“نحن بحاجة إلى شريك قوي وصارم كمصر، هذه فرصة ضخمة علينا التمسك بها”.. هكذا علق المستشار النمساوي كارل نيهامر، على المباحثات الجارية الآن بين القاهرة والاتحاد الأوروبي بشأن ضبط ومكافحة الهجرة غير النظامية التي باتت تمثل صداعًا يؤرق الأوروبيين مؤخرًا، في محاولة لتكرار النموذج التركي إفريقيًا.
خلال السنوات الأخيرة تحولت مصر إلى واحدة من أكثر البلدان المثيرة للقلق بالنسبة لأوروبا، كونها إحدى أكثر منصات العبور للسواحل الأوروبية، حيث شهدت الفترة بين 2011 – 2016 على وجه التحديد موجات متتالية من السفن والقوارب التي انطلقت من السواحل المصرية إلى السواحل الليبية ومنها إلى الجانب الأوروبي، ففي عام 2016 فقط انطلقت نحو ألف سفينة تهريب بشر من مصر باتجاه أوروبا، بحسب الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود “فرونتكس”.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2022 أبرم الاتحاد الأوروبي اتفاقًا مع الحكومة المصرية لوقف موجات الهجرة غير النظامية، نظير دعم مالي قدر بنحو 80 مليون يورو، لكن وفق الإحصاءات الحديثة فإن الأعداد في تزايد مقارنة بما كانت عليه في السنوات السابقة، الأمر الذي دفع للتساؤل عن مقاربات القاهرة إزاء هذا الملف، وما يمكن أن تقدمه من أجل وقف شلالات الهجرة المتدفقة، ومدى امتلاكها للأدوات التي تؤهلها لذلك فعليًا.
جدير بالذكر أن فكرة إقامة مراكز لجوء أوروبية في دول شمال إفريقيا، وهو الحل البديل المقترح أوروبيًا للتعامل مع الراغبين في الهجرة غير النظامية، قوبلت برفض وتحفظ من الجانب المصري، رغم الاتهامات الموجهة للقاهرة بالتعامل مع هذا الملف كورقة ضغط للحصول على أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية والسياسية.
فيديو يكشف الأعداد الكبيرة للمهاجرين غير القانونيين الذين تم ضبطهم في #امساعد pic.twitter.com/6Ks0MXiNCa
— تلفزيون المسار (@almasartvlibya) June 1, 2023
زيادة أعداد المهاجرين
تشير التقارير الأوروبية إلى أن أعداد المهاجرين المصريين بشكل غير نظامي ارتفع خلال السنوات الأخيرة مقارنة بما كان عليه قبل خمس سنوات، فوفق وزارة الداخلية الإيطالية وصل عدد المهاجرين المصريين على متن قوارب لإيطاليا خلال الفترة من أول يناير/كانون الثاني وحتى 28 أكتوبر/تشرين الأول 2022 قرابة 16500 مهاجر، ليحتلوا المركز الثاني بعد التونسيين في قائمة الجنسيات الأكثر عبورًا نحو السواحل الأوروبية.
كما تم توثيق أكثر من 26500 مصري على الحدود الليبية خلال عام 2021 كانوا في طريقهم نحو الهجرة عبر السواحل الليبية، وفق ما ذكرت وثيقة المفوضية الأوروبية التي توقعت تدفقات مكثفة من المهاجرين القادمين من مصر بسبب عدم الاستقرار الإقليمي وتغير المناخ والتحولات الديموغرافية وتراجع الفرص الاقتصادية.
واستقبلت الأراضي الإيطالية قرابة 20 ألف مصري من إجمالي 100 ألف مهاجر قدموا إليها عبر الأراضي الليبية خلال عام 2022، بحسب ما ذكرته السلطات الرسمية الإيطالية، كاشفة أن معدلات الهجرة زادت خلال الأعوام الثلاث الأخيرة بعد تراجع ملموس خلال الفترة بين 2016 – 2020 نتيجة الإجراءات المشددة التي اتخذتها القاهرة لمواجهة تلك الظاهرة.
وفي المجمل فقد وصل قرابة 90 ألف مهاجر ولاجئ للأراضي الأوروبية خلال العام الماضي، معظمهم من الجنسيات المصرية والتونسية والليبية، وذلك بزيادة تقدر بنحو أكثر من 50% مقارنة بمعدلات 2021، ما يعكس الطفرة الكبيرة في موجات الهجرة غير المنتظمة، التي تمثل كابوسًا كبيرًا لحكومات أوروبا بصفة عامة، ما دفعها لفتح قنوات اتصال ومباحثات مع الدول المعنية لوقف هذا النزيف، على رأسها مصر وتونس وليبيا.
