تقع مدينة صفاقس على خليج قابس المتفرع من البحر الأبيض المتوسط غربي تونس وتقع إلى الجنوب الشرقي من العاصمة، تُعرف بأنها العاصمة الاقتصادية لتونس، إذ تتركز فيها كبرى الشركات وتتميز بتخطيطها الشعاعي نصف الدائري حيث تقع المدينة العتيقة في المركز، ومنها تتفرع بقية الأحياء على شكل أشعة.
في السنوات الأخيرة، أصبحت صفاقس إحدى بوابات العبور الرئيسية إلى السواحل الأوروبية، إذ تشهد شواطئها القريبة من الضفة الشمالية للمتوسط نشاطًا مكثفًا لرحلات الهجرة غير النظامية، خاصة في فصل الصيف، وهو ما جعلها مقصدًا لعشرات الآلاف من المهاجرين الأفارقة غير النظاميين.
رحّب الأهالي في البداية بالوافدين الجدد، ودمج عدد كبير منهم في الدورة الاقتصادية للمنطقة وتقاسموا معهم الأكل والملبس والمسكن، إلى غاية خطاب الرئيس قيس سعيد في فبراير/شباط الماضي، الذي مثّل نقطة تحول في علاقة المهاجرين ببعض التونسيين، وأصبحت صفاقس على موعد مع بعض الاشتباكات الدامية بين الأهالي والمهاجرين.
قتيل تونسي على يد المهاجرين الأفارقة
في آخر تطورات الوضع في صفاقس، لقي شاب تونسي مصرعه بعد اشتباكات بين سكان أحد أحياء المدينة ومهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، وأوضح الناطق الرسمي باسم محكمة صفاقس الأولى، فوزي المصمودي، أمس الثلاثاء، أن أعمال العنف والشغب المتواصلة منذ أيام، بين مواطنين تونسيين ومهاجرين، أسفرت، مساء الإثنين، عن مقتل تونسي، من مواليد عام 1981، طعنًا بآلة حادة.
وفق شهود عيان، انطلقت مناوشات بين عدد من أهالي منطقة ساقية الزيت ومجموعة المهاجرين، وقد أقدم ثلاثة مهاجرين على رشق الشاب بالحجارة قبل طعنه بسكين في الرقبة، وقد فارق الحياة قبل وصوله إلى المستشفى لتلقي الإسعافات اللازمة.
إثر ذلك، أوقفت السلطات 3 مشتبه بهم، واحتفظت بهم رهن الاعتقال، في انتظار استكمال باقي أطوار الأبحاث في هذه الجريمة التي من شأنها أن تعكر الوضع أكثر، في ظل الاشتباكات المتواصلة منذ أيام بين سكان بعض أحياء المدينة ومجموعة من المهاجرين الأفارقة.
بدأت أعمال العنف ضد المهاجرين بعد خطاب سعيد الذي انتقد فيه الوجود الكبير لمهاجرين غير نظاميين في بلاده
أقدم عدد من الأهالي بإخراج الأفارقة من منازلهم بالقوة، بدعوى أن وجودهم يمثل تهديدًا لأمن المدينة، ما دفع بعدد من المهاجرين للتواري عن الأنظار خشية التعرض لهم وتعنيفهم، خاصة في ظل الحملة الرقمية ضدهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
بالتزامن مع ذلك، أطلقت السلطات التونسية، حملة أمنية واسعة في أنحاء متفرقة من المدينة، حيث أخرجت المهاجرين من الأماكن العامة، ونشرت تعزيزات أمنية مكثفة في محاولة للسيطرة على الأوضاع.
ويطالب مجموعة من الأهالي بترحيل المهاجرين الأفارقة غير النظاميين إلى بلدانهم وإيجاد حلول للحد من انتشارهم وتدفقهم على المنطقة، وقبل أسبوع تظاهر مئات الأشخاص في صفاقس ضد انتشار المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء في مدينتهم.
بالفيديو | إعلام تونسي: مقتل مواطن تونسي على يد مهاجرين أفارقة في مدينة #صفاقس جنوب العاصمة #تونس pic.twitter.com/pM1rHXA42R
— يونيوز (@UnewsAgency1) July 4, 2023
جولة بسيطة في أرجاء صفاقس، ستلاحظ الوجود المكثف للمهاجرين الأفارقة غير النظاميين، إذ تنتشر خيامهم العشوائية في حدائق المدينة، كملاذ للنوم والاحتماء من أشعة الشمس، ويأمل أغلبهم في الوصول إلى السواحل الإيطالية القريبة لكنهم يفتقدون المال الكافي.
كما اختار عدد كبير منهم استئجار منازل في المدينة والسكن فيها إلى أن تحين فرصة الهجرة نحو الساحل الشمالي للمتوسط، فرصة ربما تتأخر كثيرًا في ظل القبضة الأمنية المشددة على السواحل التونسية تطبيقًا لاتفاقيات مع الجانب الأوروبي.
