تتواصل الاحتجاجات التي عمت شوارع فرنسا لليوم الخامس على التوالي إثر مقتل الشاب الفرنسي ذي الأصول الجزائرية “نائل” برصاص أحد أفراد الشرطة في 27 يونيو/حزيران 2023، بمدينة نانتير (غرب باريس) على خلفية عدم امتثاله لتعليمات دورية مرورية بالتوقف.
الجريمة أشعلت نيران الاحتقان الشعبي لدى المهاجرين وأبناء العرقيات المختلفة في فرنسا، ممن هبوا في عدد من المدن الرئيسية، منددين بما حدث، ما أجبر وزارة الداخلية على الدفع بنحو 45 ألف شرطي إلى الشوارع معززين بالعربات المدرعة وطائرات الهليكوبتر من أجل فرض الأمن في المدن الرئيسية الثلاثة التي تشهد التصعيد الاحتجاجي الأعنف وهي ليون ومارسيليا وباريس، فيما جرى توقيف أكثر من 2500 متظاهر خلال الأيام الأربع الماضية.
التداعيات الخطيرة التي شهدتها المدن الفرنسية في أعقاب الجريمة أصابت السلطات الفرنسية بالارتباك، وهو ما بدا واضحًا في تباين التصريحات الصادرة عن الحكومة والمسؤولين، فضلًا عن قطع الرئيس إيمانويل ماكرون زيارته لبروكسل لحضور قمة الاتحاد الأوروبي وعودته الجمعة 30 يونيو/حزيران للوقوف على ملابسات الموقف وتداعياته ودراسته قبل خروجه عن السيطرة.
الواقعة تعيد الأذهان إلى ما حدث عام 2005 حين قُتل شابان (زياد بينا 17 عامًا، وبونا تراوري 15 عامًا) صعقًا بالكهرباء في أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة بعد نهاية مباراة كرة قدم واختبائهما في محطة كهرباء فرعية في ضاحية كليشي سو بوا بباريس.
وتضع جريمة مقتل المراهق ذي الأصول الجزائرية فرنسا أمام مأزق حقوقي وأخلاقي قاسٍ، ليسقط معها قناع الديمقراطية والإنسانية المزيف، حيث تذهب كل الترجيحات إلى أن الاحتجاجات التي تعم شوارع فرنسا اليوم نتيجة منطقية لسياسات وممارسات العنصرية التي تنتهجها الدولة الفرنسية، شرطة وشعبًا، إزاء المهاجرين واللاجئين وأبناء العرقيات المختلفة، على مدار السنوات، فهل ينقلب السحر على الساحر وتتذوق باريس مرارة الكأس التي جرعتها لغيرها من شعوب العالم؟
🚨استمرار النهب وأعمال الشغب والعنف في فرنسا وأنباء عن امتدادها إلى بلجيكا وسويسرا. pic.twitter.com/wKv5Tuc8FD
— الأحداث الأمريكية🇺🇸 (@US_World1) July 2, 2023
فوضى أمنية
تحيا الشوارع الفرنسية في المدن الرئيسية على مدار الـ100 ساعة الأخيرة حالة من الفوضى الأمنية رغم التعزيزات المستمرة غير المسبوقة في مثل تلك المواقف، حيث تشهد الساحة الفرنسية واحدة من أقسى انتفاضات العنف العرقية خلال السنوات الماضية وسط توقعات بتفاقم الوضع إذا لم يتم السيطرة عليه الساعة قبل الأخرى.
وقد اضطرت قوات الأمن إلى إخلاء الساحات الرئيسية في العاصمة باريس بعد الدعوات المتكررة على مواقع التواصل الاجتماعي بالتجمع هناك، ومن أبرزها ساحة الكونكورد الشهيرة وشارع الشانزليزيه، فيما كثفت الشرطة من وجودها الأمني في تلك المناطق.
وخلال الساعات الماضية اندلعت مواجهات حادة بين الشرطة والمتظاهرين أسفرت عن إصابة 79 عنصرًا من قوات الأمن، فيما تم إحراق 1350 سيارة، وأضرمت النيران في 234 مبنى، بجانب محاولة إشعال النار في 2560 نقطة بأماكن عامة، كما تعرض قرابة 41 مخفرًا على الأقل لاعتداءات، بخلاف أكثر من 700 متجر ومطعم وفرع بنكي تعرضوا للنهب والسرقة، وفق البيانات الصادرة عن الشرطة الفرنسية.
