أعلن رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، الجمعة 7 يوليو/تموز 2023 أنه سيتقدم باستقالته قريبًا بسبب الخلافات داخل الائتلاف الحاكم بشأن الإجراءات اللازمة للحد من تدفق المهاجرين، بحسب ما أفادت قناتا “إن أو إس” و”آر تي إل” ووكالة “إيه إن بي” المحلية.
يأتي انهيار الائتلاف الحكومي بعد عام ونصف من المكوث في الحكم، تعرض خلالها للعديد من المحطات الصعبة والعراقيل التي أفضت في النهاية إلى تلك الهشاشة التي بات عليها، في ظل تباين الرؤى إزاء العديد من الملفات والقضايا التي يتعامل معها زعيم حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية اليميني الليبرالي، روته، على أنها مسائل أمن قومي لا يمكن المرونة بشأنها.
وفي مؤتمر صحفي عقده رئيس الوزراء مساء الجمعة قال فيه: “هذا المساء توصلنا للأسف إلى خلاصة بأنه لا يمكن تجاوز هذه الخلافات، لهذا السبب، سأقدم قريبًا استقالة مكتوبة إلى الملك باسم الحكومة مجتمعة”، وذلك بعد جولات مكوكية من المباحثات داخل الائتلاف، لكنها لم تسفر في النهاية عن أي توافق بشأن رغبة روته في تقليص تدفق اللاجئين ولو عبر إجراءات قاسية قد ينجم عنها تشتيت للأسر والحيلولة دون لم شملها.
بهذه الخطوة قد يُنهي زعيم “حزب الشعب من أجل الحرية والديموقراطية” مسيرته السياسية كرئيس للحكومة بعد 12 عامًا قضاها في السلطة، رغم الفضائح التي تعرض لها خلال فترات حكمه الثلاثة، ليصبح بذلك ثاني أطول رئيس حكومة في أوروبا، بعد المجري فيكتور أوربان، وسط مخاوف من عودة اليميني المتطرف، خيرت فيلدرز، للمشهد مرة أخرى.
انهيار الحكومة في #هولندا إثر خلافات بشأن سياسة الهجرة pic.twitter.com/oBqorvVcCw
— قناة الجزيرة (@AJArabic) July 8, 2023
المهاجرون يطيحون بالحكومة
دخل الائتلاف الرباعي المكون للحكومة الهولندية (حزب الليبراليين اليمينيين والحزب الديمقراطي الليبرالي وحزب الديمقراطيين المسيحيين والحزب المسيحي الأرثوذكسي) في مفاوضات مكثفة طيلة الفترة الأخيرة لمناقشة ملف المهاجرين وطالبي اللجوء بعد زيادة أعدادهم خلال الآونة الأخيرة.
وطالب روته بصفته زعيم الحزب صاحب الأغلبية بفرض قيود على لم شمل عائلات طالبي اللجوء وذلك بتحديد سقف لأقارب المهاجرين من دول النزاع الذين يمكن لهولندا استقبالهم عند 200 شخص شهريًا، وذلك في أعقاب ما حدث العام الماضي حين اكتظت مراكز الهجرة في المملكة بمشاهد وصفت بـ”الفضيحة”.
لم يحظ هذا الطلب بتأييد ودعم بقية أحزاب الائتلاف، حيث رفضه الحزب الديمقراطي المسيحي، فيما أبدت أحزاب أخرى تحفظها على الطريقة التي طُرح بها هذا الطلب، خاصة بعد تهديد روته بتعطيل الحكومة في حال رفضه، الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد المفاوضات حتى وقت متأخر من الخميس 6 يوليو/تموز 2023 في محاولة لإنقاذ الحكومة المتعثرة التي مرّ على توليها السلطة 18 شهرًا.
ويواجه رئيس الوزراء الذي هدد بتقديم استقالته ضغوطًا كبيرةً من الأحزاب اليمينية المتطرفة بسبب ملف الهجرة، خاصة بعد ارتفاع عدد المتقدمين بطلبات لجوء في المملكة إلى 46 ألفًا، بزيادة قدرها 30% عن العام الماضي، فيما يتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 70 ألفًا بنهاية العام الحاليّ، متخطيًا بذلك الرقم القياسي الذي شهده عام 2015.
