بدأت تلوح في الأفق بوادر أزمة دبلوماسية جديدة بين الاتحاد الأوروبي وإيران، على خلفية العقوبات الأوروبية المفروضة على برنامجها للصواريخ البالستية، المقرر انتهائها في 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حيث تتشاور الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لتمديد العقوبات المفروضة على إيران بموجب لائحة الاتحاد رقم 267/2012، وقرار مجلس الاتحاد 2010/413/CFSP، وخطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA) الموقّعة بين إيران ودول 5+1 التي أقرها مجلس الأمن الدولي بقراره 2231/2015.
برنامج إيران للصواريخ البالستية
أثار برنامج الصواريخ البالستية الإيراني قلق المجتمع الدولي خاصة خلال السنوات الأخيرة، بسبب تداعياته المحتملة على الأمن والاستقرار الإقليميَّين، ففي الوقت الذي تصرّ فيه إيران على أن برنامجها الصاروخي هو دفاعي بطبيعته فقط، أثارت قدراتها المتطورة ودورها التخريبي في عدد من الدول المجاورة مخاوف عدد من الدول الإقليمية والعالمية، الأمر الذي دفع الدول الغربية إلى فرض عقوبات على طهران للحدّ من قدراتها المتنامية في صناعة وتطوير هذه الصواريخ.
تعود جذور برنامج الصواريخ البالستية الإيراني إلى الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث دفعت الهجمات العراقية بصواريخ سكود على الأراضي الإيرانية إلى قيام طهران بتطوير قدراتها الصاروخية بشكل مستقل، واستطاعت إحراز تقدم كبير من ناحية مدى وتعقيد أنظمة الصواريخ الخاصة بها، مثل سلسلة صواريخ شهاب، وسجيل، وصاروخ عماد طويل المدى، وصاروخ خرمشهر، وصاروخ خيبر الذي اختبرته إيران في 25 مايو/ أيار 2023.
تقول وزارة الدفاع الإيرانية إنه نسخة مطورة من صاروخ خرمشهر، ويصل مداه إلى 2000 كيلومتر، وقادر على حمل رأس حربي وزنه 1500 كيلوغرام، وتمتلك هذه الترسانة القدرة على ضرب أهداف في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بما في ذلك القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة.
خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPOA)
تمَّ توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة أيضًا بـ”الاتفاق النووي الإيراني” بفيينا في 14 يوليو/ تموز 2015، وجاء في ديباجة الخطة أنها ستضمن أن برنامج إيران النووي سيكون سلميًّا بشكل حصري.
تضمنت الخطة في حال التزام إيران بتنفيذ بنودها، الرفع الشامل لجميع عقوبات مجلس الأمن الدولي، بالإضافة إلى العقوبات المتعددة الأطراف والوطنية المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك خطوات الوصول في مجالات التجارة والتكنولوجيا والتمويل والطاقة.
وفيما يتعلق بالعقوبات المتصلة ببرنامج الصواريخ البالستية الإيراني، نصّت الخطة على أنه بعد انقضاء 8 سنوات من يوم اعتماد الخطة (يصادف 18 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، أو بناءً على تقرير يقدمه المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى مجلس محافظي الوكالة، ويقدمه بالتوازي إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويفيد فيه أن الوكالة قد توصّلت إلى الاستنتاج العام بأن جميع المواد النووية في إيران لا تزال تستخدَم في الأنشطة السلمية، أيهما أسبق.
عندئذ يتوجّب على الاتحاد الأوروبي اتخاذ الإجراءات المبيّنة في البند 20 من المرفق الخامس بالخطة، والمتضمنة إنهاء العمل بأحكام لائحة مجلس الاتحاد الأوروبي رقم 267/2012، وتعليق الأحكام المقابلة لها في قرار المجلس 2010/413/CFSP، ذات الصلة بالقيود الخاصة بالصواريخ البالستية الإيرانية، وكذلك شطب أسماء الأفراد والكيانات الإيرانية المدرجة على لائحة العقوبات المذكورة.
انسحاب ترامب ومحاولات إحياء الاتفاق النووي
بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 8 مايو/ أيار 2018، انسحاب بلاده رسميًّا من الاتفاق النووي الإيراني (خطة العمل المشتركة الشاملة) لعام 2015، وجّه الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، خطابًا من خلال كلمة متلفزة بثها التلفزيون الإيراني، قال فيها إن بلاده ستبقى ملتزمة بالاتفاق النووي الذي أبرمته مع الدول الكبرى، رغم إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب بلاده من الاتفاق، إلا أن الموقف الإيراني تغير بعد مرور عام على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق، وعدم قدرة الدول الأخرى الأطراف في الاتفاق، خاصة الدول الأوروبية، التأثير على واشنطن تجاه التراجع عن قرارها أو رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران.
بدأت إيران باللجوء إلى استراتيجية جديدة تتمثل بالضغط على الأطراف المتبقية في الاتفاق، من خلال تخفيض التزاماتها في خطة العمل المشتركة الشاملة، كما أرسل روحاني خطابًا إلى الدول الأوروبية أمهلها فيها 60 يومًا لتنفيذ تعهُّداتها الواردة في الاتفاق النووي مع إيران.
مرت خطة إيران لتخفيض التزاماتها بموجب خطة العمل المشتركة بـ 5 مراحل، وهي المرحلة الأولى التي شملت عدم الالتزام بكمية اليورانيوم المخصب بنسبة 3.67%، وتجاوز المخزون من اليورانيوم الـ 300 كيلوغرام.