نتيجة لتلك الفوضى ألغيت عشرات الفعاليات الفنية والثقافية التي كان من المقرر إقامتها في ضواحي باريس منها حفلان موسيقيان في إستاد فرنسا، بجانب عرض أزياء لدار سيلين للأزياء المملوكة لمجموعة إل. في. إم. إتش، كان مقررًا إقامته غدًا، بجانب احتمالية إلغاء سباق فرنسا للدراجات.
وطالب رؤساء بعض البلديات بتعزيز الوجود الأمني في مواجهة تلك الفوضى، حيث ناشد رئيس بلدية مرسيليا بينوا بايان، الحكومة إرسال قوات إضافية لمواجهة موجة عمليات النهب والعنف في المدينة، فيما طالب رئيس بلدية ليون نشر قوات الأمن المعززة بالمدرعات وطائرات الهليكوبتر، بينما أصدرت شرطة باريس مرسومًا يمنحها الحق في نشر طائرات مسيرة في بعض ضواحي العاصمة للتعامل مع تلك التطورات.
ويتفاقم الوضع ساعة بعد الأخرى رغم تهديد وزير العدل الفرنسي إريك دوبوند موريتي، السبت 1 يوليو/تموز 2023، بمعاقبة أولياء أمور الأطفال المشاركين في الاحتجاجات بعقوبات تتراوح بين السجن لمدة عامين وغرامة مالية بقيمة 30 ألف يورو، وفق تصريحات صحفية له.
مشيرا إلى وجود “جماعات متطرفة ومنظمة في صفوف المتظاهرين”.. #ماكرون يهدد ويرجئ زيارة رسمية مقررة إلى #ألمانيا بعد تصاعد الاحتجاجات في #فرنسا pic.twitter.com/4kfBqoTp8L
— قناة الجزيرة (@AJArabic) July 1, 2023
مخاوف حرب عرقية
“هل غرقت فرنسا في حرب عرقية؟”.. تحت هذا العنوان وصفت صحيفة “فزغلياد” الروسية في تقرير لمحررتها فاليريا فيربينينا، مشاهد العنف في شوارع فرنسا بأنها “حرب عرقية وعنصرية”، مستشهدة بالتصعيد غير المسبوق الذي تشهده العاصمة باريس وضواحيها حيث حرق المفوضيات والبنوك والسيارات والحافلات بالمولوتوف.
فيما تعرض رجال الشرطة إلى هجوم عنيف من المحتجين، ما تسبب في إصابة العشرات منهم، بخلاف تمدد رقعة الاحتجاجات التي تجاوزت نطاقها الجغرافي الضيق حيث مكان الجريمة إلى بقية المدن الأخرى حيث وصلت إلى حدود فرنسا بل وتجاوزتها لتصل إلى بلجيكا.
وترى الصحيفة في تقريرها الذي ترجمته “الجزيرة” أن السبب الرئيسي الذي أدى إلى تفاقم الوضع هو تهويل وسائل الإعلام المحلية للواقعة من أجل غض طرف الشارع الفرنسي عن مشاكل التضخم وارتفاع الرسوم الجمركية والاضطرابات التي تشهدها البلاد، إلا أن السحر انقلب على الساحر وتحولت عملية توظيف الحدث لخدمة أجندات سياسية بعينها إلى كرة نار لا يمكن إيقافها بحسب الكاتبة.
أما المرشح الرئاسي السابق الفرنسي اليميني المتطرف إريك زمور، فيرى أن الوضع الفوضوي الحاليّ أكثر ضراوة مما كان عليه عام 2005 حين قُتل الشابان صعقًا بالكهرباء في أثناء محاولة الهروب من ملاحقة الشرطة لهم، حيث استمرت الإضرابات 3 أسابيع كاملة، مرجعًا ذلك إلى انتشار المهاجرين اليوم في كل المدن الفرنسية عكس ما كان عليه الحال قبل 18 عامًا، مضيفًا: “فرنسا اليوم على شفا حرب أهلية وهذه حرب عرقية، المتورط فيها جلي للعيان”.
في وحل العنصرية
الأمم المتحدة استبقت الجميع لتصف ما حدث بأنه جريمة عنصرية رغم محاولات الطمس، فعلى لسان الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، رافينا شامداساني، خلال مؤتمر صحفي عقدته بمدينة جنيف السويسرية، قالت “حان الوقت لفرنسا كي تتعامل بجدية مع قضايا العنصرية العميقة والتمييز في أجهزة إنفاذ القانون”، مشددة على أنه “يجب فتح تحقيق في جميع مزاعم استخدام القوة المفرطة خلال الاحتجاجات في فرنسا، وذلك في أسرع وقت ممكن”.
