أعلنت الإدارة الذاتية التابعة لقوات سوريا الديموقراطية شمال شرق سوريا أنها ستبدأ محاكمة الآلاف من السجناء الأجانب لديها من مقاتلي تنظيم “داعش”، وتقديمهم إلى محاكمات وصفتها بالعلنية والعادلة والشفافة، وفق بيان أصدرته “قسد” في 10 يونيو/حزيران.
وأكدت الإدارة في بيانها الذي نشرته على صفحتها بموقع “فيسبوك” أنها ستعمل على محاكمتهم بما يتوافق مع القوانين الدولية والمحلية الخاصة بالإرهاب، وبما يحفظ حقوق المدعين من الضحايا وأفراد أسرهم.
وأضافت أنها اتخذت قرارها “بسبب عدم تلبية المجتمع الدولي لنداءاتها ومناشداتها للدول لاستلام مواطنيها من التنظيم، وإحقاقًا للحق، وإنصافًا للضحايا، وتحقيقًا للعدالة الاجتماعية”، وأضافت أن المحاكمة لا تعني عدول الإدارة عن رأيها في ضرورة إنشاء محكمة دولية أو محكمة ذات طابع دولي خاص بملف إرهابيي التنظيم.
ودعت الإدارة، التحالف الدولي والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية المعنية والمنظمات المحلية، للانخراط بشكل إيجابي وتقديم الدعم خلال جميع مراحل المحاكمات، ولفتت إلى أن بقاء الأوضاع على ما هي عليه لا يمكن أن يدوم أكثر من ذلك، وأن عدم تقديم العناصر للقضاء والعدالة أمر مناف للقوانين والاتفاقيات الدولية، بالإضافة إلى تزايد خطورة الوضع الأمني في حال بقائهم واستمرارهم على هذا الحال.
وذكرت الإدارة أنها منذ هزيمة التنظيم في بلدة الباغوز (آخر معاقله في ريف دير الزور الشرقي) عام 2019، ناشدت وطالبت مرارًا المجتمع الدولي بالقيام بمسؤولياته في إيجاد حلول لملف عناصر تنظيم “داعش” المحتجزين لديها.
كما أوضحت الإدارة في بيانها أنها طرحت مبادرات لكل الدول المعنية والمنظمات الحقوقية والأممية من أجل تشكيل محكمة دولية أو محكمة ذات طابع دولي، لكي يمثل أمامها عناصر التنظيم وفق ما تتوافر لدى مؤسسات الإدارة من أدلّة ووثائق دامغة تدينهم بارتكاب أفظع الجرائم الإرهابية مع داعميهم بحق أبناء ومكونات المنطقة.
أضاف البيان “في آخر معقل للتنظيم في الباغوز، تم اعتقال أكثر من عشرة آلاف مقاتل خطر من التنظيم، وهم قابعون الآن في مراكز الاحتجاز لدى الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال شرق سوريا، علاوةً على وجود عشرات الآلاف من أفراد أسرهم، أغلبهم من الأطفال والنساء يقيمون الآن في مخيمات شمال وشرق سوريا”.
وسبق أن أكد قائد القيادة المركزية للقوات الأمريكية، مايكل كوريلا، أن “قسد” تدير 28 سجنًا لأسرى تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في شمال شرق سوريا، وذلك خلال رده على سؤال في مؤتمر صحفي عبر الهاتف يوم 23 ديسمبر/كانون الأول 2022.
ويبدو أن نساء التنظيم الأجنبيات لن يحاكمن في إطار المحكمة التي أعلنت عنها إدارة “قسد”، ونقلت “وكالة نورث برس” المقربة من “قسد”، عن خالد إبراهيم، عضو الهيئة الإدارية في دائرة العلاقات الخارجية للإدارة الذاتية، أنه “لا توجد خطة لمحاكمة النساء في المخيمات لأننا نعتبرهم مع أطفالهم ضحايا لهذه الحرب العبثية”، وبحسب إبراهيم، فإن المحاكمات يمكن أن تبدأ قريبًا، وسيتولى مجلس العدالة الاجتماعية في شمال شرق سوريا الإشراف على المحكمة، وسيصدر المجلس بيانًا بشأن تفاصيل عملها.
