ما زالت محافظة درعا جنوب سوريا تعيش على صفيح ساخن منذ اتفاق التسوية الذي فرضه نظام الأسد منتصف 2018، بعد سيطرته على المحافظة، فمنذ ذلك العام تخيّم حالة من الفلتان الأمني وتجدد الحملات العسكرية تجاه مدن وقرى المحافظة، آخرها سُجل في مدينة طفس بريف درعا الغربي، 4 يوليو/تموز الحاليّ، إذ شهدت حركة نزوح كبيرة للأهالي نحو القرى والبلدات المجاورة بعد اشتباكات عنيفة بين قوات النظام ومجموعات محلية من أبناء المدينة حاولت إيقاف تقدم قوات النظام بعد أن استقدمت تعزيزات عسكرية ضخمة تضم آليات عسكرية ودبابات وعربات مصفحة، قادمة من حاجز “السماد” شمال بلدة اليادودة في درعا.
وتمكنت قوات النظام خلال اشتباكاتها ضد المجموعات المحلية التي يقودها القيادي المحلي خلدون الزعبي – قبل مقتله إلى جانب اثنين – من التمركز في المزارع والبساتين للسهول الجنوبية للمدينة والمنطقة الواصلة بين مدينة طفس وبلدات مزيريب واليادودة، والمناطق المحيطة بها.
فيما تزامنت الاشتباكات المندلعة بين الطرفين مع استهداف عشوائي لمحيط المدينة من مفرزة الأمن العسكري وثكنة الأغرار بعربات الشيلكا (مضادات طيران) وقذائف الدبابات، تبعه استهداف مسيرة تابعة للنظام منزل قيادي في الجيش الحر كان قد رفض الخروج إلى الشمال السوري قبل سنتين.
في فيديو نشره موقع تجمع أحرار حوران (مؤسسة إعلامية تهتم بأحداث الجنوب السوري) يظهر حركة نزوح للأهالي من مدينة طفس غرب درعا، جراء قصف قوات النظام واقتراب الاشتباكات من أحياء المدينة، ما دعا ناشطين لنشر وسم هاشتاغ (#إيران_تجتاح_الجنوب)، على موقع تويتر، في محاولة منهم للفت الأنظار إلى الحملة التي يشنها النظام من قوات الأمن العسكري وقوات من الفرقة الـ15 وميليشيات إيرانية بحق المدينة.
حركة نزوح للأهالي من مدينة طفس غرب درعا، جراء قصف قوات النظام صباح اليوم واقتراب الاشتباكات من أحياء المدينة.#أحرار_حوران pic.twitter.com/TypauAArMs
— تجمع أحرار حوران (@HoranFreeMedia) July 6, 2023
يشير أيمن أبو نقطة، الناطق باسم “تجمع أحرار حوران”، إلى أن ما يحصل في مدينة طفس اليوم هو السيناريو ذاته في كل سنة وفي ذات التوقيت من شهر يوليو/تموز، إذ يحاصر النظام سلة حوران الغذائية من أراض زراعية وبساتين محيطة بمدينة طفس.
مضيفًا لنون بوست، أن النظام يتذرع كعادته بوجود غرباء في هذه المنطقة، يتبعون لتنظيم داعش، مدعيًا أنهم استهدفوا عناصر شرطة تنتمي للنظام في بلدة المزيريب والشيخ مسكين.
ويرى أبو نقطة، أن أولوية المجموعات المعارضة في المحافظة في الرد على انتهاكات النظام هي استهداف حواجز المخابرات الجوية والأمن العسكري والدوريات الأمنية، فهي أَولى من استهداف عناصر الشرطة، التي يستهدفها النظام ذاته ليشرعن هذه الحملات العسكرية على المناطق وليكثف من حواجزه العسكرية.
اتفاق خلّبي
توصل وجهاء من آل الزعبي بمدينة طفس لاتفاق مبدئي مع رئيس فرع الأمن العسكري لؤي العلي بمدينة درعا، يقضي بوقف إطلاق النار من صباح الخميس الـ6 من الشهر الحاليّ في مدينة درعا.
وجاء في البيان، الذي حاول فيه الوجهاء إغلاق الطريق بوجه النظام: “كنا قد استنكرنا استهداف عناصر الشرطة المسؤولين عن حماية المراكز الامتحانية، الذين تم استهدافهم في بلدة المزيريب قبل عدة أيام، لأننا لا نحمل ولا نحتضن أي فكر متطرف”.