دعم القاهرة.. جهود أوروبية لتطويق الأزمة
وضع الاتحاد الأوروبي خطة مكتملة لوقف معدلات الهجرة إلى أراضيه تعتمد على دعم دول شمال إفريقيا ذات الارتباط، نظير تقديم حزم من المساعدات المالية والاقتصادية، ففي الجلسة الاستثنائية لمجلس العدل والشؤون الأوروبية التابع للمفوضية الأوروبية في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 قدمت المفوضية خطة مكونة من 20 بندًا لمواجهة التهريب عن طريق البحر الأبيض المتوسط.
وضمن تلك الخطة رصد الاتحاد الأوروبي ميزانية تقدر بنحو 580 مليون يورو لدعم مشروعات مكافحة الهجرة غير الشرعية خلال الفترة بين 2021-2023 تتضمن تعزيز قدرات حرس الحدود وخفر السواحل لشركائه في الشمال الإفريقي، وتعزيز التعاون بشأن معالجة أسباب الظاهرة ووأدها من جذورها.
وفي فبراير/شباط 2022 استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، ومستشار النمسا كارل نيهامر، ورئيس مجلس النواب الإيطالي – آنذاك – روبرتو فيكو، وتباحثوا معًا هذا الملف ضمن حزمة ملفات أخرى تستهدف التعاون من أجل مكافحة الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب، وهي الملفات ذاتها التي ناقشها الرئيس المصري والمستشار النمساوي خلال زيارة الأخيرة للقاهرة قبل شهر.
وكان الجانب المصري – عكس بقية الدول الأخرى – قد اتخذ إجراءات مشددة لمكافحة الهجرة غير النظامية نهاية 2016 أسفرت عن نجاح كبير في تقليص أعداد المهاجرين، وهو ما يتطابق إلى حد كبير مع أرقام وكالة حرس الحدود الأوروبية التي أشارت إلى انخفاض عدد المهاجرين غير الشرعيين بنسبة 60% في عام 2017 وتحول عبور غالبيتهم لوسط شمال إفريقيا بدلًا من شمالها الشرقي (مصر).
تتويجًا لهذا التعاون وقع الاتحاد الأوروبي مع القاهرة اتفاقًا في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2022 انضمت بمقتضاه مصر إلى المرحلة الأولى من برنامج إدارة الحدود، التي تستهدف إدارة أكثر فاعلية للحدود البرية والبحرية المصرية، وتعزيز قدرات البحث والإنقاذ، وذلك نظير ميزانية قدرت بنحو 80 مليون يورو، يأخذهم الجانب المصري على دفعتين، الأولى بقيمة 53 مليون يورو تسلم قبل منتصف عام 2023 على أن يسلم الجزء المتبقي قبل نهاية العام نفسه، بحسب الباحث والاستشاري في مجال الهجرة واللجوء بمنظمة Migreurop، محمد الكاشف.
أُقر هذا المبلغ الممنوح للقاهرة في صورة معدات للبحث والإنقاذ وليست أموالًا نقديةً، كما طلبت مصر ضمها إلى الخطة التنفيذية الإقليمية، لترافق كل من تونس وليبيا لمراقبة منطقة وسط البحر المتوسط، وفق ما ذكر الباحث في مجال الهجرة الذي ألمح إلى أنه من “غير المعروف إلى الآن هل يضمن المبلغ أيضًا تدريبات ورفع كفاءة قوات خفر السواحل المصرية أم أنه يشمل فقط المعدات والأدوات، لكن على الأغلب فإن خطة العمل – التي أضيفت مصر إليها لأول مرة – ستهتم بالتدريبات” على حد قوله.
ويتوقع خلال الفترة القادمة أن تبرم كل من مصر وتونس وليبيا اتفاقات مماثلة مع بعض دول أوروبا، كل على حدة، بعيدًا عن مظلة الاتحاد الأوروبي، كما هو الحال مع الجانب الإيطالي الذي أبرم اتفاقًا شبيهًا مع القاهرة بداية هذا العام، في الوقت الذي أكد فيه التحالف الأوروبي تعزيز التعاون مع شركاء الشمال الإفريقي في مجالات اقتصادية أخرى مثل التعاون الإنمائي والأمن والتأشيرات والتجارة والزراعة والاستثمار والتوظيف والطاقة والبيئة وتغير المناخ والتعليم، بهدف تعزيز الشراكات بما يدفع تلك البلدان التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة للتعاون وبذل كل الجهود المتاحة لإنهاء هذا الكابوس الذي تحول إلى صداع مزمن لدى صناع القرار في أوروبا.
