ترجمة وتحرير: نون بوست
مع بلوغه سن الـ62، لا يبدو المؤسس السيء لمجموعة المرتزقة الروسية “فاغنر” وكأنه سياسي طموح يتمتع بالجاذبية. بل يبدو وجه يفغيني بريغوجين مخيفا، وهو حليق الرأس، وأسنانه غير المستوية ملطخة بالتبغ، كما أنه سليط اللسان، قضى معظم فترة الثمانينات في السجون السوفيتية بعد إدانته بالسرقة المسلحة وتجنيد الأطفال في صفوف العصابات.
ولكن بعد مرور أكثر من 30 سنة، خرج بريغوجين من الظل مباشرة إلى دائرة الضوء في السياسة الروسية. إذ تظهر استطلاعات الرأي أنه أصبح شخصية عامة معترف بها ورسم مكانة سياسية بين الروس المحافظين الذين يقدسون الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين ويريدون كسب الحرب في أوكرانيا مهما حدث.
وصرّح بريغوجين في أيار/ مايو بأن “الرفيق ستالين كان محقًا تمامًا”، مشيدًا بعقوبة الإعدام للجنود والمسؤولين الذين “يفشلون” في دعم المجهود الحربي المتعثر. وسيكون مثل هذا القانون مشابهًا لسياسات ستالين في الحرب العالمية الثانية.
وقال بريغوجين إنه بعد خسارة عشرات الآلاف من المرتزقة في شرق أوكرانيا، سيتعين على مجموعة فاغنر تجنيد المزيد من الأشخاص و”التحول إلى جيش يتمتع بأيديولوجية”.
وفي أواخر أيار/ مايو، قام بريغوجين الذي كان غامضًا وسريًا بجولة في روسيا وعقد أربعة مؤتمرات صحفية. وبالنسبة لبعض المراقبين الخارجيين، قد يكون تحول بريغوجين جزءًا من خطة الكرملين لنقل السلطة في حالة انهيار مماثل لـ”أوقات الاضطراب” بين وفاة القيصر إيفان الرهيب وصعود سلالة رومانوف قبل أربعة قرون.
وقال المحلل المقيم في كييف، أليكسي كوش، إن هناك سيناريوهين محتملين.
وصرح لموقع “الجزيرة” بأن “النسخة الصعبة هي حالة “الأوقات الصعبة 2.0″، عندما تنهار جميع مؤسسات السلطة الرسمية مثل الجيش والشرطة، حينها يمكن لبريغوجين أن يرأس جيشًا من المتطوعين”.
وأضاف: “في نسخة أخف، يجب عليه – تحت إدارة الكرملين – قيادة الجزء الراديكالي من الجمهور الغاضب من نتيجة الحرب وقيادة المعارضة التي يمكن السيطرة عليها للسلطة. وفي الوقت نفسه؛ من خلال تزايد السخط، سوف يقضي على المعارضة الليبرالية على الهامش السياسي”.
قرارات “دكتاتورية”
قد يكون مصطلح “السحق” مصطلحًا مناسبًا لوصف أسلوب بريغوجين في الإدارة. ففي شباط/ فبراير 2018، أمر مرتزقة فاغنر الذين يقاتلون إلى جانب جيش الرئيس السوري بشار الأسد بالاستيلاء على مصنع للغاز الطبيعي في الجزء الذي يسيطر عليه الأكراد في شرق سوريا.
وأدت خطوته في النهاية إلى أول اشتباك مسلح بين مواطنين روس وأمريكيين منذ نهاية الحرب الباردة. وقال مارات جابيدولين، الذي قاد وحدة فاغنر في معركة 8 شباط/ فبراير 2018، لموقع “الجزيرة” إن “بريغوجين قرر أن كل شيء سوف يسير بسلاسة. ولكن الأمريكيين كانوا يفكرون بشكل مختلف”.
وهاجم تحالف تقوده الولايات المتحدة مجموعة فاغنر والجنود السوريين المدعومين بالطائرات والمدفعية، مما أسفر عن مقتل المئات. وأوضح جابيدولين، الذي وصف السنوات الأربع التي قضاها مع مجموعة فاغنر في كتابين منشورين: “لقد تم تدميرنا ببساطة. وكنت محظوظًا لأنني نجوت، حيث أصبت بجروح طفيفة”.
