وصل رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في 12 يونيو/حزيران الحاليّ إلى العاصمة المصرية القاهرة على رأس وفد حكومي ضم 12 وزيرًا من مختلف القطاعات، وهي الزيارة الثانية له خلال هذا العام، فقد سبقها بزيارة في مارس/آذار الماضي، التقى خلالها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس حكومته مصطفى مدبولي.
تأتي زيارة السوداني بعد شهر تقريبًا من زيارة السلطان العماني هيثم بن طارق للقاهرة في 12 مايو/أيار 2023 التي كانت الأولى له منذ توليه السلطة في 2020، واستمرت لمدة يومين، ناقش خلالها مع الرئيس المصري حزمة من الملفات الخاصة بتعزيز العلاقات الثنائية، كذلك بحث بعض القضايا والمسائل الخاصة بأزمات الإقليم والأوضاع في عدد من دول المنطقة.
الرابط المشترك بين الزيارتين وفق العديد من الخبراء يتعلق ببحث ملف تطبيع العلاقات المصرية الإيرانية التي شهدت تقاربًا خلال الآونة الأخيرة بفضل الجهود الدبلوماسية التي تبذلها كل من بغداد ومسقط على وجه التحديد، وسط حزمة من التحديات والتقاربات التي تدفع البلدين نحو استئناف العلاقات الدبلوماسية وتخفيف حدة الجفاف الذي شهدته طيلة العقود الثلاث الأخيرة.
ثمة إرهاصات تقارب ومؤشرات تطبيع محتمل بين البلدين تخيم على الأجواء، في ظل حالة السيولة السياسية والاقتصادية والأمنية التي تشهدها الخريطة الإقليمية والدولية، وتفرض تحديات جسام تدفع الجميع نحو إعادة تموضع مرحلي، وإجراء تغيرات جذرية في التوجهات والمواقف السابقة، فما هي محددات هذا التطبيع ومقاربات كل من القاهرة وطهران في هذا المسار والتحديات التي قد تعرقل السير نحو كسر حالة الجمود التي تهيمن على العلاقات طيلة السنوات الماضية؟
الرئيس #عبدالفتاح_السيسي، يستقبل بقصر الاتحادية، رئيس وزراء العراق محمد شياع السودانيhttps://t.co/mEzDuTJLO1 pic.twitter.com/RTZgLJuIoF
— الأهرام AlAhram (@AlAhram) June 13, 2023
جمود لا قطيعة.. سياق مهم
بعيدًا عن السردية الإعلامية التقليدية في التعاطي مع ملف العلاقات المصرية الإيرانية على أنها علاقات تعاني من القطيعة، فإن الواقع يشير إلى غير ذلك، فالعلاقات بين البلدين منذ اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، تعاني من الجفاف وبعض الجمود وليست القطيعة كما يروج البعض.
البداية كانت من استقبال مصر – تحت حكم محمد أنور السادات – للشاه الأخير في إيران، محمد رضا بهلوي، حين رفضت معظم الدول إيواءه، كما أنها أقامت له جنازة عسكرية عقب وفاته في 27 يوليو/تموز 1980، وهو ما أغضب المرشد الإيراني آية الله الخميني حينها.
وفي تلك الأثناء كانت مصر قد أبرمت معاهدة السلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في مارس/آذار 1979، الخطوة التي بسببها أعلنت طهران قطع علاقاتها الدبلوماسية مع القاهرة، هذا بخلاف الدعم المصري الواضح للعراق في حربه مع الدولة الإيرانية ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي عمق من الأجواء المتوترة بين الدولتين.
ومنذ ذلك الحين دخلت العلاقات المصرية الإيرانية كهف الجمود والجفاء، حتى اندلعت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، حين وجه آية الله علي خامنئي خطابًا باللغة العربية أيد فيه مطالب الثوار، ثم شهدت انفراجة أخرى حين زار الرئيس المصري الراحل محمد مرسي طهران في أغسطس/آب 2012 لحضور الجلسة الافتتاحية لقمة منظمة دول عدم الانحياز.