وتابع البيان “إننا عشيرة آل الزعبي إذ نحرص بحكم ديننا وأخلاقنا على إغاثة الملهوف، ومساعدة الضعيف، إلا أننا نرفض وجود أي ضيف أو غريب مسيئ وخارج عن أعرافنا وأخلاقنا وتقاليدنا، وعليه فإن أي شخص مسيئ لا يعنينا ولا يمثلنا، وهذا من المبادئ الراسخة عندنا مسبقًا”.
وسادت حالة من التخبط بين الأهالي في مدينة طفس، إذ إنهم لا يثقون بالنظام، فهم متخوفون من عمليات اقتحام جديدة، لأن حملته حسب روايته السابقة ستقتصر فقط على السهول المحيطة بطفس، إلا أنها تجاوزت إلى الأحياء السكنية داخل مدينة طفس مستخدمة أسلحة متوسطة وثقيلة، كما أن النظام ورغم وجود الاتفاق لم ينسحب من محيط مدينة طفس، والأراضي الممتدة من بلدة اليادودة، ما شكّل قلقًا بالنسبة للأسر التي تملك أراض زراعية أو منازل قريبة من أماكن تمركز النظام.
أبو عارف (اسم مستعار بناءً على طلبه) هو أحد سكان مدينة طفس، وصف الأهالي في المدينة بالمشتتين والمترقبين بحذر وخوف بعد الاتفاق، فهناك جزء من العائلات بدأوا بالعودة إلى منازلهم وأراضيهم البعيدة عن الأحياء الجنوبية المشتعلة، أما العائلات التي تتركز بيوتها وأراضيها في تلك الأحياء فقسم منها اضطر للعودة رغم ما تحويه من مخاطر لأن هذه العائلات لم تجد مأوى بعد أن باتت ليالٍ تحت الشجر، ومنهم من لم يعد حتى الآن، إذ ما زالوا يقيمون عند أقارب لهم بالقرى المحيطة بطفس، ينتظرون ما ستؤول إليه الأمور.
بالمقابل فإن الأهالي كالغرقى الذين يتعلقون بقشة، إذ ينظرون إلى اللجان المفاوِضة نظرة إيجابية، لأنها لجان أهلية تتكون من وجهاء من المنطقة وليست لجان مركزية كما في السابق والتي فقدت شرعيتها، – فحسب أبو عارف – غاية هذه اللجان الأهلية تجنيب المدينة أي صدام عسكري وتحقيق الأمن للأهالي وإبعاد أي عملية عسكرية تهددهم.
ومع الجهود التي تبذلها اللجان الأهلية، إلا أن الأهالي يؤمنون بأن النظام لا عهد له أو ميثاق، فهم يتوقعون بأن ينقض الهدنة ويعاود حملته العسكرية في أي لحظة، كما فعل في عدة مناطق خلال السنوات الأخيرة، ينوه أبو عارف، أن أي منطقة يوجد فيها عناصر من الجيش الحر عرضة للقصف والاستباحة والاستهداف، من خلال استخدام النظام حججًا واهية كاتهامهم بالانتماء لتنظيم داعش أو اتهامهم بالتشليح والقتل وترويج وتجارة المخدرات، رغم أن النظام هو الراعي الأول لتجارة المخدرات كما هو معروف.
ابتزاز ممنهج للأهالي
ليست المرة الأولى التي يحاول النظام فيها اقتحام مدينة طفس ومحاصرة محيطها وإحداث نفس الأضرار على ممتلكات السكان والمزارعين، بحجة البحث عن مطلوبين، إذ تعرضت الأحياء الجنوبية للمدينة في الأعوام الفائتة وبنفس توقيت هذا العام لسيناريو مشابه من تخريب الأرضي الزراعية بسبب تعفيش عناصر النظام للأدوات والوسائل الزراعية، ومنع قوات النظام الأهالي والمزارعين من الذهاب إليها لسقاية مزروعاتهم والاعتناء بها، ما أدى إلى خسائر بمئات الملايين السورية.
غالبية أهالي محافظة درعا باتوا على يقين بأن هذه السياسات التي يلجأ إليها النظام دائمًا تتزامن مع مواسم الحصاد، الأمر الذي ولّد قناعة لدى أهالي المحافظة بأن النظام يهدف إلى معاقبة الحاضنة التي احتضنت من ثاروا في وجهه، وبالتالي يسعى لحرمان المزارعين ومعاقبتهم من خلال حرمانهم من جني محاصيلهم التي غالبًا ما تتعرض للحرق جراء إطلاق القذائف بشكل عشوائي، وكذلك من خلال حرمان المزارعين من الوصول لمشاريعهم الزراعية.
