قالوا: “إن الأموات لا يبلون في تربتها ولا تتغير فيها رائحة اللحم ولو ظلت في قدرها شهرًا كاملًا”، وقيل كذلك إن “هواءها من أنقى ما عرفته البشرية”، وعُرفت بـ “مدينة اليهودية”، وفي حقها قال الحجاج بن يوسف الثقفي لأحد ولاته: “قد وليتك بلدة حجرها الكحل وذبابها النحل وحشيشها الزغفران”، بينما وصفها الرحالة الإيراني الأشهر ناصر خسرو بأنه لم يجد في أرض فارس مدينة أكثر جمالًا وعمرانًا منها.
تقع أصفهان وسط هضبة إيران، 700 كيلومتر جنوب العاصمة طهران، واحدة من أكبر مدن الدولة الإسلامية، تناوبت على حكمها حضارات الأخمينية والهيلينية والفارسية، وشكّلت فيما بينها مجتمعة واحدة من أكثر مدن آسيا والعالم ثراءً في العالم، فخرج منها عظماء الدين والأدب والفنون ما لم يخرج من مدينة أخرى في عصرها، كما أنها مسقط رأس الصحابي الجليل سلمان الفارسي.
تضرب بجذورها التاريخية إلى أكثر من 2500 عام، حيث شُيّدت بداية الأمر عام 500 قبل الميلاد، ثم غزاها الإسكندر الأكبر المقدوني عام 334 قبل الميلاد، وجعل منها عاصمة ذات شأن كبير، حتى فتحها المسلمون منتصف القرن السابع الميلادي وجعلوها تحفة ثقافية وعلمية يشار إليها بالبنان حتى اليوم.. فماذا نعرف عن تلك المدينة الساحرة ذات الأساطير الخالدة؟
تاريخ حافل
حين احتلَّ نبوخذ نصر أو بختنصر أو بخترشاه (أحد أقوى الملوك الكلدان الذين حكموا بابل وبلاد الرافدين) مدينة القدس عام 597 قبل الميلاد، وسبى أهلها، حمل معه بعض اليهود وتوجّه بهم إلى مدينة تُسمّى “جي”، لم تكن معروفة في ذلك الوقت، وأقام فيها اليهود السبايا، ومنذ ذلك الوقت عُرفت تلك المدينة التي تحولت فيما بعد إلى أصفهان باسم “اليهودية”.
وفي عام 334 قبل الميلاد غزاها الإسكندر المقدوني وحاول محاكاة البلاط الفارسي في تدشين أصفهان عمارة وثقافة ومجتمعًا، فخلق مزجًا بين الهيلينية والفارسية، حتى وقعت في نهاية المطاف في قبضة ملوك الساسانيين، وكان آخرهم كسرى يزدجرد الثالث (631-651م).
اتخذها عباس الصفوي الأول عاصمة له بدلًا من قزوين بسبب بُعدها عن الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم سيكون بمنأى عن هجماتها وغزواتها
وفي العام 19 أو 20 للهجرة، 640 أو 641 ميلادية، فتح العرب المسلمون بقيادة عبد الله بن عبد الله بن عتبان أصفهان، وذلك عقب فتحهم لنهاوند، بعد هزيمتهم لكسرى آخر ملوك الساسانيين، لتصبح على أيدي المسلمين واحدة من أعظم المدن التجارية والصناعية في بلاد فارس، حيث تميزت بصناعة المواد الغذائية ومواد البناء والأقمشة والمنسوجات الصوفية.
وفي عهد الدولة الصفوية (1501-1744م) اتخذها عباس الصفوي الأول عاصمة له بدلًا من قزوين، وقد أرجع الباحثون اختياره لأصفهان بسبب بُعدها عن الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم سيكون بمنأى عن هجماتها وغزواتها، بخلاف أنها في حضن الجبل ويصعب اختراقها بسهولة مقارنة بقزوين القريبة، وهكذا ظلت أصفهان أحد خطوط المواجهة الثقافية والعقدية بين الصفويين والدولة العثمانية حتى وقت قريب.
كنز تراثي
يذهب العديد من الباحثين إلى وصف أصفهان بأنها خزنة ومستودع الوجدان الإيراني الحافل بمستويات المعاني، فرغم أنها ليست المدينة الأكبر مساحة، ولا الأكثر عددًا، ولا الأقوى اقتصاديًّا أو سياسيًّا، لكنها ذات طابع خاص وضعها في منزلة استثنائية لدى الإيرانيين، وهو ما أهّلها لأن تكون ذات قيمة تاريخية وثقافية وأثرية عالية في العقل المجتمعي الإيراني.
مئذنة سرابان في أصفهان
تزخر أصفهان بمئات المواقع التراثية الأثرية، بعضها يعود لمئات السنين، كما تتميز بالمساجد ذات الطابع المعماري الفريد، وبها مآذن تعود لأكثر من 500 عام مثل مئذنة سرابان التى يعود تاريخ بنائها البديع بنقوشها وفسيفسائها وأصباغها إلى القرن الـ 14 ميلادي، كذلك مسجد الشيخ لطف الله الذي يعدّ أحد أشهر مساجد المدينة، حيث يكسو قبّته اللون العاجي ذو البريق الأخّاذ رغم بنائه منذ أكثر من 350 عامًا.
جسر شهرستان في أصفهان
يصف البعض أصفهان بأنها مدينة الجسور، حيث تزخر بالعديد منها على نهر زاينده رود، وتمتاز بعبقرية التصميم وروعة المنظر، ومن أشهر جسورها جسر شهرستان الذي شهد اغتيال الخليفة العباسي الرشيد بالله عام 1138 ميلادي، وجسر سي وسه بل (جسر الثلاثة وثلاثين قوسًا)، وجسر بل خواجو الذي يتَّخذ اسمه من ضاحية خواجو (الكاتب) على الضفة الشمالية من النهر، حيث يربطها بالضفة الجنوبية.