وبلغت مؤشرات انفراجة العلاقات بين البلدين قمتها حين زار الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد القاهرة في فبراير/شباط 2013 وكانت أول زيارة يقوم بها رئيس إيراني للبلاد منذ نحو 34 عامًا، وسط تفاؤل من المقربين من صنع القرار في البلدين بشأن تقارب العلاقات وفتح صفحة جديدة بينهما.
وبعد الإطاحة بمرسي عادت الأمور إلى سياقها الجامد مرة أخرى، حيث تبنت القاهرة مقاربة جديدة مع طهران ترتكز على ثنائية اللاخصومة واللاتحالف، وذلك وفق عدة اعتبارات وضعتها السلطات المصرية في الحسبان تراعي حلفاءها الخليجيين وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية التي كانت تشهد علاقتها مع طهران في ذلك الوقت أسوأ محطاتها التاريخية خصومة وعداء.
وظلت الأمور في هذا السياق الجاف طيلة السنوات الثمانية الماضية، مكتفية ببعض الأنباء التي تتناثر هنا وهناك عن اتصالات سرية غير مباشرة بين البلدين، لكن في تلك الفترة شهدت علاقات طهران بدول الجوار المصري العربي تطورات غير متوقعة، ومن هنا بدأ الحديث بشكل علني عن تنسيق وتواصل بين البلدين، تطور الأمر إلى احتمالية تطبيع العلاقات وطي صفحة الخلافات طويلة الأمد.
مؤشرات التقارب
خلال تصريحات له الشهر الماضي كشف سفير إيران لدى بغداد محمد كاظم الصادق أن هناك جهودًا دبلوماسية تبذلها العراق وسلطنة عمان للتقارب بين القاهرة وطهران، متحدثًا عن قنوات اتصال عدة تم فتحها لتطبيع العلاقات، وأن الأمور تسير في سياقها الإيجابي في ظل رغبة البلدين في التقارب.
ومنذ بدايات 2021 دخلت العلاقات المصرية الإيرانية منعطفًا جديدًا من التهدئة، وذلك حين زار وفد استخباراتي إيراني القاهرة في صيف هذا العام، والتقى نظراءه في جهاز المخابرات العامة المصرية، فيما شهد الخطاب السياسي والإعلامي هنا وهناك الكثير من التبريد وتراجع حدة التصريحات المعادية التي كانت سمة بارزة في الإعلام الرسمي المصري والخاص، حيث كانت القاهرة منصة العشرات من القنوات التي تستهدف إيران وتوثق جرائمها وانتهاكاتها في العديد من الملفات.
وخلال هذا الاجتماع تم الاتفاق على بعض المحاور التي يمكن أن تكون نواة لإستراتيجية جديدة في العلاقات بين البلدين تقوم على أسس الاحترام والتنسيق وتجنب الخطابات التصعيدية، هذا بخلاف وضع كل الملفات الحساسة ذات وجهات النظر المتباينة على طاولة النقاش من أجل الوصول إلى أرضية مشتركة من التفاهمات.
ثم جاءت مشاركة الرئيس المصري في قمة بغداد يونيو/حزيران 2022 التي شهدت عقد اجتماع أمني بين مسؤولين مصريين وإيرانيين على هامش الزيارة، تبعها لقاء آخر جمع بين مدير المخابرات المصرية عباس كامل ووزير الخارجية المصري سامح شكري مع نائب الرئيس الإيراني على سلاجقة في نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام على هامش المشاركة في قمة المناخ “COP27” التي عقدت بشرم الشيخ.
وفي ديسمبر/كانون الأول من 2022 وخلال اجتماعه مع رئيس الوزراء العراقي على هامش مؤتمر “بغداد 2” في العاصمة الأردنية، رحب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بمقترح لبدء حوار مع مصر بوساطة عراقية عُمانية لتحسين العلاقات معها.
