منذ عشية انتخابات الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية التركية في 28 مايو/ أيار المنصرم، بدا من الواضح أن المرشح الرئاسي الخاسر وزعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، كمال كليجدار أوغلو، غير عازم على التنحي من رئاسة حزبه، رغم الخسارات المتتالية منذ قيادته للشعب الجمهوري عام 2010.
في تلك الليلة، تحدث كليجدار أوغلو عن “مواصلة الكفاح”، بينما كانت مشاعر الحزن تسيطر على جماهير الحزب وأنصاره، مثل بقية داعميه من تحالف الأمة المعارض/ الطاولة السداسية، دون تقديم اعتذار أو إشارة لمحاسبة داخلية باتت حتمية.
بعد تسجيل ما لا يقلّ عن 10 خسارات انتخابية ما بين برلمانية أو رئاسية واستفتاءات شعبية، كان من المتوقع أن يحسم كليجدار أوغلو قضية تنحيه عن الحزب ويعتذر لمناصريه، ويفسح المجال أمام قيادة جديدة تمكّن المعارضة من تحقيق فوز طال انتظاره، لكن ذلك لم يحدث.
كانت خسارة الانتخابات الرئاسية الأخيرة بمثابة “استفتاء” بحسب تعبير كليجدار أوغلو، وهي المرة الأولى التي يواجه فيها خصمه التقليدي الرئيس رجب طيب أردوغان وجهًا لوجه، ولذلك لم تكن خسارة عادية، وأجبرت شخصيات كبيرة في الحزب عن الحديث بقوة عن “التغيير”.
إلى جانب النداءات التي دعت عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى ضرورة استقالة كليجدار أوغلو من رئاسة الحزب، صرّحت شخصيات سابقة وحالية لها وزنها في الشعب الجمهوري بذلك، في حين اتّبع البعض استراتيجية التصريحات الملغومة، مثل أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول.
رغم قرار كليجدار أوغلو بتغيير اللجنة المركزية العليا في حزب الشعب الجمهوري، والمسؤولة عن القرارات المفصلية للحزب، فإن هذه الخطوة لم تكن كافية للجم أفواه المطالبين بالتغيير.
على رأس هؤلاء إمام أوغلو، وهو شخصية اكتسبت حضورًا وأثارت جدلًا منذ فوزه برئاسة بلدية إسطنبول لصالح حزبه الشعب الجمهوري، وانتزاعها من يد العدالة والتنمية بعد نحو عقدَين من الزمن لأول مرة.
تحدث إمام أوغلو وشخصيات أخرى في الشعب الجمهوري، مثل أوزغور أوزال، عن ضرورة التغيير، وأن تغيير اللجنة المركزية “لا يكفي”، ما دفع كليجدار أوغلو أخيرًا إلى الحديث عن التغيير.
تصريحات كليجدار أوغلو التي جاءت الثلاثاء 13 يونيو/ حزيران كانت “حمّالة أوجُه”، فهو اتفق مع ضرورة التغيير وعدم الغضب من الناخبين الذين لم يصوتوا له، لكن في الوقت ذاته اعتبر نفسه قبطان سفينة وأنه ملزم “بإيصال السفينة إلى الميناء بأمان”.
بمعنى أدق، يبدو أن كليجدار أوغلو لا يريد هذه المرة إغلاق الباب كاملًا أمام دعوات التغيير، وسيعقد محادثات ونقاشات حول ذلك مع أبرز الشخصيات المطالبة بذلك، إلى حين انعقاد المؤتمر الحزبي العادي منتصف أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
ومن المقرر أن يلتقي كليجدار أوغلو بإمام أوغلو صباح اليوم الأربعاء 14 يونيو/ حزيران، فهو الأبرز في المشهد ويحشد الداعمين له داخل الحزب لمواجهة كليجدار أوغلو، ومع ذلك هناك ما يمكن وصفه بـ”اللوبي” داخل الحزب نفسه غير راضٍ عن وصول رئيس بلدية إسطنبول إلى رئاسة الشعب الجمهوري.
بناءً على تلك المحادثات التي ستسبق المؤتمر الحزبي العادي، هناك احتمالان للاستراتيجية التي يريد كليجدار أوغلو اتباعها لتحديد مصيره في قيادة الحزب من عدمه.
