ترجمة حفصة جودة
نشأت ماما دياكيت – المواطنة الفرنسية – في إحدى ضواحي باريس لأبوين مهاجرين، قريبًا من المكان الذي قُتل فيه صبي – 17 عامًا – على يد الشرطة الأسبوع الماضي، وعندما حُرقت السيارات وأُقيمت الحواجز في حيها بعد الحادث، أرسلت لها المحكمة الإدارية العليا في البلاد قرارًا بعد إمكانها المشاركة في أكثر الرياضات شعبية بفرنسا “كرة القدم” بينما ترتدي الحجاب.
في يوم الخميس، أيد مجلس الدولة حظر اتحاد كرة القدم الفرنسي لارتداء أي رمز ديني واضح، لتحقيق التوافق مع أسس الدولة العلمانية، انتابت عاصفة من المشاعر دياكيت إثر القرار، ما بين صدمة وغضب وامتعاض.
تقول دياكيت – 25 عامًا – التي توقفت عن لعب كرة القدم مع فريقها هذا الموسم بسبب القواعد: “أشعر بخيانة البلاد التي من المفترض أن تكون بلدًا لحقوق الإنسان، لا أشعر بالأمان لأنهم لا يقبلونني كما أنا”.
كان توقيت القرار والفوضى التي أعقبت قتل نائل مرزوق، مصادفة تامة، وبشكل ما تُعد القضيتان مختلفتين، فالأولى حادثة مرورية مميتة أدانها المسؤولون الفرنسيون، أما الثانية فنقاش حاد بشأن وضوح الإسلام في المجتمع الفرنسي، لكن كليهما يمسان قضايا الهوية والاندماج اللذيّن طال أمدهما في فرنسا.
في البداية فُسر حادث إطلاق النار في الإعلام الفرنسي على أنه دفاع عن النفس، فقد زعمت مصادر مجهولة في الشرطة أن الشرطي أطلق النار على مرزوق بعد أن انطلق سريعًا بسيارته نحو ضباط الشرطة لتفادي توقف المرور، لكن مقطع فيديو كشف أن الضابط أطلق عليه النار من جانب السيارة بينما كان يقود بعيدًا.
رغم أنه مواطن فرنسي، فإن مرزوق كان من أصول جزائرية ومغربية، تقول الأقليات التي تعيش في الضواحي الفقيرة إن الشرطي لم يكن ليطلق النار أبدًا على شاب أبيض يعيش في أحد أحياء باريس الراقية حتى لو كان لديه مخالفات مرورية بسيطة مثل مرزوق.
يقول قادر محجوبي – 47 عامًا – كان ضمن الآلاف الذين خرجوا في مسيرة احتجاجية لأجل مرزوق الأسبوع الماضي: “إننا نُحاكم دائمًا بشكل مضاعف، يجب عليك دائمًا أن تثبت نفسك وتبرر تصرفاتك”.
رفض مسؤول فرنسي من مكتب الرئيس إيمانويل ماكرون تمامًا فكرة وجود دولتين فرنسيتين بحالات ومعاملات مختلفة، فبالنسبة للشرطة، رفض المسؤول مفهوم التحيز المؤسسي، وقال “إنه تصرف فردي وليس مبدأ لمؤسسة الشرطة، فالشرطة اليوم مختلطة ومتنوعة عرقيًا، وهذا ما يعكس حقيقة فرنسا”.
في السنوات الأخيرة، كشفت الكثير من الدراسات عن انتشار التمييز العرقي في فرنسا خاصة بين الشرطة، وفي 2017 أجرت هيئة الحريات المدنية التابعة للحكومة الفرنسية “Défenseur des Droits” تحقيقًا وجد أن الرجال السود أو العرب أكثر عرضة 20 مرة لفحص الهوية من الشرطة مقارنة ببقية الشعب.
في الأسبوع الماضي طالب المتحدث الرسمي للمفوضية العليا للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، فرنسا بمعالجة القضايا العميقة للعنصرية والتمييز في تطبيق القانون بجدية، لكن وزارة الخارجية الفرنسية وصفت هذا الاتهام بأنه لا أساس له وقالت إن الشرطة الفرنسية تكافح بقوة العنصرية وكل أشكال التمييز.
في الوقت نفسه، أصبحت مواقف الكثير من الفرنسيين أكثر تحيزًا بعد سلسلة من الأحداث الإرهابية المروعة منذ 2015، تُعد مناقشة العرق في فرنسا من المحرمات لأنه يخالف أسس الجمهورية التي تقول إن جميع أفراد الشعب لهم نفس الحقوق ويجب معاملتهم بالتساوي.
يقول جوليان تالبين، أستاذ علم الاجتماع بالمركز القومي للأبحاث العلمية الذي يدرس التمييز في الضواحي الفرنسية، إن الكثيرين يعتقدون أن الحديث عن العنصرية يعمق المشكلة، ويضيف “من الغريب أن تكون أفضل طريقة لحل مشكلة عدم الحديث عنها، لكن هذا المفهوم هو السائد بين المجتمع الفرنسي”، ونتيجة لذلك تشعر العديد من الأقليات بأنها تتعرض لعقوبة مضاعفة.
يروي تالبين إحدى الشهادات التي سمعها في أثناء دراساته التي تقول “إننا نتعرض للتمييز بسبب عرقنا، وبعد ذلك ينكرون المشكلة كأنها غير موجودة”.