وتتويجًا لتلك الجهود الدبلوماسية المبذولة من الطرفين لتقريب وجهات النظر، ثمة من يقول إن لقاءً محتملًا قد يجمع بين السيسي ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي في القريب العاجل، لبحث سبل ترجمة مؤشرات هذا التقارب إلى إجراءات عملية واسئتناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في ضوء المستجدات الأخيرة على الساحة.
المتحدث باسم الخارجية الإيرانية يقول إن استئناف العلاقات مع القاهرة أمر مرحب به «إذا رغبت الحكومة المصرية»#صحيفة_الشرق_الأوسط#صحيفة_العرب_الأولىhttps://t.co/UKHpMoiTa4
— صحيفة الشرق الأوسط (@aawsat_News) June 13, 2023
التقارب الإيراني السعودي.. كلمة السر
منذ إبرام السعودية اتفاق عودة العلاقات الدبلوماسية مع إيران في 10 مارس/آذار الماضي، وطي صفحة الخلافات الممتدة لعشرات السنين، وما تبع ذلك من تقارب خليجي إيراني على أكثر من مسار، شعرت القاهرة بأن الطريق نحو التطبيع مع طهران بات ممهدًا، فقد رفعت تلك الخطوة الحرج عن الجانب المصري في الإسراع من وتيرة الخطى باتجاه هذا الملف الذي كان يتحسس فيه المصريون مشاعر ومواقف حلفائهم الخليجيين.
وأيقن الجانب المصري أن الإبقاء على العلاقات مع إيران في خندقها الجاف المتوتر لم يعد له مبرر، إذ كان الدافع الأبرز من وراء هذا الموقف إرضاء الحليف السعودي في المقام الأول، والتخندق معه داخل شبكة حساباته السياسية الإقليمية، وفق اعتبارات السلطات المصرية وتحدياتها الراهنة، الذي كان الدعم السعودي أحد أبرز أركانها ومحدداتها.
كما أن إقدام الرياض على تلك الخطوة بشكل منفرد دون استشارة حلفائها في المنطقة، كغيرها من المواقف الأخرى خلال السنوات الأخيرة، كان أحد المسائل التي أثارت حفيظة القاهرة، وإن لم يتم التعبير عن هذا رسميًا لاعتبارات عدة، حيث استشعر المصريون تغريدًا سعوديًا منفردًا يهدف إلى تعزيز حضور المملكة وتوسعة رقعة نفوذها إقليميًا ودوليًا دون أي اعتبارات للدول الحليفة والصديقة.
ومن هنا وبنفس الفكر البرغماتي الذي سيطر على السعودية والإمارات وقطر في تحركاتهم الأخيرة، جاءت السياسة الخارجية المصرية هي الأخرى لتواجه تلك التطورات، حيث أعادت النظر في علاقاتها مع الدول التي تعاني علاقاتها معها من توترات، منتهجة سياسة تصفير الأزمات هي الأخرى كغيرها من عواصم المنطقة، فبدأت مرحلة جديدة من التقارب مع الدوحة وأنقرة، وها هي اليوم تطرق أبواب الانفتاح على طهران.
#إيران تفتح سفارتها في #السعودية اليوم.. رسمياً
• بعد 3 أشهر من توقيع الاتفاق السعودي الإيراني pic.twitter.com/c2OkwSgw6E
— هاشتاقات (@Q8Hashtagat) June 6, 2023
دوافع طهران والقاهرة
تتحرك كل من طهران والقاهرة مدفوعتين بحزمة من المحفزات والأسباب التي قادتهما معًا إلى التراجع خطوة للخلف وإعطاء التقارب بين البلدين فرصة رغم الخلافات الهائلة بينهما، فعلى المستوى الإيراني تحاول الدولة ذات الأطماع الإقليمية غير المحددة بسقف كسر العزلة المفروضة عليها منذ سنوات كإحدى أدوات العقوبات المفروضة عليها بسبب انتهاكاتها المستمرة.