وكانت الحكومة الفرنسية قد أدخلت عام 2017 بعض التعديلات على قانون المرور بما يسمح لرجال شرطة المرور بإطلاق النار على المستهدفين، وشهد العام 2022 قرابة 13 حالة قتل من هذا النوع، بجانب 3 حالات خلال العام الحاليّ، اللافت هنا أن معظم الضحايا في تلك الجرائم كانوا من أصول عربية أو مهاجرة، الأمر الذي أثار الكثير من علامات الاستفهام.
ويشكل المهاجرون في المجمل قرابة 25% من سكان فرنسا، نصفهم تقريبًا من أصول إفريقية، مع توقع ارتفاع تلك النسبة خلال السنوات القادمة، وفق تقرير للمعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية نُشر في أغسطس/آب 2022.
وشهدت فرنسا مؤخرًا تصاعدًا كبيرًا في جرائم العنصرية التي تستهدف في المقام الأول اللاجئين والمهاجرين، الأمر الذي انعكس على المزاج الشعبي الفرنسي بالكلية، حيث يرى 23% من الفرنسيين أنهم عنصريون، بحسب استطلاع رأي أجراه موقع “ستاتستا” المتخصص بالإحصاءات العالمية في يوليو/تموز 2022، فيما قالت اللجنة الاستشارية الوطنية لحقوق الإنسان في فرنسا في تقريرها السنوي بشأن مكافحة العنصرية ومعاداة السامية وكراهية الأجانب، الذي نُشر صيف العام الماضي أن النتائج لا تزال “مقلقة”، لافتة إلى استمرار “الظواهر التمييزية” بسبب الأصل أو الدين أو لون البشرة.
ويُرجع خبراء الاجتماع والسياسة هذا التنامي المقلق للعنصرية إلى عدة أسباب على رأسها صعود اليمين المتطرف والنتائج الجيدة التي حققها خزب الجبهة الوطنية بقيادة ماريان لوبان في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي شهدتها البلاد مؤخرًا، حيث بات الحزب المتطرف الكتلة الثالثة من حيث القوة داخل البرلمان الفرنسي، مُعززًا بقائمة مطولة من النخبويين في السياسة والاقتصاد.
هذا بخلاف الأوضاع الاقتصادية المتدهورة وتراجع الدور الفرنسي الإقليمي والدولي وتقزيم حجم باريس في مناطق نفوذها القديمة لا سيما داخل إفريقيا وتعاظم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، ما فرض أرضية ممهدة تمامًا لنمو الفكر القومي الشعبوي الذي جعل المهاجرين هدفهم الأبرز وساحة معركتهم الرئيسية.
كما أن إستراتيجية ماكرون القائمة في المقام الأول على خلق معارك خارجية وهمية لغض الطرف عن الفشل الداخلي وتجاهل أزمات الداخل لعبت دورًا كبيرًا في تفاقم التمدد الطائفي العنصري، فبدلًا من مواجهة أخطار هذا التمدد ومعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تؤجج المشهد حاول لفت الأنظار إلى المعركة مع تركيا على خلفية الوضع في شرق المتوسط ومع قطر بسبب مسألة المثلية في مونديال 2022 ومؤخرًا مع روسيا بسبب الحرب الأوكرانية.
ومما يكشف عن وجه ماكرون القبيح في التعامل مع ملف العنصرية في بلاده التحول المفاجئ والغريب في مواقفه بشأن حادثة مراهق نانتير، فمن التنديد بالجريمة بداية الأمر واعتبارها خطأ لا يُغتفر إلى وصفها بأنها معركة توظيف واستغلال سياسي من البعض، وصولًا إلى المطالبة باتخاذ موقف صارم إزاء المحتجين وأعمال العنف المرتكبة، الأمر الذي يعكس الإستراتيجية التي تتعامل بها السلطات الفرنسية في الجرائم من هذا النوع حيث تضليل الوعي والانقلاب على الحقائق خدمة لأهداف سياسية ما.
وفي المجمل.. يبدو أن الكأس التي أذاقت منها فرنسا المهاجرين طيلة السنوات الماضية ستتذوقها قريبًا، وأن القناع المزيف الذي لطالما ارتدته الحكومات الفرنسية المتعاقبة لتجميل صورتها الحقوقية دوليًا سيسقط على الأرض، فالفوضى التي تشهدها البلاد مؤخرًا والتمدد الجغرافي لكرة الاحتقان والغضب العرقية يشيران إلى أن السحر ربما ينقلب على الساحر، لتدفع الإمبراطورية الفرنسية ثمن عنصريتها الفجة التي مارستها ضد اللاجئين وأبناء العرقيات الأخرى، في الداخل والخارج.