تمييز وازدواجية
تواجه هولندا انتقادات حقوقية لاذعة بسبب ما وصف بأنه “تمييز وازدواجية” فجة في التعامل مع المهاجرين، فبينما تشدد المملكة قيودها على أبناء الجنسيات العربية والإفريقية والآسيوية وضحايا مناطق النزاعات، وتزج بهم في العراء حيث لا مأوى ولا مأكل، تفتح أبوابها على مصراعيها أمام اللاجئين الأوكرانيين في مشهد فاضح بامتياز.
وفي خطاب موجه للحكومة الهولندية في 2 سبتمبر/أيلول 2022 انتقدت مفوضة مجلس أوروبا لحقوق الإنسان، دنيا مياتوفيتش، الأوضاع التي يواجهها طالبو اللجوء في هولندا، منوهة أن الأجواء التي يواجهها طالبو اللجوء في هولندا لطالما كانت غير مقبولة، كما أنها تزداد سوءًا على مدار الشهور الأخيرة، بجانب عدم التزامها بالحد الأدنى من المعايير المنصوص عليها في المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان.
واستشهدت المفوضية الحقوقية الأوروبية بالوضع الذي يعاني منه مركز تير أبل لاستقبال طالبي اللجوء في المملكة، إذ إن الطاقة الاستيعابية للمركز لا تتجاوز ألفي شخص، فيما ينام أضعافهم في العراء على مدار عدة أسابيع، دون تحرك عاجل أو كاف من الحكومة الهولندية، واصفة الخيام التي ينامون فيها بأنها “ظروف إنسانية صعبة للغاية”.
وأعربت مياتوفيتش عن قلقها البالغ من تلك الأوضاع الإنسانية المتدنية، مطالبة الحكومة بضرورة “اتخاذ كل الإجراءات الضرورية لضمان توفير كل ما هو ملائم من الغذاء ومياه الشرب النظيفة والمرافق الصحية”، كما نددت بما وصفته “الفارق الصارخ في المعاملة المقدمة للأوكرانيين”، مقارنة بتلك التي تنالها الجنسيات الأخرى، قائلة إن هذه معاملة تمييزية يجب منعها.
روته يغامر بتاريخه السياسي
واجه روته منذ تشكيل أول ائتلاف حكومي له في 2010 موجات متلاطمة من العثرات والتحديات والفضائح، لكنه نجح بحكم حنكته السياسية وما يتميز به من قدرات عالية في إدارة لعبة المواءمات والتوازنات في البقاء على رأس هرم السلطة التنفيذية على مدار 12 عامًا كاملة دون أن يتزحزح عن منصبه.
واستطاع عبر 4 ائتلافات متتالية أن يقود الدفة في مواجهة بقية التيارات السياسية المعارضة، وعلى رأسها اليمين المتطرف الذي دخل معه في معركة شرسة منذ 2015 وحتى اليوم، منذ تصاعد المد اليميني في أوروبا وتصدر ملف الهجرة واللاجئين قائمة الملفات الحساسة أوروبيًا، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا وأمنيًا.
وأمام الضغوط التي تمارس عليه طيلة السنوات الماضية، وتزايدها في الآونة الأخيرة بعد الحرب الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية، اضطر روته إلى الرضوخ لإملاءات الشعبويين، حفاظًا على مكتسباته السياسية طيلة السنوات الـ12 الأخيرة، فسعى إلى التماشي مع مطالب تقليص المهاجرين وتقييد استقبال المملكة لهم، لكن بطريقة متطرفة وقاسية، لم تلق القبول لدى بقية مكونات الائتلاف.
