منذ مايو/أيار 2021، والتصعيد الذي شهدته فلسطين على امتدادها في القدس والداخل المحتل والضفة الغربية وقطاع غزة، اكتسبت ساحة الضفة دونًا عن الساحات الأخرى شكلًا مختلفًا من المواجهة مع الاحتلال، فعادت المجموعات المسلحة المدعومة بطرق مباشرة وغير مباشرة من فصائل المقاومة الفلسطينية للتشكل في الضفة، وكانت المخيمات كمخيم جنين والأزقة الضيقة في المدن كالبلدة القديمة في نابلس نواة انطلاقتها ومهد الشعلة الثائرة.
على خطى نابلس عرين الأسود، ومخيم جنين وكتيبته، التحقت طولكرم بالمجموعات المسلحة المقاومة في الضفة المحتلة، وأعلنت المدينة بمخيميها نور شمس وطولكرم عن انطلاق عملياتها الفدائية على حواجز الاحتلال ومستوطناته المقامة على أراضي محافظة طولكرم.
نور شمس ومقاومة الانتداب
أقيم مخيم نور شمس للاجئين الفلسطينيين شرق مدينة طولكرم عام 1952، على أنقاض سجن إنجليزي عام 1919 سمي المخيم باسمه، لسجن أصحاب الأحكام القاسية ممن حكم عليهم بالإعدام أو السجن مدى الحياة، ثم أصبح لاحقًا معتقلًا يسجن به الثوار العرب ممن شاركوا في ثورات 1929 و1936 ضد الانتداب البريطاني.
مع انطلاق الثورة الفلسطينية الكبرى في 1936 التي استمرت ثلاث سنوات، كانت نور شمس من أوائل المناطق التي اشتبكت مع الجنود الإنجليز في بداية الثورة، تحديدًا في مايو/أيار من العام نفسه، عندما هاجم مقاومون فلسطينيون فرقة من الجنود البحارة الإنجليز، كانت حكومة الانتداب البريطاني قد أحضرتها من قاعدتها الحربية في مصر على الطريق من حيفا إلى نابلس قرب نور شمس، واستشهد فيها فلسطينيان إضافة إلى مقتل ضابطين بريطانيين.
بعد شهر من هذا الاشتباك، خاضت المنطقة أول معركة منظمة في الثورة الفلسطينية الكبرى مع قوات الانتداب البريطاني في يونيو/حزيران من العام نفسه، فاشتبك الثوار الفلسطينيون في معركة “نور شمس” بقيادة عبد الرحيم الحاج محمد مع الجنود، ما أسفر عن استشهاد 3 من الثوار ومقتل 50 جنديًا بريطانيًا وتدمير 3 سيارات وإسقاط طائرة مروحية.
واستمرت معارك الثورة الفلسطينية في مدينة طولكرم، حتى وقعت معركة بلعا في مطلع سبتمبر/أيلول 1936 التي قاتل فيها العرب بقيادة القائد العربي فوزي القاوقجي ضد الجيش البريطاني، واندلعت جبهة حرب تمتد من نور شمس حتى شرق رامين شرق طولكرم، وعنونتها صحيفة فلسطين في تناولها للخبر بـ”أكبر معركة في تاريخ ثورة فلسطين الحاليّة، عدد كبير من الثوار يقوده فوزي بك القاوقجي القائد العسكري السوري المعروف”.
وفي البلاغ الرسمي الذي أصدرته حكومة الانتداب البريطاني قالت: “بينما كانت مفرزة من فرقة لنكولن شاير تأخذ مراكزها على طريق طولكرم ـ نابلس في ساعة مبكرة من صباح هذا اليوم، أطلقت عليها النار بكثرة من الجبال عصابة مسلحة من العرب يقدر عدد أفرادها بين 40 ـ 50 رجلًا”.
من يوم الأرض الخالد إلى كتيبة طولكرم.. المقاومة مستمرة
عاد مخيم نور شمس للأخبار من جديد في أحداث يوم الأرض الخالد الذي استشهد فيه 6 فلسطينيين في تظاهرات القرى والبلدات العربية في الداخل المحتل في 30 مارس/آذار 1976، التي انطلقت احتجاجًا على مصادرة سلطات الاحتلال آلاف الدونمات من الأراضي ذات الملكية الخاصة أو المشاع، في نطاق حدود مناطق ذات أغلبية سكانية فلسطينية.
