ذلك رغم كل الضرورات التي تدعو إلى رفع الفائدة.
صدرت العديد من الانتقادات من قبل أحزاب الشعب الجمهوري والجيد واليسار الأخضر وغيرها، لكن يبدو أن خسارة الانتخابات مؤخرًا وانشغال المعارضة بالمحاسبات الداخلية وتصفية الحسابات، أفقد تلك الانتقادات وقعها على الرأي العام الذي بدا متعطشًا لأي حلّ سليم يساهم في إيقاف عجلة التضخم وارتفاع الأسعار.
ويمكن تشبيه ما جرى بسياسة التطبيع وتخفيف حدة التوترات التي يُرى أن تركيا بدأتها منذ عام 2021، وساهمت في تطبيع العلاقات مع العديد من بلدان المنطقة، حيث استقبلت المعارضة كذلك أيضًا بأنها كانت تدعو لذلك من قبل، وأن ما قالته سابقًا تبيّن أنه الأصح، وتحدثت كما كل مرة عن “عناد” في غير محله للرئيس أردوغان وإدارته.
لكن في الحقيقة وإلى جانب البراغماتية التي لا تقبل المجاملة أو التخفي في إدارة الرئيس أردوغان، هناك جانب أبعد من ذلك وهو “المحاسبة والإصلاح” داخليًّا على مستوى الإدارة والحزب، فمن حين إلى آخر وعقب كل انتخابات، يشهد حزب العدالة والتنمية تغييرًا واسعًا ومناقشات لأهم الأخطاء أو الإنجازات، والعمل على تعويض القصور وتعزيز النجاحات.
وهذا الأمر تفتقده جُلّ أحزاب المعارضة في الواقع، وأقرب مثال لذلك هو تمسك رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو برئاسة الحزب، بعد خسارة كبيرة مزدوجة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، بعد ما لا يقل عن 10 خسارات متتالية منذ عام 2010.
ملامح المرحلة القادمة وخطة شيمشك “الإصلاحية”
على صعيد سياسة رفع الفائدة، من المتوقع أن يواصل شيمشك ذلك في إطار تشديد السياسة النقدية بهدف كبح جماح التضخم، وجذب معدل أعلى من تدفقات العملات الأجنبية من الخارج.
ومن المستبعد على المدى القريب أن يصدر تدخل معاكس ما من قبل الرئيس التركي، حيث أن تعيين شيمشك منذ مرحلة مبكرة كان يقوم على ضرورة استقلال الإدارة الاقتصادية في صنع واتخاذ القرار.
وكما أشرنا، فإنّ تحقيق انعكاس واقعي نتيجة سياسة شيمشك هي التحدي الأكبر للوزير، لكن عقب خفض التضخم بالفعل هل من الممكن أن يكتفي أردوغان بإصلاحات شيمشك ويعود لإدارة الملف الاقتصادي بنفسه؟ هذا غير منطقي، ومستبعد على المدى القريب والبعيد، لا سيما مع تعيين أردوغان رجل اقتصاد قوي نائبًا له، وهو جودت يلماز، والذي يبدو متناغمًا مع الوزير محمد شيمشك.