وتعرض روته وائتلافاته الحاكمة خلال الآونة الأخيرة إلى صدمات قوية أبرزها تلك الخاصة باستهداف أطفال العائلات المنتيمة للأقليات العرقية في 2021 وهي الفضيحة التي أرغمت الحكومة السابقة على الاستقالة وكانت وصمة عار في جبين الائتلافات الأربع التي حكمت البلاد طيلة العقد الماضي، بجانب مغازلته لليمين المتطرف في 2017 بهدف منع فيلدرز من الفوز في الانتخابات، وهي الخطوة التي تعرض بسببها لانتقادات لاذعة من بقية ألوان الطيف السياسي في البلاد.
مخاوف من صعود اليمين المتطرف
ينتظر اليمين المتطرف بقيادة حزب “من أجل الحرية” الفرصة للقفز على السلطة مجددًا والعودة للمشهد (حل ثالثًا في قائمة الأحزاب الأكبر كتلة داخل البرلمان في 2010 وثاني الكتل في 2017) بعد إقصاء شعبي وقضائي دام سنوات (إذ أدانته محكمة هولندية في 2016 بسبب تصريحاته العنصرية بجانب تراجع شعبيته خلال العامين الماضيين)، ويتخوف البعض من أن تكون استقالة حكومة روته بهذا الشكل طبق الذهب المقدم للسياسي المتطرف خيرت فيلدرز لإعادته للأضواء مرة أخرى.
ويحاول فيلدرز العزف بين الحين والآخر على وتر المهاجرين واللاجئين لكسب دعم الشعبويين داخل بلاده، مستغلًا التداعيات الاقتصادية الصعبة للمستجدات التي شهدتها الساحة الدولية مؤخرًا، التي كان من بينها فرض أجندات تقشفية على بعض الشعوب لعبور تلك المرحلة الحرجة، فيما كان ملف الهجرة واللاجئين على رأس النقاشات الدائرة على موائد السلطات والحكومات في بلدان أوروبا منذ فبراير/شباط 2022.
Nederland anno 2023.
Den Haag, bij de As Soennah moskee.
Onze straten vol met biddende moslims. Nederland is Nederland niet meer. pic.twitter.com/HYAm0eoHRg
— Geert Wilders (@geertwilderspvv) May 23, 2023
وقبل شهر تقريبًا حذر فيلدرز من خلال مقطع فيديو نشره على حسابه على تويتر من تزايد أعداد المسلمين في هولندا، حيث وثق أداء عشرات المصلين داخل مسجد السنة في لاهاي، وعلق عليه قائلًا “هذه هولندا في عام 2023. مسجد السُّنة في لاهاي، شوارعنا مليئة بالمُصلّين المسلمين. هولندا لم تعد هولندا”.
ويمثل العداء للإسلام والمسلمين العصب الأبرز في البرنامج الانتخابي لفيلدرز وحزبه المتطرف الذي تعهد في برنامجه الذي طرحه عام 2021 بشأن إستراتيجية حكمه حال الفوز في الانتخابات خلال الفترة من 2021-2025، بإنشاء “وزارة التطهير من الإسلام”، كما تعهد بتعريف الدين الإسلامي على أنه “أيديولوجية شمولية”، وحظر المساجد والمدارس الإسلامية ومنع انتشار الفكر الإسلامي عن طريق القرآن الكريم.
ومعروف عنه تغريداته المستمرة المسيئة للإسلام والجالية الإسلامية بصفة عامة، إذ يتعامل مع هذا الأمر على أنه الدجاجة التي تبيض له ذهبًا وتضعه دائمًا تحت الأضواء كلما خفتت عنه، وكانت شركة “تويتر” (Twitter) قد حجبت حسابه في أبريل/نيسان العام الماضي بسبب تغريدة له هاجم فيها الإسلام، وأشار فيها إلى رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف.
حتى اليوم لم يعلن روته استقالة حكومته بشكل رسمي، ما يترتب على ذلك من دعوة لانتخابات عامة عاجلة، الأمر الذي يعني احتمالية الدخول في جولة مفاوضات جديدة بشأن ملف الهجرة، وسط ضغوط ممارسة للتوصل إلى اتفاق مع بقية أحزاب الائتلاف حفاظًا على بقاء الحكومة وعدم منح اليمين المتطرف الفرصة التي ينتظرها ويتوقع ألا يتخلى عنها، فهل تنجح تلك الضغوط؟