أحد الشهداء الست كان رأفت الزهيري طالب هندسة معمارية في رام الله، وبحسب ما ترويه والدته، خرج رأفت (19 عامًا)، من بيته في مخيم نور شمس قرب طولكرم، متوجهًا إلى بيت أقاربه دون أن يخبرها شيئًا، وتوجه بعدها إلى مدينة الطيبة للمشاركة في مظاهرة يوم الأرض، وفي مدينة الطيبة، وخلال التحضيرات للمظاهرة، داهمت قوات كبيرة من الجنود القرية، وبدأوا بإطلاق الرصاص على الشبان، لتندلع مواجهات مع الشبان المتجمهرين، وأصيب رأفت الزهيري برصاصة في رأسه أدت إلى استشهاده.
لاحقًا، وخلال الانتفاضة الثانية عام 2000، وبدء عملية السور الواقي التي أطلقها الاحتلال للقضاء على المقاومة الفلسطينية في الضفة المحتلة، حاصرت آليات الاحتلال طولكرم المدينة ومخيميها نور شمس وطولكرم، وقصفت مناطق مختلفة منها بصواريخ من طائرات الأباتشي، واغتالت المقاومين من الفصائل المختلفة فيه.
وحال طولكرم لا يختلف عن نابلس وجنين، اللتين كانتا هدفًا أساسيًا في “السور الواقي”، فبعد عشرين عامًا من تبجح الاحتلال بأنه قضى على المقاومة وخلق الفلسطيني الجديد المُهادن، أعادت طولكرم للمقاومة ساحتها في زقاق مخيماتها، فتشكلت “كتيبة طولكرم – الرد السريع” في مخيم طولكرم والمدينة، و”كتيبة طولكرم – سرايا القدس” في مخيم نور شمس مطلع عام 2023، واستهدفت الكتيبتان حواجز الاحتلال مثل حاجز جبارة وحاجز “نتساني عوز”، ومستوطناته مثل “أفني حيفتس” و”حرميش”، كما تصدت لاقتحامات الاحتلال للمدينة وأزقة المخيمين.
تلتحم المقاومة في طولكرم، بين مخيم طولكرم ومخيم نور شمس، وتتساند “كتيبة طولكرم – الرد السريع” التي تضم مختلف الفصائل الفلسطينية و”كتيبة طولكرم – سرايا القدس” الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي التي انطلقت نواة تأسيسها من استشهاد سيف أبو لبدة ابن المخيم رفقة مقاومين في مخيم جنين، في التصدي لاقتحامات الاحتلال.
أما “كتيبة الرد السريع” التي سميت تيمنًا بكتيبة الشهيد رائد الكرمي، القيادي في شهداء الأقصى (الذراع العسكرية لحركة فتح) التي جمدتها السلطة الفلسطينية، قدمت شهيدها الأول ومؤسسها أمير أبو خديجة الذي سرعان ما انتشرت وصيته بعصبة كتائب شهيد عز الدين القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس)، والتحق به شهيداها القساميان سامر الشافعي وحمزة خريوش.
الاصطدام مع التنسيق الأمني
يصنف مخيم نور شمس ضمن الأراضي المصنفة “أ”، وهي المنطقة التي تسيطر فيها السلطة الفلسطينية على معظم الشؤون، بما فيها الأمن الداخلي كما نصت اتفاقية أوسلو، ومنع أي بوادر عملٍ مقاوم يمكن أن يصدر، وهو ما ظهر بشكل واضح بعد تشكل “كتيبة طولكرم” إذ دخلت الأجهزة الأمنية المخيم وأزالت الحواجز التي وضعها المقاومون لمنع تقدم الاحتلال، واصطدمت مع الشبان هناك.
وسط هذه الأحداث، أصدرت كتيبة طولكرم بيانها الذي طالبت فيه السلطة وأجهزتها الأمنية، بوقف عدوانها على مخيم نور شمس، ووقف عملية إزالة الحواجز التي يضعها المقاومون لحماية المخيم من اقتحامات الاحتلال، وطالبت “بعدم جرِّ الأهالي لأي نوع من الاشتباك مع السلطة ومربع الاقتتال الداخلي، خاصة أن المقاومة هي الوحيدة التي تتصدى لاقتحامات وتنكيل الاحتلال اليومي بالمواطنين”.
من منطقة كانت سجنًا إنجليزيًا شاهدًا على ثورة الفلسطينيين قبل النكبة، إلى بؤرة حاضنة لمجموعات تناضل ضد الاحتلال الإسرائيلي وتكافح ضد التنسيق الأمني الذي تلقى صفعة بالتحاق طولكرم بموجة العمليات الأخيرة، يكتب مخيم “نور شمس” إحداثياته الجديدة، ويشارك كما مخيمات اللجوء في مراكمة العمل المقاوم حتى العودة والتحرير.