عرف الفلسطيني في تاريخ نكبته واحتلال أرضه، الكثير من الخطط المتلاحقة التي تهدف إلى سلبه أرضه ووهبها على طبق من ذهب للاحتلال الإسرائيلي، بدءًا بقرار التقسيم في الأمم المتحدة عام 1947، وليس انتهاءً بـ”صفقة القرن”، والتي تنص في سطورها على ضمّ الضفة الغربية والمستوطنات إلى “إسرائيل”، وإبقاء الفلسطينيين يعيشون على جزر متفرقة منها لا يصل بينها أي اتصال جغرافي.
إحدى هذه الخطط كان خطة E1، وهي خطة قديمة متجددة تقاطعت في تفاصيلها مع خطط مختلفة، هدفها الرئيسي أن تعزل القدس عن أي ارتباط جغرافي بأراضٍ يسكنها الفلسطينيون، وأن تغلق المساحة الخالية الأخيرة المتاحة لنمو القدس الفلسطينية، وتخلق حاجزًا استيطانيًّا يجعل من المستحيل على الفلسطينيين القادمين من شمال الضفة الغربية أن يصلوا إلى القسم الجنوبي منها من دون شقّ طريق جديدة.
الحكاية تبدأ من أكبر تجمُّع استيطاني في الضفة المحتلة
على التلال الواقعة شرق القدس المحتلة، يقع حجر الأساس لمفهوم منع أي اتصال جغرافي فلسطيني، وهي نقطة الوسط المركزية في الضفة الغربية، تطل على العاصمة المقدسة من جهة وعلى وادي الأردن من جهة أخرى، ما أكسبها مزيدًا من الأهمية الاستراتيجية، وجعلها ضمن دائرة النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية.
في جميع أنحاء هذه المنطقة أقام الاحتلال الإسرائيلي مستوطنات غير شرعية، بما في ذلك معاليه أدوميم، وهي أكبر تجمع استيطاني في الضفة الغربية، وعلمون وكفار أدوميم وألون وقيدار، بالإضافة إلى مستوطنة ميشور أدوميم، ومنطقة نفوذ تبلغ 50 كيلومترًا مماثلة لتلك الموجودة في تل أبيب، رغم أنها تضم أقل من عُشر سكانها.
بالعودة إلى خطة E1، فإن أساساتها الأولى تعود إلى عام 1999، حين تمّت الموافقة على الخارطة الهيكلية للمنطقة شرقي القدس المحتلة، وهي تشمل قرابة 12 ألف دونم غالبيتها أراضٍ أعلنتها “إسرائيل” بأنها تتبع لأراضيها، وقد ضُمّت هذه الأراضي في سنوات التسعين إلى منطقة نفوذ مستوطنة معاليه أدوميم، والتي تشمل من وقتها قرابة 48 ألف دونم.
ويشمل المخطط في الأساس مساحات تقع شمالي شارع القدس-أريحا، وتتطابق حدود المخطط الشمالية والجنوبية بشكل كبير، مع مسار الجدار الفاصل المخطط في المنطقة، والذي من المفترض أن يبقي معاليه أدوميم في الجانب الإسرائيلي وعزلها عن مناطق الضفة الغربية المحاذية لها.
وتضمّ المنطقة ضمن مخطط E1 مساحات صغيرة من الأرض أو ما يطلق عليها اسم “جيوب” يملكها الفلسطينيون، تصل مساحتها إلى قرابة 775 دونمًا، ولا يمكن للاحتلال الإسرائيلي أن يعلنها أراضي دولة تتبع له، لكن مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة “بتسيلم”، يرى أن الواقع الحيزي الذي ينشئه المخطط سيقيّد جدًّا وصول أصحاب الأراضي الفلسطينيين إلى أراضيهم.
