شهدت الساحة المصرية خلال الأيام الماضية سجال حاد بين بعض المواقع الصحفية الإلكترونية والحكومة المصرية بسبب نشر تلك المواقع لتقارير تشير إلى تراجع الاستحقاقات الدستورية الخاصة بالإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي في الموازنة العامة الجديدة 2023/2024.
فما بين تأكيد المواقع لهذا التراجع ونفي الحكومة له تحولت منصات التواصل الاجتماعي خلال الساعات الماضية إلى معركة أرقام وبيانات وإحصاءات، بعضها يبرهن على زيادة تلك المخصصات خلال السنوات الأخيرة، فيما تفند أخرى هذا الأمر، منوهة إلى مستوى انخفاض كبير يعكس تراجع أهمية الصحة والتعليم في قائمة أولويات النظام الحاكم في مصر، مقارنة بالمخصصات المتعلقة بالمجالات الدفاعية والأمنية.
وزير المالية المصري محمد معيط في أثناء إلقاء البيان الختامي لمشروع الموازنة للعام المالى 2023-2024 أمام مجلس النواب (البرلمان) في 9/5/2023 قال: “حجم الإنفاق المستهدف للقطاع الصحي يبلغ 397 مليار جنيه، بينما يبلغ الإنفاق على قطاعات التعليم الجامعي وقبل الجامعي والبحث العلمي 691.5 مليار جنيه، ويبلغ إجمالي الإنفاق على القطاعين نحو تريليون و88 مليار جنيه”.
وينص الدستور المصري على التزام الدولة بتخصيص 4% من الناتج المحلي للإنفاق الحكومي على التعليم، و2% على التعليم الجامعي، بجانب 3% للإنفاق على الصحة، وذلك بداية من العام المالي 2016/2017، وهو ما لم يحدث مطلقًا طيلة السنوات الستة الماضية وفق الأرقام والإحصاءات الرسمية وغير الرسمية.
الرواية الحكومية
نفت الحكومة عبر مركزها الإعلامي ما أثير بشأن تراجع مخصصات الإنفاق على قطاعات الصحة والتعليم في الموازنة الجديدة، مؤكدة أن الأرقام الواردة التي تضمنتها الموازنة تشير إلى عكس ما يتم ترديده في منصات التواصل الاجتماعي، وأن الدولة ماضية قدمًا في زيادة تلك المخصصات عامًا بعد الآخر.
المركز مستندًا إلى بيانات وزارة المالية أوضح أن زيادة مخصصات القطاع الصحي للعام المالي الجديدة زادت بنسبة 30.4%، لتصل إلى نحو 397 مليار جنيه، مقارنة بـ304.5 مليار جنيه خلال العام المالي 2022/2023، أما مخصصات قطاع التعليم (الجامعي وقبل الجامعي) فوصلت إلى 591.9 مليار جنيه مقارنة بـ476.1 مليار جنيه خلال السنة المالية 2022/2023 وذلك بزيادة قدرها نحو 24.3%، كما ارتفعت مخصصات البحث العلمي بنسبة 17.5%، لتصل إلى نحو 99.6 مليار جنيه، مقارنة بـ84.8 مليار جنيه خلال العام المالي الماضي.
وتشير البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، إلى تطور الإنفاق الحكومي على الصحة خلال الـ10 سنوات الماضية بشكل ملحوظ، من32.7 مليار جنيه عام 2014/2013، إلى 42.4 مليار جنيه عام 2015/2014 بنسبة ارتفاع قدرها 29.5%، ثم 45 مليار جنيه عام 2016/2015 بنسبة ارتفاع قدرها 6%، و48.9 مليار جنيه عام 2017/2016 بنسبة ارتفاع قدرها 8.9%.