ورقة ابتزاز بأيدي القاهرة
هل تمتلك مصر القدرة على وقف تلك الظاهرة؟ الإجابة بكل حسم “نعم” وهو ما تبرهنه السنوات الخمسة التي تلت موجات نزوح 2016، فبعدما كانت السواحل المصرية أحد أبرز الروافد التي تضخ يوميًا عشرات السفن المحملة بالمهاجرين إلى الجانب الأوروبي، إذ بها تتوقف فجأة، ومن الصعب عبور سفينة تهريب واحدة، في ظل قبضة أمنية محكمة، وتغليظ مشدد للعقوبات المفروضة على المخالفين.
وعليه فإن القاهرة بما لديها من قدرات عسكرية وبحرية وأمنية كبيرة قادرة على السيطرة على موجات النزوح غير النظامي، سواء للمصريين أم الفارين من ويلات الحرب في الدول ذات النزاعات كاليمن وسوريا، فضلًا عن المهاجرين الأفارقة الذين كانوا يتخذون من مصر محطة محورية للعبور نحو أوروبا، وهنا تساؤل آخر: إن كان الأمر هكذا فما أسباب عودة تدفقات المهاجرين غير النظاميين خلال العامين الماضيين تحديدًا؟ وهو التساؤل الذي فتح الباب أمام التشكيك في تعاطي القاهرة مع هذا الملف في ظل مقاربات مغايرة فرضتها المستجدات الأخيرة.
يعلم الرئيس المصري ونظامه، مدى حساسية تلك القضية للأوروبيين، وعليه فهو يحاول توظيفها قدر الإمكان للخروج بأكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية معًا، كما ذهب مؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، الناشط السياسي بهي الدين حسن، الذي ألمح إلى وجود صفقة ابتزاز ضمنية بين القاهرة وأوروبا مفادها وقف مصر لظاهرة الهجرة غير الشرعية نظير غض الطرف عن الملف الحقوقي المصري وتقديم أوجه الدعم السياسي والمالي للسلطات الحاكمة.
ويحاول السيسي تكرار السيناريو التركي في تعاطيه مع تلك المسألة لكن على المستوى الإفريقي، حيث حققت أنقرة حزمًا كبيرةً من المصالح من خلال توظيف ملف المهاجرين، وهو ما يعزف عليه الرئيس المصري – وإعلامه الرسمي وغير الرسمي – بين الحين والآخر من خلال تصريحاته وخطاباته الأخيرة، حينما يحذر من الوضع حال انهيار مصر اقتصاديًا أو سياسيًا، حيث مواكب الهجرة المتوقعة التي لا حصر لها إلى الأراضي الأوروبية، وفتح المجال المصري لعبور عشرات الآلاف من الراغبين في اللجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي من العرب والأفارقة.
ووفق شهود عيان فإن الأمن المصري على دراية تامة بشبكات التهريب والهجرة غير الشرعية، بل إن بعض سماسرة تلك التجارة يتعاونون مع أفراد الأمن ويشترون صمتهم ودعمهم مقابل المال، علمًا بأن تسعيرة رسوم الهجرة إلى إيطاليا وفرنسا وصلت لنحو 250 ألف جنيه مصري (نحو 8064 دولارًا).
وبحسب رأي فريق من الخبراء فإن التراخي الأمني المصري في التعامل مع تلك الظاهرة يعكس مقاربات مغايرة للقاهرة في التعاطي إزاء هذا الملف الذي تحاول قدر الإمكان توظيفه لجني مكاسب سياسية تتمثل في دعم النظام الحاليّ وغض الطرف عن انتهاكاته الحقوقية والإنسانية المستمرة والمثيرة لقلق المنظمات الحقوقية الدولية، وأخرى اقتصادية تتمحور حول الحصول على حزم مالية تساعدها في الخروج من المأزق الاقتصادي الكبير الذي تعاني منه.
يبدو أن هذا الملف لن يحسم في القريب العاجل قبل استجابة أوروبا لمطالب الجانب المصري، وهي الاستجابة التي قد تعرض حكومات التحالف لانتقادات داخلية كبيرة، فهل تنجح القاهرة في توظيفه بما يمهد الطريق نحو إحياء النموذج التركي مرة أخرى؟ وهل تملك الأدوات اللازمة لذلك؟