بدء التنفيذ: السيطرة التدريجية
منذ عام 1975، عندما تمَّ إنشاء معاليه أدوميم لأول مرة مع عدد قليل من الكرفانات المعزولة، كان الاحتلال يتوسّع في المستوطنات في هذه المنطقة من أجل إحكام سيطرته على شرق القدس وغور الأردن، وخلق تواصل بين هاتين المنطقتَين الاستراتيجيتَين في الضفة الغربية.
وفي ذلك الوقت، أنشأت “إسرائيل” شبكة طرق متقنة لربط معاليه أدوميم والمستوطنات التابعة لها ببعضها ومع القدس الغربية (التي يسيطر عليها الاحتلال منذ النكبة)، بالإضافة إلى طريق سريع رئيسي عابر للحدود يمرّ عبر أدوميم شرقًا إلى وادي الأردن.
في يوليو/ تموز 2004، أي بعد 5 سنوات من وضع الأساسات لمخطط الضمّ، بدأت وزارة المستوطنات الإسرائيلية (الإسكان والتعمير في التسمية الإسرائيلية) بأعمال تسوية الأرض في منطقة E1 للطرق الجديدة ولإعداد الموقع لمركز شرطة جديد، وخلالها أكمل الاحتلال العمل في مركزَين للشرطة، الأول بين الزعيم وعناتا والثاني على الطرف الشرقي لممرّ E1 قبالة الطريق المتاخم لمعاليه أدوميم.
وخلال السنوات الأولى للتنفيذ، استثمرت “إسرائيل” ما يقرب من 200 مليون شيكل (50 مليون دولار أمريكي) في ذلك الوقت في إعداد البنية التحتية في منطقة E1، من أجل تمهيد الطريق للبناء السكني المستقبلي والجوانب الأخرى للخطة، تبعها نصب لافتات على طول الطريق، والتي تقول: “مرحبًا بك في مافيسيريت أدوميم” (اسم المستوطنة السكنية الجديدة المخطط لها في E1، والتي لا وجود لها).
وتشير وثيقة لوحدة دعم المفاوضات حول خطة E1 ومعاليه أدوميم الصادرة عن منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي أصدر أمرًا عسكريًّا في سبتمبر/ أيلول 2007 بمصادرة 1128 دونمًا من الأراضي الفلسطينية الواقعة بين القدس الشرقية ومعاليه أدوميم، لبناء طريق “بديل” للفلسطينيين يربط جنوب الضفة الغربية بالأجزاء الشرقية والشمالية من الضفة الغربية، وتعود ملكية الأراضي المصادرة لقرى أبوديس والسواحرة ونبي موسى والخان الأحمر.
ويمتدّ مسار الطريق بشكل تقريبي بالتوازي مع الأجزاء الجنوبية والشرقية من جدار أدوميم خارج معاليه أدوميم، ما يعني استبعاد الفلسطينيين من استخدام الطريق الذي يمرّ عبر منطقة E1 ومعاليه أدوميم والطريق رقم 60 الذي يمرّ عبر القدس الشرقية، وبالتالي يبقي الفلسطينيين خارج القدس الشرقية.
مؤخرًا ذكرت صحيفة “هاآرتس” أن عام 2013 شهد إجراء مجلس التخطيط الاستيطاني في الإدارة المدنية نقاشًا تمهيدًا للشروع في خطط البناء الاستيطاني في المنطقة، بمبادرة من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وجرى المصادقة عليها، وفي ذلك الحين احتجّت بريطانيا وفرنسا على ذلك من خلال استدعاء سفيرَيهما في “إسرائيل”، وبعد الانتخابات في ذلك العام تمّ تجميد المخطط الاستيطاني.
وأشارت الصحيفة إلى أنه في عام 2017 جرت محاولة أخرى لتعزيز البناء الاستيطاني في المنطقة E1، عبر قانون ضمّ معاليه أدوميم بهدف تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنة، توطئة لتطبيق القانون نفسه على منطقة E1 التي تمَّ ضمها إلى أراضي بلدية مستوطنة معاليه أدوميم.
وكان من المفترض أن يطرح القانون للتصويت في اللجنة الوزارية لشؤون التشريع، لكن نتنياهو عرقل التصويت بعد الرسائل التي تلقاها من الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب.