وأضاف “باعتبار أن عقوبة الإعدام ملغاة بموجب العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية، فإن عقوبة بعض عناصر التنظيم قد تصل إلى مدد طويلة، بحسب لائحة الاتهام والأدلة لدى الأجهزة القضائية في الإدارة الذاتية وشهود العيان من أبناء المنطقة واعترافات العناصر”.
أهداف القرار
ورأى رئيس مركز رامان للبحوث والاستشارات، بدر ملا رشيد، في حديث لموقع “نون بوست”، أن “قرار الإدارة الذاتية يأتي كرد فعل على التهرب الأوروبي والغربي عمومًا، وعدم الاستجابة لمطالب الإدارة بخصوص ملف معتقلي التنظيم الأجانب واستعادتهم من دولهم، أو بخصوص إنشاء محكمة تقاضيهم وفق معايير دولية وباعتراف دولي”.
وأضاف رشيد “القرار يحقق للإدارة عدة أهداف، أهمها إعادة ملف معتقلي التنظيم إلى أجندة الدول المنخرطة في الشأن السوري، فالإدارة الذاتية ترغب كما يبدو بإعادة تسليط الضوء على وجودها كفاعل أمني وعسكري شمال شرق سوريا”.
ملف عناصر داعش يمثل عبئًا كبيرًا على الإدارة الذاتية، وتتهرب الكثير من الدول الأصلية لهؤلاء العناصر من المسؤولية في ظل تسارع خطوات التطبيع مع النظام السوري من العديد من الأطراف الغربية والعربية، ويبدو أن القرار يرجع في بعض مدلولاته إلى تخوف “قسد” من خسارة ملف معتقلي التنظيم كورقة سياسية لصالح النظام السوري مثلًا.
وأوضح أن “التطبيع والانفتاح على النظام قد يتيح للأخير التحكم بملف معتقلي التنظيم في حال طلب منه ذلك، على اعتبار أن النظام ما زال قائمًا كسلطة حاكمة ولديه قوانين تفرض عقوبة الإعدام بعكس الإدارة الذاتية التي ليس لديها اعتراف دولي كدولة على بقعة جغرافية محددة، ولا قوانين تفرض عقوبة الإعدام”.
عمليات استعادة عناصر التنظيم الأجانب من دولهم خلال السنوات القليلة الماضية كانت انتقائية، ولأهداف معينة، وما جرى بالفعل هو استعادة مجموعات وشخصيات قليلة من سجون “قسد”، وبالأخص من العراق وبعض الدولة الأوروبية، وهؤلاء تمت استعادتهم لتحقيق أهداف أمنية واستخباراتية ومتابعة خلايا التنظيم والتوسع في عمليات الاعتقال، بينما ما زالت الأعداد الكبيرة من معتقلي التنظيم الأجانب تقبع في السجون.
المطالبات المبكرة من “قسد” بخصوص إنشاء محكمة دولية لمقاضاة عناصر التنظيم لم تلق أذانًا صاغية رغم النقاشات الأوربية المبكرة في هذا الخصوص، أي بعد هزيمة التنظيم مطلع عام 2019 مباشرة، ويحقق إنشاء محكمة دولية عدة أهداف لقسد، أبرزها تحصيل اعتراف دولي بوجودها كقوة فاعلة ورسمية على الجغرافيا السورية، وهذا ما ترفضه تركيا.
الموقف الأوربي منقسم بدوره، فالكثير من الدول تركت هامشًا للعلاقة مع النظام السوري وتريد ضمنيًا أن تتم محاكمة عناصر التنظيم من النظام، أو على الأقل لم تكن ترغب في إعطاء “قسد” صلاحيات إنشاء محكمة خارج سلطة النظام كي لا تقطع العلاقة مع الأخير.