يحاول النظام في حملاته خلال السنوات الأخيرة ابتزاز الأهالي في أرزاقها، إذ يفرض عليهم إتاوات مالية مقابل الخروج من بساتينهم الزراعية، بعد أن يقوم بتعفيشها وتخريبها، إضافة إلى فرض إتاوات باهظة على السيارات المحملة بالخضراوات المتجهة إلى الأسواق، هذا عدا عن تأذي عدد كبير من الأراضي والمزروعات الصيفية كالبندورة والخيار والأشجار المثمرة التي تحتاج إلى سقاية وعناية خاصة دورية مع ارتفاع درجات الحرارة، بسبب غياب أصحابها عنها، فحتى لو عاد أصحابها إليها واعتنوا بها فالخسائر كبيرة، بسبب الانقطاع عن سقايتها والحاجة للجني اليومي لمحاصيلها.
يشير أبو عارف، أن أقل بستان تكلفته اليوم ما بين 50 و100 مليون ليرة سورية، فالمنطقة التي يركّز النظام فيها اقتحامه حصرًا هي منطقة صمخ جنوب مدينة طفس، وهي منطقة زراعية ومعروفة بخصوبتها ومياهها، فيما يبتعد في اقتحامه عن محاور أخرى لابتزاز الناس ولمعرفته بالتكاليف الكبيرة والأرزاق الموجودة فيها، بحيث يجبر الأهالي على الضغط على المجموعات المسلحة.
وتعمدت قوات النظام السرقة والتعفيش لمجموعات الطاقة الشمسية ومستلزمات الآبار ومضخات الري وشبكات السقاية والرش، فأقل منظومة طاقة اليوم تبلغ 50 مليون ليرة سورية حسب البئر ومساحة الأراضي، فضلًا عن تعمد تخريب الأراضي والمزورعات الصيفية والأشجار وحرق البيوت بعد استهدافها بعربات الشيلكا وقذائف الدبابات.
خطوة مقابل خطوة
يحاول النظام أن يوصل رسالة إلى الدول العربية أنه قدّم من طرفه خطوة لضبط أمن المنطقة الجنوبية، عبر محاربته التنظيمات التي يزعم انتماءها لتنظيم داعش ومحاولته احتواء الفلتان الأمني وعلميات الاغتيال وتجارة المخدرات رغم أن مصلحة النظام في وجود هذه المجموعات لا يمكن أن تغيب عنه لإلصاق كل التجاوزات وعمليات القتل والخطف وترويج المخدرات بها وتقديم إحداثيات أماكن وجودها كما فعل في مايو/أيار الفائت، بريف درعا الغربي وريف السويداء الشرقي عندما استهدف الطيران الأردني موقعًا لتصنيع وتخزين المخدرات، في مشهد يعكس تنازلات أمنية قدمها النظام لصالح الأردن ودول الخليج في ملف مكافحة المخدرات في المنطقة.
يرى أبو نقطة، أن النظام يستغل ما يحدث من اتفاقيات دولية، فمؤخرًا في اجتماع عمان التشاوري جرى التأكيد على مبادرة خطوة مقابل خطوة، فالنظام اليوم يسعى جاهدًا لتقديم خطوات من طرفه وهذه الخطوات وهمية وغير واقعية.
مضيفًا أن الخطوة الأخيرة التي قدمها النظام هي إخراج طائرة حربية من مطار التيفور العسكري بريف حمص واستهداف المنطقة التي يهاجمها النظام حاليًّا بغارتين، وهي المنطقة الفاصلة بين طفس واليادودة وعتمان.
وحسب أبو نقطة، فقد قدم النظام سابقًا خطوات التسويات التي جرت في محافظة درعا ولم تغير شيئًا من الواقع الأمني، إذ لم تتوقف الاعتقالات على حواجز النظام ولم تتوقف الاغتيالات التي يشرف على تنفيذ جزء كبير منها أجهزة النظام الأمنية.