وفي عام 2020، أعلن رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو أنه أمرَ بالعمل في تنفيذ خطة بناء في المنطقة مجددًا، تشمل بناء 3500 وحدة استيطانية في منطقة E1، وقد سبق أن أُجلّت المناقشات حول هذه الخطة عدة مرات، آخرها تأجيل مناقشة الخطة الاستيطانية التي كان من المقرر عقدها في يوليو/ تموز 2022، عشية زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن.
عزل الفلسطيني عن قدسه وجنوبها وشمالها
يقول جيف هالبر، مدير اللجنة الإسرائيلية لمناهضة هدم المنازل: “حتى وإن استطعت أن تقود سيارتك حول القدس، فسيكون من الممكن سلخ القدس عن الدولة الفلسطينية”.
وتشير مقالة نشرتها مجلة “الدراسات الفلسطينية” تحت عنوان “خطة E1 وسواها من الكوارث النازلة بالقدس”، أنه قبل فرض “إسرائيل” نظام الأذونات والإغلاقات الذي يحدّ دخول الفلسطينيين إلى القدس منذ أوائل تسعينيات القرن الـ 20، كان %40 من الاقتصاد الفلسطيني، بحسب دراسة للبنك الدولي، يدور حول القدس، لكن النمو المتدرّج لمعاليه أدوميم وسواها من مستعمرات القدس، والإعمار المرتقب ضمن خطة E1 وحاجز الأسمنت والأسلاك الشائكة الذي ستنجزه “إسرائيل” هذه السنة، سوف تعزل الفلسطينيين بصورة نهائية عن هذه المدينة.
كما أن المنطقة المجاورة لمستوطنة معاليه أدوميم (53 كيلومترًا أكبر من مدينة تل أبيب)، يحمل تنفيذ ضمّها ووضع السيطرة عليها وجه نكبة جديدة للفلسطينيين، فالقدس ملاصقة لأضيق منطقة في الضفة الغربية، والتي يصل عرضها إلى 28 كيلومترًا فقط.
وسيؤدي البناء في منطقة E1 إلى تقليص الرواق الضيق أصلًا الذي يربط بين جنوب الضفة وشمالها، كما أن تقطيع الحيز سيصعّب جدًّا من إقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي، صحيح أن “إسرائيل” تخطط لشق شارع بديل للفلسطينيين يربط بين هاتين المنطقتَين، إلا أن الحديث يدور عن حلّ مواصلاتي فقط يتحكم الاحتلال في الداخل والخارج منه.
كما أن المناطق العمرانية التي ستقوم عليها جميع المستوطنات معرّفة على أنها مناطق عسكرية مغلقة يمنع دخلوها، ولا يهدف هذا المنع إلا إلى بقاء الأراضي الفلسطينية الخصوصية كأسوار في نطاق المخطط، وبالتالي إحاطتها بمنطقة مستوطنات عمرانية، ما سيشكّل تهديدًا على التجمعات السكانية البدوية مثل عرب الجهالين.
إذ سيواجه ما يقرب من 3 آلاف فلسطيني من بدو الجهالين، والبالغ عددهم أكثر من 5 آلاف نسمة يعيشون في المنطقة الواقعة بين القدس الشرقية ووادي الأردن منذ الخمسينيات، تهديدًا وجوديًّا يحاربون فيه ملامح النكبة من جديد، بعد طردهم في الأصل من النقب عام 1948.
لا يكفّ الاحتلال عن طرح خطط الضم لإحكام السيطرة على الأراضي الفلسطينية المتبقية، وبعد أن حوّل الاحتلال الضفة إلى جزر متفرقة، فإنه يسعى بشتى الطرق إلى فرض سيطرته وقبضته على عبور الفلسطيني وتنقله بين الأراضي الفلسطينية، مقابل إعطاء الامتيازات للمستوطنين من حرية التنقل والعيش والتملُّك في الأرض المحتلة.