أما في عام 2017/2018 فزاد إلى 54.9 مليار جنيه بنسبة ارتفاع قدرها 12.2%، ثم 61.8 مليار جنيه عام 2019/2018 بنسبة ارتفاع قدرها 12.5%، و73.1 مليار جنيه عام 2020/2019 بنسبة ارتفاع قدرها 18.2%، ثم 93.5 مليار جنيه عام 2020/2021 بنسبة ارتفاع قدرها 28%، و108.8 مليار جنيه خلال عام 2022/2021 بنسبة ارتفاع قدرها 16.3%، و128.1 مليار جنيه خلال عام 2022/2023 بنسبة ارتفاع قدرها 17.8%، وصولًا إلى 397 مليار جنيه خلال العام المالي الجديد.
الأمر ذاته شهده قطاع التعليم الذي ارتفعت مخصصاته من 122.9 مليار جنيه خلال عام 2018/2019، إلى 145.2 مليار جنيه خلال عام 2019/2020، ثم 158.3 مليار جنيه خلال عام 2020/2021، و172.6 مليار جنيه خلال عام 2021/2022، و192.7 مليار جنيه خلال عام 2022/2023 وصولًا إلى 691 مليار جنيه في العام المالي الجديد.
لغة الأرقام.. تضليل ومواراة
السردية الحكومية على الورق ربما تكون صحيحة لكن في الواقع فإن لغة الأرقام هنا قد تكون مضللة بنسبة كبيرة وذلك وفق معيارين أساسيين: الأول خاص بقيمة المخصصات الفعلية، ما كانت عليه وما وصلت إليه، فعلى سبيل المثال كان حجم المخصصات الخاصة بقطاع الصحة عام 2012/2013 نحو 32.7 مليار جنيه (5.3 مليار دولار بسعر الدولار 8 جنيهات في المتوسط) أما في موازنة 2022/2023 فبلغت 128.1 مليار جنيه (3.2 مليار دولار بسعر الدولار 40 جنيهًا في المتوسط) في تراجع قيمته تزيد على 40% عما كان عليه قبل عشر سنوات.
أما فيما يتعلق بالتعليم، فكانت المخصصات عام 2028/2019 نحو 122.9 مليار جنيه (6.8 مليار دولار حينها بسعر الدولار 18 جنيهًا في المتوسط) فيما وصلت خلال موازنة العام الماضي 192.7 مليار جنيه (4.8 مليار دولار بسعر الدولار 40 جنيهًا في المتوسط) ما يعني تراجع قيمته بأكثر من 30% عما كان عليه قبل خمس سنوات.
أما المعيار الثاني الذي يكشف تضليل الحكومة للبيانات الواردة بشأن عدم تراجع المخصصات للقطاعين خلال الموازنة الحاليّة، فيتعلق بمفاهيم الإنفاق على التعليم والصحة بصفة عامة، حيث لجأ مجلس الوزراء إلى توسيع مجال تغطية قطاع الصحة والتعليم في الخدمات المقدمة ليشمل أمورًا أخرى لم تكن موجودة من قبل، لكن تم الزج بها لمضاعفة الأرقام المخصصة، حيث تم تبني تعريفات فضفاضة سمحت في بعض الأحيان باعتبار الإنفاق على الصرف الصحي على سبيل المثال من ضمن الإنفاق على القطاع الصحي.
كما تضمن التعريف الجديد للإنفاق على القطاعين إنفاق الهيئات الاقتصادية والشركات الخاصة عليهما، وليس فقط الموازنة الرسمية التي تقرها الدولة بشكل مباشر، وذلك بحسب تعبير مسؤول في وزارة المالية في تصريحاته لموقع “مدى مصر“.
فمثلًا في مجال الصحة توسع المفهوم ليشمل إنفاق المؤسسات التابعة لوزارة الصحة بالإضافة لـ”أي جهات أخرى تقدم خدمة صحية من قبيل مستشفيات الشرطة والدفاع والأزهر والتأمين الصحي الشامل والبرامج الخاصة به”، كما أضيف إلى حجم الإنفاق المفترض كذلك “نصيب قطاعات الصحة والتعليم من أعباء فوائد الديون، باعتبارها استفادت من تلك الديون” بحسب المصدر.