الموقف الغربي
لقي قرار الإدارة التابعة لقسد شمال شرق سوريا، صدى واسعًا في الإعلام الدولي باعتباره يتعلق بمصير آلاف المعتقلين الأجانب من دول مختلفة، وقضيتهم من أكثر القضايا الأمنية والحقوقية تعقيدًا، إذ إن العديد من الدول لم تقبل بإعادة رعاياها الذين انضموا إلى صفوف التنظيم خشية أن قوانين مكافحة الإرهاب لن تضمن لهم عقوبات سجن طويلة، بالإضافة إلى مجموعة من المخاوف المتعلقة بكل دولة، وأهم تعليق غربي على محاكمة عناصر التنظيم الأجانب، جاء في تقرير لوكالة رويترز نقلته عما وصفته دبلوماسي غربي يعمل في سوريا، الذي وصف القرار بالمفاجئ، قائًلا للوكالة: “لم يعتقد أحد أنهم سيفعلون ذلك. نحن نأخذ الأمر على محمل الجد لأنهم يحتجزون الكثير من الناس، لكن هذه قضية منفصلة عن محاكمتهم”.
وكانت الفكرة قد نوقشت في الماضي لكن تم تهميشها نوعًا ما بسبب الاستفسارات المتعلقة بشرعية محكمة إقليمية تعمل بشكل منفصل عن النظام السوري، وقال الدبلوماسي إن مثل هذه المحاكمات ستحتاج إلى مستويات عالية من الأمن بشكل خاص وخطر هروب عناصر التنظيم سيزداد.
قالت اختصاصية مكافحة الإرهاب في منظمة هيومن رايتس ووتش، ليتا تايلر: “على المجتمع الدولي إما دعم المحاكمات في شمال شرق سوريا، بما في ذلك بالموارد، وإما دعم المحاكمات في الداخل أو في دولة ثالثة”، وأضافت لرويترز “أي شيء أقل من ذلك ليس فقط انتهاكًا لحقوق هؤلاء المعتقلين في محاكمة عادلة، إنه أيضًا صفعة على وجه ضحايا داعش وأفراد أسرهم الذين يستحقون تحقيق العدالة في جرائم داعش”.
دعوات سابقة
بدأت عمليات الاعتقال الواسعة بحق عناصر وقادة التنظيم منذ عام 2015، ووصلت ذروتها عام 2019 مع القضاء على آخر نقاط سيطرة “داعش”، وكان التنظيم قد خسر آخر معاقله في الباغوز بريف محافظة دير الزور شرق سوريا، في مارس/آذار 2019، بعد حرب دامت خمس سنواتٍ تقريبًا، تم خلالها السيطرة على جزء كبير من الجغرافيا السورية من “قسد” المدعومة من التحالف الدولي ضد التنظيم.
وبعد أشهر قليلة من انتهاء المعارك ضد التنظيم بدأت “قسد” تتحدث عن عزمها إقامة محاكمات لعناصر التنظيم القابعين في سجونها، وبدأت جديًا المطالبة بتأسيس محكمة دولية لمقاضاة المعتقلين، وكان تركيزها منصبًا على المعتقلين الأجانب.
بعد هزيمة التنظيم، وفي النصف الثاني من عام 2019 تكررت زيارات الوفود الغربية الرسمية إلى مناطق سيطرة “ٌقسد” شمال شرق سوريا، وجعلت “ٌقسد” الحديث عن إنشاء محاكم تقاضي معتقلي التنظيم على أجندة أعمالها خلال اللقاءات مع وفود الزائرين من هولندا وبلجيكا والسويد وفرنسا وغيرهم.
ففي يونيو/حزيران 2019، أرسل وزير الخارجية الهولندي رسالة إلى إدارة “ٌقسد” يؤكد فيها دعمه لإنشاء محكمة دولية لمحاكمة عناصر التنظيم، حسبما أكدت أمل دادا الرئيسة المشاركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية في ذلك الوقت، ومعظم الطروحات الأوروبية في تلك الفترة بقيت في إطارها الشفهي ولم تتحول أي من جزئياتها الى حيز التطبيق، حتى الجزء المتعلق بمساعدة إدارة “قسد” على تأسيس محكمة ودعمها ماليًا، أو الموافقة على الفكرة.
وفي يوليو/تموز 2019، نظمت “ٌقسد” فعاليات المنتدى الدولي حول تنظيم “داعش” في بلدة عامودا بريف القامشلي التابعة لمحافظة الحسكة، وخصصت الجلسات والحوارات لإيجاد طرق قانونية وإنشاء محاكم مختصة لمحاكمة مسلحي التنظيم المعتقلين لديها.