الاحتمال الأول هو استراتيجية “المراوغة”، وهو ما فعله سابقًا مع منافسه الداخلي محرم إنجه الذي وجد نفسه مضطرًا لمغادرة الحزب عام 2021، بعدما يأس من الإطاحة بكليجدار أوغلو عبر التصويت الحزبي لاختيار رئيس جديد.
الاحتمال الثاني هو أن يكون كليجدار أوغلو صادقًا فيما يعنيه من إيصال السفينة بأمان إلى الميناء، ويتفق مع بعض الشخصيات الحزبية وأعضاء اللجنة المركزية على اختيار خليفة له، وهذا يعني أن كليجدار أوغلو سيعلن استقالته مع انعقاد المؤتمر الحزبي العادي بعد شهور قليلة.
في الحقيقة، لا أرجّح الخيار الثاني، نظرًا إلى أنه مع مضيّ نحو شهر منذ انتخابات الجولة الأولى في 14 مايو/ أيار، لم تصدر عن كليجدار أوغلو إشارات تقوّي احتمالية استقالته، فهو لم يعتذر ولم يعترف بخطأ استراتيجيته في تقنية تحالف الأضداد التي اتّبعها، وكذلك في الحملة الانتخابية للجولة الثانية.
على جانب آخر، هناك ميرال أكشنار رئيسة حزب الجيد الحليف الخصم بالنسبة إلى كليجدار أوغلو، هي الأخرى تواجه دعوات للاستقالة من قيادة حزبها الذي أسّسته عام 2017، لكن بصورة أقل حدّة ممّا هي عليه في الشعب الجمهوري.
أكشنار تتوق لرؤية إمام أوغلو رئيسًا للشعب الجمهوري، وأعتقد أن ذلك سيكون أحد شروطها لمواصلة التحالف في الانتخابات المحلية (البلديات) عام 2024، إلى جانب شرط آخر متوقع، وهو مطالب الشعب الجمهوري بعدم طرح مرشح في بعض البلديات الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، بهدف دعم مرشح حزب الجيد.
ولعلّ هذا الأمر سيكون أحد التحديات التي ستضغط على كليجدار أوغلو كي يستقيل في نهاية المطاف، إذ إن عدم قبوله بذلك يعني خسارة مرشحي المعارضة في البلديات الكبرى المتأرجحة، مثل إسطنبول وأنقرة، لصالح العدالة والتنمية.
هذا في حال رضيت أكشنار مواصلة التحالف مع كليجدار أوغلو، فهي التي رفضت أن يكون المرشح الرئاسي عن الطاولة السداسية، وغادرتها، قبل أن تضطر للعودة بعد ضغوط كبيرة واتهامات لها بشقّ الصف من قبل أنصار الشعب الجمهوري.
في المحصلة، هناك تحديان رئيسيان أمام كليجدار أوغلو، الأول المؤتمر الحزبي الذي سيحدد مصيره بقيادة الحزب، والثاني هو الانتخابات المحلية التي إن دخلها رئيسًا للحزب فإن ذلك سيكون بمثابة “استخفاف” بأصوات داعمي الحزب والمعارضة عمومًا، التي طالبت بضرورة حدوث تغيير جذري بعد خسارة الانتخابات الأخيرة.
أعتقد أن كليجدار أوغلو استنفد جميع الأوراق التي كان يراهن عليها، كما يبدو أن جميع الفرص نفدت أمامه، ولم يعد هناك تبريرات مقنعة بشأن مواصلة قيادة الحزب رغم الخسارات المتتالية التي تراكمت عليه طيلة 13 عامًا منذ عام 2010.
وفي ظل حشد إمام أوغلو، وهو شخصية مؤثرة وقادرة على جمع شرائح مختلفة من الناخبين، رغم سجلّه غير المرضي للكثيرين فيما يتعلق بإدارته لبلدية إسطنبول، وإخفاقه في وضع بصمة ونجاحات في هذا السياق؛ لكن مع ذلك فإنه سيكون تحديًا كبيرًا أمام كليجدار أوغلو، خاصة إذا حصل على نسبة تأييد قوية من داخل الحزب.