أما فابين ترونج – عالم الاجتماع – فيقول إن الكثير من سكان الضواحي يجدون مكانهم بصمت في فرنسا، وبالنسبة لهم فقد تحقق الوعد الجمهوري بالمساواة والاندماج، حيث يحصلون على تعليم أعلى ووظائف أفضل وينتقلون من تلك الضواحي ويشعرون بأنهم جزء من التيار السائد.
أما الآخرون فيشعرون بالاستهداف الدائم وقد يقضون ليال في السجن لمجرد أنهم لا يحملون بطاقة الهوية، وعادة ما يكون أغلبهم من المراهقين الذين يشعرون بعدم الشرعية في وقت حساس من تطورهم العاطفي حيث يبنون شعورهم بالذات.
يضيف ترونج، الأستاذ بجامعة باريس 8 “قانونيًا يجب أن يحمل الجميع هوياتهم، لكن لا أحد يفعل ذلك، فمثلًا إذا كنت رجلًا أبيض تعيش في وسط باريس وخرجت لشراء بعض الخبز فبالتأكيد لن تحمل هويتك معك، قد تتعرض للاعتقال لكنك تعلم أن ذلك لن يحدث معك، لكن بالنسبة لهؤلاء المراهقين فهم يعلمون أنهم قد يتعرضون لذلك بينما لن يتعرض غيرهم”.
درس ترونج مسارات وتجارب نحو 20 من طلابه السابقين في الثانوية بحي “Seine-Saint-Denis” الباريسي المتطرف الذي اندلعت فيه أعمال شغب عام 2005 بعد صعق الشرطة لمراهقيّن في أثناء ملاحقتهما.
يقول ترونج إن طلابه السابقين قالوا له “إننا نشعر بالفعل أننا فرنسيون فقد وُلدنا هنا، لكننا لسنا فرنسيين تمامًا”، يرى ترونج تماثلًا بين أحداث الشغب الأسبوع الماضي وقرار المحكمة، فكلاهما يتعلق بالسيطرة على الشباب وتهميش الناس في الأماكن العامة حيث يعتبرونهم تهديدًا.
من الناحية النظرية، ظهر مبدأ العلمانية في البلاد بعد ثورة 1789 لإبعاد الكنسية الرومانية الكاثوليكية عن التدخل في شؤون الدولة وضمان عدم ترويج الدولة لأي دين، ليصبح جميع الناس أحرارًا في ممارسة ما يعتقدونه.
لكن النقاد يقولون إن هذا المبدأ أصبح يُستخدم كسلاح لإقصاء المسلمين خاصة النساء المحجبات عن الأماكن العامة، فوفقًا لمبدأ الحياد، منع الاتحاد الفيدرالي الفرنسي لكرة القدم اللاعبات من المشاركة في المباريات في أثناء ارتداء الحجاب أو أي رمز ديني.
أطلقت مجموعة من اللاعبات المحجبات من مختلف الفرق واللاتي يطلقن على أنفسهن “المحجبات” (Les Hijabeuses)، استئنافًا قانونيًا للقرار عام 2021 يناقشن فيه التمييز ضد المسلمات وإقصائهن من المباريات.
اتفق معهم الخبير الاستشاري بالمحكمة الإدارية العليا، قائلًا إن كرة القدم تمتلئ بالرموز الدينية والسياسية، فالعديد من اللاعبين يرسمون علامة الصليب على أنفسهم قبل دخول الملعب.
ومع ذلك، حكمت المحكمة بخلاف ذلك قائلة إن الاتحاد مخول له فرض الحظر لضمان متابعة الخدمات العامة بشكل مناسب وحماية حقوق وحريات الآخرين، ذهب الحكم لأبعد من ذلك حيث قال إن الأمر لا يتعلق بالحياد فقط بل بسلاسة إدارة المباريات دون مواجهات أو اشتباكات.
في فرنسا، يرى الكثيرون من التيار السائد أن الحجاب – على أفضل تفسير – رمز قديم لقمع النساء، وأنه إشارة إلى فشل الاندماج والتطرف الديني على أسوأ تفسير، فمجرد رؤية الحجاب قد تثير التوترات.
قال وزير الداخلية جيرالد دارمانين – الذي قاد قتال الحكومة لاستئصال المؤسسات الإسلامية التي يعتبرونها انفصالية من البلاد – للإذاعة الفرنسية، إنه إذا سُمح للاعبات بارتداء الحجاب فسيكون ذلك ضربة قاصمة للمبدأ الجمهوري الفرنسي، وأضاف “عندما تلعب كرة القدم، لا يجب أن تعلم ديانة خصمك”.
تعتقد دياكيت – التي تلعب الآن مع أفراد مجموعة المحجبات لأجل المتعة فقط – أن الحكم يقوم على أيدولوجية سياسية وليس الحقيقة، حيث تقول إن المحكمة لو جاءت للحديث مع اللاعبات ومديري النوادي في الضواحي ستعلم أنه لم تقع أي حوادث عنف مطلقًا في أرضية الملعب بسبب ارتداء اللاعبات الحجاب.
كانت دياكيت تأمل أن يكون هناك حوار وتواصل واحتواء، لكن ما حدث كان العكس تمامًا، تقول دياكيت: “إننا نحمل بالفعل هويات فرنسية، لكننا لا نشعر أننا حقًا في وطننا”.
المصدر: نيويورك تايمز