شهدت الأيام القليلة الماضية ترحيل جماعي لآلاف المهاجرين المصريين على أيدي سلطات شرق ليبيا الخاضعة لسيطرة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، بدعوى أنهم دخلوا البلاد بشكل غير قانوني، في إطار حملة المنطقة الشرقية “للتطهير من ظاهرة الهجرة غير الشرعية ومكافحة أوكار المخدرات”.
وأظهرت عشرات المقاطع المصورة صور ترحيل المصريين نحو بلادهم عبر البوابة الحدودية “أمساعد”، في أعقاب إعلان سلطات شرق البلاد عن “عملية تحريرهم” من سجون مهربين وتجار بشر، في مشاهد وصفها البعض بـ”الفضيحة” التي تتطلب موقفًا حازمًا من الجانب المصري.
ليس هناك إحصاء رسمي بشأن عدد المرحلين المصريين، فيما أشارت مصادر أمنية ليبية إلى أن القوات الخاضعة لسيطرة حفتر عثرت على أربعة آلاف مهاجر خلال حملة مداهمات مهربي البشر، منهم 2200 كانوا موجودين بشكل غير قانوني وجرى ترحليهم إلى الأراضي المصرية بحسب ما ذهبت وكالة “رويترز”.
ورغم أن حملات مكافحة الهجرة غير الشرعية التي أعلنتها السلطات الليبية بشراكة مع الشركاء الأوروبيين كانت في 2015، فإن تلك هي المرة الأولى التي تشن فيها سلطات المنطقة الشرقية مثل تلك الحملات الأمنية الكبيرة، بهذه الكيفية والتفاصيل المثيرة للشك، مستهدفة المهاجرين المصريين على وجه التحديد، بجانب جنسيات أخرى لكنها أقل عددًا.
كثير من المقبوض عليهم والمرحلين لمصر كانوا في انتظار طلب اللجوء، وآخرين لديهم تأشيرات دخول قانونية بالفعل، وهو ما أثار الكثير من التساؤلات عن الرسائل التي يبعث بها حفتر للقاهرة من خلال تلك الإجراءات المشددة، فيما التزمت وزارة الخارجية المصرية الصمت، فهل انتهى شهر العسل بين الجنرال المتقاعد والنظام المصري؟
فيديو يكشف الأعداد الكبيرة للمهاجرين غير القانونيين الذين تم ضبطهم في #امساعد pic.twitter.com/6Ks0MXiNCa— تلفزيون المسار (@almasartvlibya) June 1, 2023
مكافحة التهريب.. الرواية الليبية
تشير السلطات الليبية إلى أن عملية الترحيل قانونية ولا رسائل من ورائها، حيث داهمت قوات الأمن مقار مهربي البشر منذ الأول من يونيو/حزيران العام الماضي، في محاولة لضبط الأمن والحد من تدفقات الهجرة غير النظامية، حيث احتجزت أطنانًا من البضائع المهربة والممنوعات، كما أوقفت آلاف المهاجرين غير النظاميين، غالبيتهم من المصريين.
ويأتي هذا التحرك بناءً على الاتفاقيات المبرمة بين سلطات المنطقة الشرقية بقيادة حفتر والجانب الأوروبي، الإيطالي على وجه التحديد، لوقف ظاهرة الهجرة غير الشرعية، وتفكيك شبكات عصابات التهريب، في ظل ما تمثله تلك الهجرات من تهديد للأمن الأوروبي.
ووفق ما أعلنته السلطات الليبية فقد أعادت أكثر من 60 ألف مهاجر من ليبيا إلى بلدانهم في إفريقيا وآسيا منذ عام 2015 وحتى اليوم، وذلك من خلال برامج “المساعدة على العودة”، التي أطلقتها بشراكة مع الشركاء الأوروبيين، إلا أنه في الآونة الأخيرة تزايدت أعداد المهاجرين المصريين تحديدًا نحو الأراضي الليبية لعبور البحر المتوسط نحو الجانب الأوروبي، ويذكر أن المصريين يحتلون المرتبة الثانية في قائمة أعلى الجنسيات المهاجرة وذلك بعد مهاجري النيجر.