مسؤولية سعيد
في أعقاب التطورات الأخيرة في صفاقس، اجتمع الرئيس التونسي قيس سعيد بوزير الداخلية كمال الفقي وعدد من القيادات الأمنية، ليخرج بعدها قائلًا إن الوضع في صفاقس “غير طبيعي”، ملمّحًا إلى وجود مخطط لإشاعة وتأجيج الفوضى، داعيًا إلى تفكيك الشبكات الإجرامية التي تتاجر بالمهاجرين.
وتساءل سعيد عن كيفية قطع هؤلاء الوافدين إلى بلاده آلاف الكيلومترات واتجاههم إلى مدينة بعينها، وكيف يعرفون هذه المدن أو الأحياء وهم في بلدانهم، مضيفًا “هل هؤلاء مهاجرون أو مهجّرون من جماعات إجرامية تتاجر ببؤسهم؟”.
يتساءل سعيد، رغم أنه رئيس البلاد والماسك بكل السلطات منذ انقلابه على دستور الثورة ومؤسسات الدولة الشرعية ليلة 25 يوليو/تموز 2021، لكنه يتناسى أنه هو السبب الأبرز فيما وصل له الوضع في صفاقس وغيرها من المدن التونسية في علاقة بملف المهاجرين.
سبق أن عرفت أريانة اشتباكات بين الأهالي والمهاجرين بعد خطاب الرئيس سعيد في فبراير/شباط الماضي
إذ إن أعمال العنف بدأت أولًا ضد المهاجرين بعد خطاب ألقاه الرئيس قيس سعيد في 21 فبراير/شباط 2023، انتقد فيه الوجود الكبير لمهاجرين غير نظاميين في بلاده، متحدثًا عن مؤامرة لتغيير “التركيبة الديموغرافية” في تونس، ووصل الأمر لقتل مهاجر من بنين طعنًا في هجوم نفذته مجموعة من الشبان التونسيين في أحد أحياء صفاقس الشعبية.
منح خطاب سعيد لبعض التونسيين الضوء الأخضر لاستهداف الأفارقة وإخراجهم من منازلهم بالقوة وتعنيفهم وعدم منحهم أجر عملهم، وكان رد الأفارقة عنيفًا أيضًا، إذ اعتدوا على بعض المواطنين والممتلكات.
مسؤولية سعيد لا تقتصر على هذه النقطة فقط، فهو من أصدر أوامره للقوى الأمنية بالتساهل مع موجات الهجرة غير النظامية القادمة لتونس، رغم يقينه أن تونس تحولت إلى أرض مستقر وليس عبور، وذلك تطبيقًا لاتفاقيات أمنية مع السلطات الأوروبية.
يدعي سعيد في العلن رفضه للإملاءات الأوروبية، لكنه في واقع الأمر بدأ العمل بها، وعايننا ذلك على أرض الواقع، من خلال تسهيل عبور الأفارقة لتونس وتشديد الرقابة على السواحل التونسية لمنعهم من اجتياز الحدود البحرية مع أوروبا.
كما أن عدم تعيين محافظ لمحافظة صفاقس رغم مرور 6 أشهر على إقالة المحافظ السابق، سمح بتدهور الوضع في البلاد، فالسلطات الجهوية عاجزة عن التحرك ومعالجة الوضع، خشية أن تتعارض مع سياسات قيس سعيد.
مخاوف من خروج الوضع عن السيطرة
يمكن القول إن الوضع في صفاقس خرج عن السيطرة أو يكاد، ويخشى العديد من التونسيين أن يمتد ذلك إلى مدن أخرى، خاصة أن المؤشرات والبوادر موجودة في بعض المدن على غرار أريانة التابعة لتونس الكبرى، التي سبق أن عرفت اشتباكات بين الأهالي والمهاجرين بعد خطاب الرئيس سعيد في فبراير/شباط الماضي.
اختناق امني في صفاقس نتيجة مصرع مواطن تونسي في اضطرابات مع مهاجرين افارقة
ازمة الهجرة تتفاعل بشكل خطير #تونس— Ali Wahida علي اوحيدة (@aliwahida) July 4, 2023
يمكن أن يهدد هذا الأمر السلم الأهلي في عدد من مدن تونس، فحالة الاحتقان السائدة في تونس في أعقاب تكرر الجرائم التي تنسب إلى مهاجرين من دول جنوب الصحراء، وتدفق أعداد كبيرة من المهاجرين في الفترة الأخيرة بهدف الهجرة نحو أوروبا، سيؤجج مخاوف الأهالي.
عمليات تطهير عرقي في #صفاقس، ملاحقة الناس على أساس اللون. في هذا الفيديو دعوة لسكان صفاقس لملاحقة المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء “لتطهير المدينة”. النازيون الجدد طلقاء #تونس
pic.twitter.com/kS0mT0Iv4g— Wejdene Bouabdallah 🥏 (@tounsiahourra) July 5, 2023
لا يعني ذلك أن كل المهاجرين الأفارقة الوافدين إلى تونس مُدانون، فالعديد منهم اندمج في المجتمع ويعمل على تسوية وضعيته القانونية، ما يعني إيجاد مقاربة تحمي الجميع، فتونس في ظل أزمتها الاقتصادية لا تتحمل وافدين جدد بعشرات الآلاف والمهاجرون من حقهم التمتع بالحماية اللازمة وتوافر مقومات العيش لهم.