بدوره رأى سليمان الفرقان نقيب المحامين في محافظة درعا سابقًا، وعضو اللجنة الدستورية عن قائمة المجتمع المدني حاليًّا، أن النظام يسعى من خلال إعلامه إلى تصوير حشوداته وقصفه وحصاره لطفس أنها تصب في مسار جهوده للقضاء على مهربي المخدرات، وبالتالي يمكن المتاجرة بها على أنها خطوة وعلى العرب التقدم بخطوة لقائها، في حين أن القاصي والداني يعلم أن الميلشيات الشيعية هي التي تصنع وتشرف على عمليات التهريب.
أهمية ورمزية “طفس”
لطالما اعتبرت مدينة طفس من أوائل المدن المناهضة للنظام منذ اندلاع الثورة، وبوابة ريف درعا الغربي وصولًا لمحافظة القنيطرة، عدا عن كونها سلة غذاء حوران لما تحتويه على مزارع وبساتين واسعة وزراعات تشكل عصب القوة الاقتصادية لأهلها، فيما كانت حوران تكنى بـ”أهراء روما” أي مستودع الغذاء لروما، بسبب إنتاجها من القمح الذي كان يكفي روما، أيام حكم الإمبراطورية الرومانية، كذلك كانت أحد مصادر القمح الرئيسية أيام الدولة العثمانية.
العميد المنشق المنحدر من محافظة درعا، أسعد الزعبي، الذي ترأس سابقًا وفد الهيئة العليا للمفاوضات المعارض، يقول لنون بوست، إن طفس تتميز بثقلها الثوري، فهي إلى الآن لم تركع، ولم ينفّذ أحد من أبنائها تسويات إلا ما ندر، فضلًا عن كون أهم قادة فصائل الجيش الحر السابقة ينحدرون منها، ولهم نشاطات خلال الثورة، فلذلك كل فترة يقوم النظام بمحاولة تركيع طفس أكبر المدن الخارجة عن سلطته غرب حوران.
ويصف الزعبي عملية طفس بـ”المسرحية” التي يريد النظام من خلالها إرسال رسائل للعرب المطبعين، وهي قدرته على التخلص من بعض تجار المخدرات المكشوفين والمعروفين بتبعيتهم له حتى يتخلص منهم نهائيًا كونهم شهود على تجارته، إضافة إلى رغبته في التنويه عن مدى قوته في الجنوب.
ويبدو أن النظام يحاول إشعال فتنة بين أبناء حوران، وأنه يطارد عناصر من داعش، خاصة أنه بصدد تنفيذ مناورات مع الروس لإظهار جانب من قوته، ويأتي ذلك بالتزامن مع تحركات أمريكية قد تفصل الجنوب السوري عن الدولة، حسب قول الزعبي.
يتفق الفرقان في حديثه لنون بوست مع الزعبي، في أن النظام دائمًا يسعى لإظهار درعا التي انطلقت منها المظاهرات المطالبة برحيله على أنها مأوى للإرهاب وأن من ثاروا وطالبوا برحيله منذ البداية إرهابيون، وما يحدث في طفس منذ أيام يصب في هذا الشأن، حيث يدّعي النظام أن حملته كما سابقاتها هي لمكافحة الإرهاب بذريعة أن هناك متطرفين يجب محاربتهم.
من جهة أخرى فإن لطفس خصوصية عند النظام، ودرجة الحقد عليها كبيرة جدًا، لأن النظام لم يستطع عمليًا السيطرة عليها نظرًا لتماسك أبنائها، ولأن فصائل طفس ما زالت تقف في وجه مخططاته ودائمًا ما تقدم الفزعة والدعم لأي منطقة يحاول النظام اقتحامها، حسب وصف الفرقان.
بالنظر إلى تاريخ النظام في إجراء التسويات والمصالحات مع المدن السورية عمومًا ومدن حوران خصوصًا، يظهر لنا عدم التزام النظام وأفرعه الأمنية بأي اتفاقية تهدئة أو هدنة مؤقتة، بل على العكس تمامًا، يعتمد النظام على المراوغة وعامل الوقت للانقلاب على الاتفاق ومحاولته تركيع المناطق التي أرهقته خلال سنوات الثورة السورية، فضلًا عن وضوح هدفه بالحرص على زيادة موارد ضباطه وعناصره من عمليات التعفيش والسلب والنهب وسط ما تعانيه البلاد عمومًا من أزمة اقتصادية ومعيشية، رغبةً منه في تعويضهم من أموال سكان تلك المدن، التي ما زال يكنّ لها عداءً مستفحلًا.