وقال جابيدولين إن الفشل نابع من أسلوب اتخاذ القرار “الاستبدادي” لبريغوجين والذي يؤدي في كثير من الأحيان إلى سوء التقدير وخسائر في الأرواح.
وأضاف قائلًا: “بسبب اقتناعه بأنه عبقري ودائمًا على حق، غالبًا ما يبالغ في تقدير قدراته”.
“اخرس وأطع بوتين”
طريق بريغوجين المحتمل، بدءًا من الخنادق وصولًا إلى أروقة السلطة، مرصوفًا بجثث أمراء الحرب الآخرين الذين برزوا لفترة قصيرة في شرق أوكرانيا.
وقال سيرجي بيزيوكين، الناقد والإعلامي الهارب من الكرملين، لموقع “الجزيرة”: “لن أستبعد أن يتقلد بريغوجين منصبًا سياسيًّا في روسيا”.
ومع ذلك؛ من المرجح أن يلقى بريغوجين مصير العديد من القادة الانفصاليين في جنوب غرب أوكرانيا الذين لقوا حتفهم في ظروف مريبة بعد خلاف مع القيمين على الكرملين، على حد تعبيره.
وقال بيزيوكين إن “المنطق التاريخي قاسٍ وعمليًا لا يترك لبريغوجين فرصة للبقاء”. ويؤكد محلل آخر على ذلك – بالنظر إلى أن بريغوجين كان له أعداء بين كبار الضباط في روسيا ورفض إجبار مرتزقة فاغنر على توقيع عقود مع وزارة الدفاع.
وقال نيكولاي ميتروخين من جامعة “بريمن” الألمانية، إن بريغوجين يملك خيارين. الأول هو “الصمت والامتثال لقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدمج كل القوزاق المنتشرين، والحرية الفوضوية لمجموعة فاغنر في إطار هياكل الدولة المعتادة”.
أما الخيار الثاني فيتمثل في “الحرق حتى الموت بعد تلقيه ضربة من قاذف اللهب الروسي “شميل” في جانب سيارته، وهو الأمر الذي سيُنسب لاحقًا إلى جماعات التحريض الأوكرانية”، على حد تعبيره.
لقد تجاوز بريغوجين الكثير من الخطوط الحمراء، وقد يكون قاتلًا آخرا. وقال ميتروخين إن “بوتين يتسامح مع الحلفاء البارزين السابقين، ولكن قيل لبريغوجين مرارًا وتكرار أنه وصل إلى الحضيض ولن يكون لديه أي دعم سياسي”.
حقيبة بمطرقة
في الأول من شهر حزيران/ يونيو، تلقى بريغوجين هدية استثنائية من أمير حرب آخر له طموحات سياسية.
ومرّ رئيس مجموعة فاغنر على مستشفى في مدينة نيجني نوفغورود الغربية، حيث يرقد الكاتب الموالي للكرملين، زاخار بريليبين، بعد تعرضه لمحاولة اغتيال في السادس من شهر أيار/ مايو يلقي باللوم فيها على كييف.
ويعتبر بريليبين ناقدًا سابقًا لبوتين، وقد انضم إلى الكرملين بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم سنة 2014. واعترف بارتكاب جرائم حرب بينما كان يرأس وحدة من المقاتلين الانفصاليين الموالين لموسكو في جنوب شرق أوكرانيا.
وفي هذه الأيام؛ يشارك بريليبين في رئاسة حزب “روسيا فقط” اليساري الذي يتمتع بحضور ضئيل في مجلس الدوما، مجلس النواب في البرلمان الروسي.
ويرأس سيرجي ميرونوف، الجيوفيزيائي السابق الذي صادق بوتين في التسعينات، حزب “روسيا فقط”. ويُنظر إلى حزبه على نطاق واسع على أنه مشروع الكرملين المصمم لاستقطاب أصوات المسنين الروس المؤيدين للشيوعية.