وكانت المرة الأولى التي تدعو فيها إدارة “قسد” بشكل رسمي لإنشاء محاكم دولية لمقاضاة معتقلي التنظيم، في 7 يناير/كانون الثاني 2020، جاء ذلك في مؤتمر صحفي عقدته دائرة العلاقات الخارجية في مبناه بمدينة القامشلي، وأشار بيان الإدارة إلى أن ملف أكثر من 10 آلاف مقاتل من تنظيم “داعش”، إضافة إلى عشرات الآلاف من عوائلهم من أكثر من 50 دولة، هو “ملف خطير جدًا، ويشكل عبئًا كبيرًا ويحتاج إلى تعاون دولي كبير”.
وفي 5 فبراير/شباط 2020 كشف عبد الكريم عمر الرئيس المشارك لدائرة العلاقات الخارجية في إدارة “قسد”، أنهم أخبروا وزارة الخارجية الفنلندية، عزمهم محاكمة عناصر التنظيم المعتقلين لديهم في مارس/آذار 2020، ودعا عمر الدول للتشارك والتعاون قانونيًا ولوجستيًا في محاكمة هؤلاء العناصر، كما شدد خلال حديث مع مواقع إعلامية مقربة من “ٌقسد” حينها، على ضرورة تعاون المجتمع الدولي وإنشاء محكمة دولية خاصة بمحاكمة عناصر التنظيم على أراضي “الإدارة الذاتية”.
تجربة أولية
عمليًا، يمكن القول إن “ٌقسد” بدأت التمهيد لإنشاء محكمة تقاضي من خلالها عناصر التنظيم الأجانب منذ بداية عام 2020، وبدأت حينها العمل على جمع وتجهيز الخبرات البشرية في هذا الاتجاه، وأولت المهمة لمجلس العدالة الاجتماعية الذي بدأ بمحاكمة 900 معتقل من التنظيم، وهم سوريون، ونقلت مواقع إعلامية مقربة من “قسد” مطلع العام 2020، عن عضو في مجلس العدالة الاجتماعية لشمال وشرق سوريا، قوله: “900 عنصر من عناصر التنظيم من الجنسية السورية تتم محاكمتهم منذ بداية عام 2020، وتتم محاكمتهم في محكمتين بشمال وشرق سوريا، إحداهما في قامشلي والثانية في كوباني/عين العرب، وترتبط هاتان المحكمتين التي يطلق عليهما تسمية “محكمة الدفاع عن الشعب” بشكل مباشر بمجلس العدالة لشمال وشرق سوريا” بحسب خالد علي العضو في المجلس.
وأضاف علي أن القوانين المطبقة في المحاكمة هي التي جاءت في المرسوم رقم 20 الصادر عن المجلس التشريعي في شمال وشرق سوريا، ويضم المرسوم قوانين جزائية لمعاقبة مرتكبي جرائم الإرهاب، وأشار إلى أنه يتم الرجوع إلى القانون السوري عند عدم وجود مادة قانونية تنص على معاقبة الجرم المرتكب في المرسوم.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، طورت إدارة “ٌقسد” القانون المعمول فيه في “محكمة الدفاع عن الشعب”، حيث صادق المجلس العام في الإدارة على توحيد قانون محاكمة سوريين متهمين بقضايا الإرهاب، يتألف من عشرين مادة، وقال خالد علي، عضو مجلس العدالة الاجتماعية لمواقع إعلامية تابعة لقسد، إن الهدف من المصادقة على قانون مكافحة الإرهاب هو توحيد القانون في كل الإدارات والأقاليم التابعة للإدارة.
وأشار علي إلى أن القانون السابق كان يثير تساؤلات من المجتمع المحلي والدولي والمستشارين القانونيين الدوليين بشأن جوانب غفلت عنها القوانين المعمول بها سابقًا، والتطوير الذي حصل حاول الإلمام بجميع الجوانب واستدراك النقص وإعطاء الإعفاءات والأعذار لمن يُسلّم نفسه، وعرّف قانون مكافحة الإرهاب، المصادق عليه من المجلس العام، “الإرهاب” و”الإرهابي” و”المنظمة الإرهابية”، كما حدد العقوبات الواقعة على مرتكبي قضايا “الإرهاب”.