العَلم الأشهر
كانت أصفهان ولّادة للكثير من أهل الأدب والعلم، ممن نشروا التنوير والثقافة في شتى أنحاء العالم، بل إن بعضهم لا يزال حاضرًا بأعماله ومؤلفاته حتى اليوم، كما هو علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم المرواني الأموي، المعروف باسم أبو الفرج الأصفهاني (897-967م)، ذاك الأديب العربي الأشهر، وصاحب الكتاب الأكثر شهرةً “الأغاني”.
ولد ابن الحسين في أصفهان وتوفي في بغداد، وهو من أصول عربية قريشية، ويعدّ من أوائل وفطاحل من كتبوا عن الموسيقى العربية، وصاحب التوثيق الأكثر مصداقية لهذا الفن من القرن السابع إلى التاسع الميلادي، ومن الباحثين والمؤرخين من وصفوه بأنه “أحد الآباء المؤسسين لعلم موسيقى الشعوب الحديث”.
رسمة توضيحية لأبو الفرج الأصفهاني
وللأصفهاني حضور قوي في مجالات العلم المختلفة، إذ يعدّ من الأعلام في معرفة التاريخ والأنساب والسير والآثار واللغة والمغازي، بجانب معارفه المتعمقة في علم الجوارح والبيطرة والفلك والأشربة، ويعدّ كتابه “الأغاني” المكون من 21 جزءًا، جمعه في 50 سنة، أحد أشهر ما كُتب في الموسيقى والأغاني قبل الإسلام وبعده.
وبجانب كتاب “الأغاني” له عشرات المؤلفات، منها: “مقاتل الطالبيين” و”نسب بني عبد شمس” و”القيان” و”الإماء الشواعر” و”أيام العرب” و”التعديل والإنصاف في مآثر العرب ومثالبها” و”جمهرة النسب” و”الديارات” و”مجرد الأغاني” و”الحانات” و”الخمارون والخمارات” و”آداب الغرباء”.
قال عنه شمس الدين الذهبي: “صاحب “الأغاني” العلّامة الأخباري أبو الفرج، كان بحرًا في نقل الآداب، وكان بصيرًا بالأنساب وأيام العرب، جيد الشعر. والعجب أنه أموي شيعي، وكان وسخًا زريًا، وكانوا يتّقون هجاءه”، ووصفه ابن الجوزي البغدادي: “ومثله لا يوثق بروايته، يصح في كتبه بما يوجب عليه الفسق، ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمّل كتاب “الأغاني” رأى كل قبيح ومنكر”.
كتاب الأغاني الذي أمضى الأصفهاني 50 سنة وهو يكتبه
أما التنوخي فتحدث عنه قائلًا: “كان أبو الفرج يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب ما لم أرَ قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخرى منها اللغة والنحو والخرافات والسير والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئًا كثيرًا، مثل علم الجوارح والبيطرة ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وله شعر يجمع إتقان العلماء وإحسان الظرفاء الشعراء”.
كانت أصفهان كما بخارى وسمرقند وخوارزم وشيراز، علامات مضيئة في تاريخ خراسان، ما جعلها واحدة من قلاع العلم والأدب والثقافة على مرّ التاريخ.
أما ابن خلدون فوصف كتابه “الأغاني” بقوله: “وقد ألّف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم، وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه، ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له به”.
ومن أعلام أصفهان أيضًا الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصفهاني، المعروف بـ”الرَّاغب الأصفهاني”، وُلد في أصفهان في نوفمبر/ تشرين الثاني 954 وتوفى عام 1108، عاش معظم حياته في بغداد، ويعدّ من أقطاب علماء السنّة الذين قضوا حياتهم في مهاجمة الشيعة والمعتزلة، رغم ادّعاء البعض بأنه شيعي نظرًا إلى ولادته في أصفهان ذات الأغلبية الشيعية.
أبحر في علوم القرآن والسنّة واللغة، وأجاد في الحديث، وأبدع في الأخلاق والعلوم الفلسفية، وهو في المقام الأول أديب من الطراز الأول، وامتزجت معظم مؤلفاته -حتى الدينية منها- بدرر علوم المعاجم كالدعاء والنحو والاستذكار، كما تضمنت أعماله قيمًا أدبية وأخلاقية ودينية ولغوية وتاريخية.
أثرى المكتبة الإسلامية بأمّهات الكتب في العديد من المجالات، لكن ما وصل منها أقل بكثير ممّا كتبه، ومن أبرزها: “محاضرات الأدباء”، “الذريعة إلى مكارم الشريعة”، “الأخلاق” ويسمّى “أخلاق الراغب”، “جامع التفاسير” أخذَ عنه البيضاوي في تفسيره، “المفردات في غريب القرآن”، “حل متشابهات القرآن”، “تفصيل النشأتين”، “تحقيق البيان”، “الاعتقاد”، “أفانين البلاغة”، ورسالة في “آداب مخلطة الناس”.
وهكذا كانت أصفهان كما بخارى وسمرقند وخوارزم وشيراز، ومعها الدينور وهمذان وقزوين وجرجان ونيسابور وطوس وهراة ومرو وبلخ والشاش وفرياب، علامات مضيئة في تاريخ خراسان، ما جعلها واحدة من قلاع العلم والأدب والثقافة على مرّ التاريخ، وإحدى الصفحات المشرّفة في تاريخ العرب والمسلمين، ومداد ممتدّ لإنعاش الحضارة الإنسانية قديمًا وحديثًا.