في كانون الأول/ ديسمبر؛ تفاخر ميرونوف بهدية موقعة من بريغوجين، وهي عبارة عن مطرقة ثقيلة ضخمة. وقبل شهر، تم استخدام أداة مماثلة لإعدام مرتزق فاغنر الذي استسلم للقوات الأوكرانية وتم استبداله لاحقًا.
وأعطى بريليبين بريغوجين “حقيبة بمطرقة” طرّزها بنفسه أثناء وجوده في المستشفى، وأثنى عليه هو ومرتزقة فاغنر.
وكتب بريليبين على منصة “تلغرام” إن “حقيقة وجودهم يقدّم أملا في حرب أخرى، وسياسة أخرى، ولغة سياسية أخرى إذ يوجد القليل من السياسة والصدق، حيث يتعلم المرء التمسك بنفسه”.
وأخبر مسؤولون مرتبطون بالكرملين موقع “ميدوزا” في أبريل/ نيسان أن بريغوجين قد يحاول السيطرة على فرع حزب روسيا فقط في سان بطرسبرغ.
من الصراصير إلى “الماس الدموي”
وتعود ثروة بريغوجين إلى كشك لبيع النقانق الذي افتتحه سنة 1990 في سان بطرسبرغ. وسرعان ما جنى ما يكفي من المال لافتتاح مطعم في قارب نهري – وسرعان ما أعجب بوتين بذلك، الذي كان يشغل منصب مسؤول مجلس المدينة في ذلك الوقت.
وبعد أن أصبح رئيسًا، استضاف بوتين العديد من قادة الدولة على متن القارب – ومنح عقود شركات بريغوجين مع الجيش والمدارس والمستشفيات.
ولم يتراجع التدفق النقدي حتى بعد العثور على الديدان والشعر والصراصير في الطعام، وتم نقل المئات إلى المستشفى مصابين بالعدوى، وذلك وفقًا لتحليل أجري سنة 2019 لقضايا المحكمة التي تشمل شركات بريغوجين.
وأطلقت وسائل الإعلام على بريغوجين لقب “طاهي بوتين”، لكن خدماته الأكثر قيمة للكرملين كانت حتى أقل مقبولية.
فقد استخدمت وكالته لأبحاث الإنترنت حسابات مزيفة وهويات مسروقة لأميركيين حقيقيين لنشر وجهات نظر مؤيدة للكرملين والتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2016، وذلك وفقًا للبيت الأبيض.
وفي سنة 2014، أسس بريغوجين مجموعة فاغنر، التي عملت في جنوب شرق أوكرانيا، وسوريا، وليبيا، والسودان، وجمهورية إفريقيا الوسطى، ومالي، وموزمبيق.
ويحاول بريغوجين تطوير الثروات المعدنية التي يملكونها. ووقعت شركته “إيفرو بوليس” صفقة لتعدين الهيدروكربونات في سوريا واستعادة البنية التحتية للطاقة، كما زعمت مجموعة أبحاث “كل العيون فاغنر” ومقرها فرنسا أنه حصل أيضًا على حصة في تجارة “الماس الدموي الأفريقي”.
في كانون الثاني/ يناير، استولت مجموعة فاغنر على بلدة سوليدار، التي كانت تنتج 90 بالمئة من ملح الطعام في أوكرانيا. كما أن المناطق المحيطة بها غنية بالمرمر والطين الثمين للسيراميك والفحم.
“حياة منحطة”
وفي مطلع شهر حزيران/ يونيو، ارتفعت معدلات الموافقة على بريغوجين من واحد إلى أربعة بالمئة، وذلك وفقًا لمركز ليفادا، خبير استطلاعات الرأي المستقل الوحيد المتبقي في روسيا.
وفي روسيا، جعله خامس شخصية معروفة بعد بوتين ورئيس الوزراء ميخائيل ميشوستين ووزير الخارجية سيرجي لافروف ووزير الدفاع سيرجي شويغو.
ولكن رئيس ليفادا يقول إن الملف الشخصي العام لبريغوجين لن يترجم إلى مهنة سياسية.
وبحسب ما ورد قال ليف جودكوف “إن فرص بريغوجين ضئيلة في أن يصبح سياسيًا فيدراليًا، وتسبب مثل هذه الأرقام تسبب الخوف والحذر. إنه خارج عن القانون”.
الموقع: الجزيرة