ودخل على خط الدفاع عن هذا التوجه الذي قوبل بانتقادات كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي، بعض المؤسسات الحقوقية الليبية منها مؤسسة “بلادي لحقوق الإنسان” التي قالت إن ما يحدث ليس فيه طرد تعسفي كما يقول البعض، مضيفة على حسابها على تويتر قائلة: “مصر تفرض على الليبيين التسجيل ودفع مبالغ دخول وخروج منها وأنه من حق الدولة الليبية المحافظة على حدودها والتركيبة الديمغرافية”.
وفي السياق ذاته أكد أستاذ العلاقات الدولية الليبي، مسعود السلامي، أن “الوجود غير القانوني للمهاجرين غير النظاميين يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي في ليبيا”، موضحًا في تصريحات لموقع “الحرة” أن “قوات الأمن بالمنطقة الشرقية تنفذ عمليات ترحيل عدد من المهاجرين المقيمين بعد أن قامت بحملات أمنية لحماية المنطقة التي تعرف تسللًا للأفراد ولأنشطة الاتجار في البشر والمخدرات”.
وبرر الخبير الليبي موقفه بأن حدود بلاده الشاسعة على الجانب الشرقي تعاني من تدفقات كبيرة من المهاجرين غير النظاميين، حيث إنها منطقة زاخرة بعمليات تهريب البشر من السودان ومصر إلى السواحل الأوروبية، مطالبًا باتخاذ كل الإجراءات المشددة للحد من هذا الانفلات الذي تسبب في “ضياع للثروات الليبية وتهديد يطال المجتمع الليبي من مختلف الجوانب الاجتماعية والصحية والاقتصادية، بسبب الهجرة غير القانونية”، وهو “ما دفع الحكومتين الغربية والشرقية لإطلاق حملات تأمينية” على حد قوله.
وتقول السلطات الإيطالية إنها خلال عام 2022 استقبلت قرابة 20 ألف مصري من إجمالي 100 ألف مهاجر قدموا إلى سواحلها عبر الأراضي الليبية، لافتة أن معدل الهجرة زاد خلال الأعوام الثلاث الأخيرة بعدما شهد تراجعًا ملحوظًا خلال الفترة بين 2016 – 2020 في أعقاب العقوبات المشددة التي تبنتها القاهرة لمواجهة ظاهرة الهجرة غير الشرعية.
وشهدت الأسابيع الأخيرة عدة لقاءات بين مسؤولين ليبيين بارزين ونظرائهم الإيطاليين لمناقشة هذا الأمر، حيث ضغطت روما على سلطات حفتر من أجل منع المهاجرين من الوصول إلى سواحلها، حسبما أشار الخبير في قضايا الهجرة، مجدي الكرباع، لافتًا إلى أن مكافحة الهجرة غير الشرعية خاصة من تونس وليبيا أحد الملفات الحيوية التي ركزت عليها رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، خلال حملتها الانتخابية الأخيرة.
فيديو > مشاهد من الحملة الأمنية بين القوات المسلحة و الداخلية في #امساعد و ضواحيها و ما اسفرت عنه من مداهمات لمخابئ تجار الهجرة وترحيل آلاف المهاجرين غير الشرعيين إلى #مصر وإتلاف أطنان من الممنوعات صودرت بهذه المخابئ . #ليبيا #المرصد pic.twitter.com/f6WzBSVGek— صحيفة المرصد الليبية (@ObservatoryLY) June 1, 2023
القاهرة وحفتر.. الأزمة تخرج للعلن
في الجهة المقابلة ثمّة من يرى أن أزمة المهاجرين المصريين المرحلين لا يمكن قراءتها بمعزل عن الأجواء المتوترة بين القاهرة وحفتر، في إشارة إلى توظيف الجنرال الليبي لهذا الملف كورقة ضغط في مواجهة السلطات المصرية التي بدأت مؤخرًا تسير عكس عقارب الساعة الحفترية وذلك من خلال التقارب مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة على حساب رجل مصر السابق في ليبيا.
وشهدت العلاقات بين القاهرة والدبيبة خلال الآونة الأخيرة تحولات كبيرة نحو التقارب والتنسيق وتبادل الزيارات والتفاهم بشأن تطورات المشهد الليبي، مقارنة بما كان عليه الموقف الرسمي المصري السابق، حيث الدعم الكامل لحفتر ثم الانتقال إلى دعم والاعتراف بالحكومة المكلفة من مجلس النواب في فبراير/شباط 2022، برئاسة فتحي باشاغا.