ومن هنا جاءت الازدواجية، فوفق بيانات الحكومة فإن مخصصات قطاع الصحة وصلت إلى نحو 397 مليار جنيه، والتعليم إلى نحو 591.9 مليار جنيه، ما يمثل 3.35% و4.99% من الناتج المحلي على الترتيب، أما وفق التعريف التقليدي الرسمي الذي أقره الدستور بعيدًا عن الإضافات الفضفاضة الأخيرة فإن مخصصات الصحة بلغت 147 مليار و864 مليون جنيه ، مقابل 229 مليار و891 مليون جنيه للإنفاق على التعليم، ما يمثل 1.25% و1.94% من الناتج المحلي، وهي أقل من النسبة التي أقرها الدستور البالغة 3% للصحة و6% للتعليم.
ومما يكشف هذا التضليل التقرير الصادر عن البنك الدولي الذي وثق تراجع الإنفاق على التعليم على سبيل المثال، وحذر من مغبة ذلك على الأداء العام لهذا القطاع بصفة عامة، حيث نقص أعداد المعلمين والفصول، ما يضع المنظومة برمتها تحت ضغط كبير سيقود في النهاية إلى نتائج سلبية، فيما طالب التقرير بمراجعة الإنفاق العام في مصر لقطاعات التنمية البشرية بصفة عامة، وعلى الأخص قطاعي التعليم والصحة.
مفارقة وعجز
في مقابل تراجع مخصصات التعليم والصحة تضمنت الموازنة زيادة اعتمادات بند الأجور المخصص للجهات السيادية (وزارة الدفاع وجهازي المخابرات العامة والحربية) بجانب مجلسي النواب والشيوخ، بنسبة 18.2% لتمويل الزيادة المقررة في أجور العاملين، حيث بلغت 145 مليارًا و83 مليون جنيه (4.7 مليار دولار) مقابل 122 مليارًا و700 مليون جنيه (نحو 3 مليارات دولار) في موازنة 2022-2023 بزيادة قدرها 22 مليارًا و383 مليون جنيه.
كما زادت الاعتمادات المخصصة لقطاع النظام العام وشؤون السلامة العامة (يضم خدمات الشرطة والسجون ووزارتي الداخلية والعدل والهيئات القضائية ودار الإفتاء) إلى 105 مليارات و564 مليون جنيه بدلًا من نحو 95 مليارًا و502 مليون جنيه في موازنة العام الماضي، بزيادة قيمتها 10 مليارات و62 مليون جنيه، وبارتفاع نسبته 10.5%”، علمًا بأن موازنة العام الماضي شهدت عجزًا كليًا بلغ نحو 484.4 مليار جنيه، بنسبة 6.1% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد سيطرت مخصصات أقساط وفوائد الدين الحكومي على النسبة الكبرى من الموازنة، حيث بلغت تريليونين و436 مليار جنيه من إجمالي إنفاق بلغ 4 تريليونات و349 مليار جنيه، بما يعني استحواذها على نسبة 56% من إجمالي الإنفاق موزعة بين 30.3% للأقساط و25.8% للفوائد، بحسب الخبير الاقتصادي ممدوح الولي.
أما المواطنون فلا يحصلون من الموازنة إلا على 44% منها فقط، وفق الخبير الاقتصادي، مقسمة على أبواب الموازنة الست (13.5% للاستثمارات الحكومية و12.2% للدعم و10.8% لأجور العاملين في الحكومة و3.3% لنفقات الجيش والبرلمان ومجلس الشيوخ والاشتراك في المنظمات الدولية و3.2% لشراء السلع والخدمات للجهات الحكومية و1% للمساهمات الحكومية في الهيئات والشركات القابضة المتعثرة).