هذا بالإضافة إلى عدم الالتزام بمخزون الماء الثقيل تحت سقف 130 طنًّا، ووقف بيع المخزون الفائض من الماء الثقيل، وتضمّنت المرحلة الثانية جملة من القرارات، أهمها رفع نسبة تخصيب اليورانيوم من 3.67% إلى درجات أعلى، وإعادة بناء بعض أجزاء المفاعلات النووية التي تجمّدت بموجب الاتفاق النووي.
أما المرحلة الثالثة فتضمّنت قيام إيران بتطوير أجهزة الطرد المركزي، وإنتاج ما تحتاجه لتخصيب اليورانيوم، وإزالة جميع القيود المفروضة على البحث والتطوير في المجال النووي. في حين شملت المرحلة الرابعة تشغيل أجهزة الطرد المركزي، وضخّ غاز اليورانيوم في 1044 جهاز طرد مركزيًّا في منشأة فوردو النووية.
أما المرحلة الأخيرة فقد أعلنت طهران أنها لم تعد ملزمة بأي قيود في المجال العملياتي، الذي يشمل مستوى التخصيب ونسبته وحجم المواد المخصبة والأبحاث والتنمية.
أثارت خطوات إيران بتخفيض تعهداتها النووية ردود فعل غاضبة من الدول الغربية، مع ذلك أظهرت الدول الأوروبية استعدادها للوساطة الدبلوماسية، حيث زارَ إيران عددٌ من الوسطاء الأوروبيين على رأسهم جوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، إلا أن جميع الجهود باءت بالفشل.
كما حاول قادة الاتحاد الأوروبي إنقاذ الاتفاق النووي مع إيران من الانهيار الشامل، من خلال عدد من الإجراءات والاجتماعات التي جمعت الأطراف، أو من خلال المبادرات الفردية مع طهران للتوصُّل إلى حلول مُرضية.
بعد وصول الرئيس جو بايدن إلى السلطة، بدأت مفاوضات في العاصمة النمساوية فيينا لإحياء الاتفاق النووي دون مشاركة الولايات المتحدة بشكل مباشر، فقد أجرى الطرفان 8 جولات من المفاوضات، وجولة في الدوحة، لكنها لم تفضِ إلى اتفاق لإحياء الصفقة النووية بسبب خلافات جوهرية مرتبطة برفع العقوبات، والضمانات التي طلبتها طهران، فضلًا عن خلافات عالقة بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
مبررات الاتحاد الأوروبي لاستمرار العقوبات على إيران
في 29 يونيو/ حزيران الماضي، قالت “رويترز“، نقلًا عن مصادر مطّلعة، إن دبلوماسيين أوروبيين أبلغوا إيران أنهم يعتزمون الإبقاء على عقوبات الاتحاد الأوروبي بشأن الصواريخ البالستية، المقرر أن تنتهي في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
وأشارت المصادر إلى 3 أسباب للإبقاء على العقوبات، وهي انتهاكات إيران لالتزاماتها الواردة في خطة العمل المشتركة الشاملة التي تمّ ذكرها أعلاه، والتدخل في الحرب الروسية على أوكرانيا وتزويد روسيا بطائرات مسيّرة إيرانية، إضافة إلى احتمال قيام إيران بنقل صواريخ بالستية إلى روسيا.
وقال دبلوماسي غربي لـ”رويترز”، طلب عدم الكشف عن هويته: “تمّ إخبار الإيرانيين بشكل واضح بخطط الإبقاء على العقوبات، والسؤال الآن هو ما هي الخطوات الانتقامية التي قد يتخذها الإيرانيون، إن وُجدت، وكيف يتوقعون ذلك؟”.
من جانبه، قال مسؤول إيراني لـ”رويترز”، طلب عدم الكشف عن هويته، إن “الإبقاء على العقوبات، بأي صفة وشكل، لن يعيق تقدم إيران المستمر”، مضيفًا أن ذلك “بمثابة تذكير بأنه لا يمكن الاعتماد على الغرب والثقة فيه”.
مأزق أوروبي
ترى الدول الأوروبية، التي حافظت خلال السنوات الماضية على خطاب يدعو إلى ضرورة إحياء الاتفاق النووي مع إيران وعدم انهياره بشكل كامل، أنها في مأزق حقيقي في حال قررت الإبقاء على العقوبات المفروضة على إيران، حيث يشكّل ذلك مثالًا على عدم التزام الدول الأوروبية، خاصة فرنسا وبريطانيا وألمانيا (The E3)، ببنود خطة العمل المشتركة التي وقّعتها عام 2015.
قد يؤدي ذلك إلى زيادة التوترات بين إيران والاتحاد الأوروبي، والتأثير على التعاون الدبلوماسي والاقتصادي بين الطرفَين، وقد يحدّ أيضًا من قدرة الشركات الأوروبية على الانخراط في التجارة مع إيران.
في مقابل ذلك، يتوقع أن تقوم إيران بخطوات انتقامية، مثل زيادة مستويات تخصيب اليورانيوم لديها إلى 90%، وهي النسبة المطلوبة لتصنيع قنبلة نووية، أو الحد من وصول الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى عمليات التفتيش، والاستمرار في تطوير برنامجها للصواريخ البالستية، وزيادة الدعم العسكري الذي تقدمه طهران لموسكو في حربها ضد أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، قد تسعى إيران إلى توثيق العلاقات مع دول أو مناطق أخرى أكثر استعدادًا للانخراط في شراكات اقتصادية.
من ناحية أخرى، في حال قررت الدول الأوروبية رفع العقوبات دون موافقة الولايات المتحدة، من المتوقع أن يكون لهذا القرار تداعيات كبيرة، وقد تنجم عن ذلك خلافات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، ما قد يؤثر على قدرة الدول الأوروبية في الاعتماد على الدعم الأمريكي في القضايا الدولية الأخرى، مثل الصراع الروسي الأوكراني، ما سيجعل الوضع أكثر تعقيدًا.