ورغم التنسيق الأخير بين حفتر والدبيبة في إطار حزمة التفاهمات التي تشهدها الساحة الليبية، فإن التقارب بين الأخير والقاهرة أثار حفيظة الجنرال الطامع في السلطة والباحث عن موطئ قدم له في مستقبل ليبيا وهو الذي كان على بعد خطوات قليلة من تحقيق هذا الحلم لولا تخلي القوى الداعمة له عنه في الآونة الأخيرة.
كما أن التقارب المصري التركي الذي خطى خطوات واسعة خلال الأشهر القليلة الماضية، ووصل إلى مستويات من التنسيق والتناغم لم يشهدها منذ 2013، كان مثار قلق حفتر الذي يعتبر أنقرة أحد أكبر خصومه في المنطقة، وعدوه اللدود الذي حال دون تحقيق حلم الهيمنة على المشهد الليبي.
وفي السياق ذاته فإن التنسيق الكبير بين حفتر وقوات الدعم السريع السودانية، حيث الدعم العسكري واللوجستي المقدم من الجنرال الليبي لصديقه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، يعزز بطبيعة الحال من الفجوة بين الجنرال والقاهرة الداعمة للجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، التي ترى في الدعم المقدم لقوات حميدتي تهديدًا رئيسيًا ومباشرًا لأمنها القومي.
كذلك فإن العزلة التي بات يعاني منها الجنرال المتقاعد جراء تراجع دعم حلفائه السابقين وعلى رأسهم القاهرة، دفعته لتعزيز علاقاته بالدول الأوروبية وعلى رأسها إيطاليا، أملًا في تدشين تحالف جديد يوفر له غطاءً سياسيًا يؤهله لأن يكون أحد الأوراق المحتملة في المرحلة المقبلة، حتى لو كان ذلك على حساب العلاقات مع الجانب المصري.
ووفق التقديرات الرسمية الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة (IOM) لعام 2022، فإن هناك قرابة 15 ألف مهاجر مصري غير نظامي في ليبيا (21% من إجمالي المهاجرين غير النظاميين)، بجانب 1.6 مليون عامل رسمي يعملون في الأراضي الليبية وفق الخارجية المصرية، وإن تراجع هذا العدد عما كان عليه بسبب الصراعات المسلحة داخل ليبيا خلال السنوات الأخيرة.
ويعاني المصريون المهاجرون في ليبيا من أوضاع إنسانية غاية في السوء، فبحسب تقرير مفوضية الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان بعنوان “لا مفر من العودة” فإن المصريين يتعرضون لانتهاكات جسيمة (تعذيب وسوء المعاملة والعنف الجنسي والاختفاء القسري والابتزاز) داخل معسكرات الاعتقال الليبية التي يقبعون فيها عقب القبض عليهم من السلطات الليبية.
التقرير ألمح إلى أنه بمجرد وصول المهاجرين المصريين إلى الأراضي الليبية يواجهون سلسلة مطولة من الانتهاكات بشكل روتيني وممنهج، بعضها يصل إلى جرائم ضد الإنسانية، لافتًا إلى أن الجهات المنفذة لتلك الانتهاكات تتنوع بين جهات حكومية وغير حكومية، وسط صمت رسمي من السلطات الحاكمة هناك.
وتوصل التقرير إلى أنه في حين أن مساعدة المهاجرين على العودة إلى بلدانهم الأصلية هي طوعية من حيث المبدأ، فإن المهاجرين في ليبيا غالبًا ما يُجبرون على القبول بالمساعدة على العودة في ظل ظروف قد لا تفي بالقوانين والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، ونتيجة ذلك “لا يجد العديد من المهاجرين خيارًا أمامهم إلا العودة إلى نفس الظروف التي دفعتهم إلى مغادرة بلدانهم في المقام الأول” وفق ما توصلت إليه المفوضية استنادًا إلى شهادات المهجرين.
وفي الأخير.. فإن توقيت الحملة الأمنية التي تشنها سلطات المنطقة الشرقية، وتفاصيلها القاسية، واستهداف المصريين تحديدًا، والطريقة التي يتم الترحيل بها، لا يمكن بأي حال قراءتها في إطارها الأمني الضيق فحسب، بل هي رسائل سياسية مبطنة، لا شك أنها وصلت القاهرة التي التزمت الصمت حتى كتابة تلك السطور.. فهل تبادر بالرد؟