وبالفعل نجحت طهران في تحقيق أهداف عدة في هذا الملف، البداية كانت مع السعودية ودول الخليج، ومن قبلها تعميق شراكاتها مع روسيا والصين وكوريا الشمالية، مرورًا بتوطيد العلاقات أكثر مع دول أمريكا اللاتينية التي يزورها الرئيس الإيراني حاليًّا، ولم يتبق لها إلا مصر وبعض دول المنطقة لتكسر إيران عزلتها بشكل شبه كامل.
كما أن الثقل الإقليمي لمصر – رغم تراجعه مؤخرًا – ولعب القاهرة دورًا محوريًا في كثير من الملفات المشتركة مع إيران دفع الأخيرة إلى تبريد الأجواء مع الدولة المصرية قدر الإمكان، ومحاولة الاستفادة من هذا الثقل، وتوظيف شبكة علاقات مصر الواسعة مع القوى العظمى، بما يخدم الأجندة الإيرانية في الشرق الأوسط.
على رأس التحديات التي تعرقل التطبيع، فقدان ثقة مصر في السياسة الإيرانية التي تهدد الأمن القومي المصري بطبيعة الحال، بحكم أطماع التوسع وطموحات النفوذ التي تجيش لأجلها طهران كل إمكاناتها دون أي اعتبارات أخرى
أما على المستوى المصري، فتسعى القاهرة بطبيعة الحال إلى الانتصار لمصالحها هي الأخرى بعيدًا عن أي أبعاد أيديولوجية، فهي تريد تأمين المجرى المائي الأهم لمصر، قناة السويس، أحد شرايين الاقتصاد الوطني المصري، كذلك ضمان عمليات العبور من مضيق باب المندب الخاضع لسيطرة جماعة أنصار الله اليمنية المدعومة من النظام الإيراني.
الموارد الاقتصادية التي تمتلكها إيران، نفطًا وتعدينًا، كانت هي الأخرى دافعًا للقاهرة الباحثة عن طرق أبواب الجميع في هذا الوقت هربًا من المأزق الاقتصادي الذي تواجهه، خاصة مع تراجع الحضور الخليجي اقتصاديًا جراء توتير الأجواء نسبيًا، هذا بخلاف السياحة الإيرانية التي قد تنعش السوق السياحي المصري وخزينة الدولة بالعملات الأجنبية.
كما أن رغبة مصر في تهدئة الأجواء في قطاع غزة ربما تكون سببًا رئيسيًا في التقارب مع طهران التي تتمتع بعلاقات قوية ووثيقة بفصائل المقاومة المسلحة في القطاع، لا سيما الحركتين الأكبر وذات التأثير الأقوى، “حماس” و”الجهاد”، ومن هنا فإن تخفيف التوتر مع إيران سيكون ورقة جيدة بأيدي القاهرة لتعظيم دورها في الملف الفلسطيني في مجمله، هذا بخلاف البعد الأمني في سيناء والشريط الحدودي مع غزة الذي كان مثار حفيظة الجانب المصري لسنوات طويلة.
التحديات والعراقيل
ثمة مكاسب يقصد كل طرف تحقيقها حال تطبيع العلاقات، هي ذاتها الدوافع والمحفزات التي قادتهما لفتح قنوات اتصال بينهما (كسر العزلة وتعزيز العلاقات الاقتصادية وتأمين الممرات المائية وتوسيع رقعة النفوذ) وسط تلك الأمواج الهادرة من التحديات التي فرضتها المستجدات الأخيرة، التي أجبرت الطرفين على أن يكونا برغماتيين من الطراز الأول، بعيدًا عن أي شعارات أو مرتكزات عقدية أو أخلاقية أو سياسية.
غير أن تلك المكاسب المتوقع جنيها من وراء التقارب بين البلدين مهددة بقائمة من التحديات التي قد تعرقل مسار التطبيع بينهما وتبقيه في سياقه الجاف المعتاد طيلة السنوات الماضية، حيث لا تعدو كونها تصريحات واتصالات تجفف منابع الخصومة لكن لا طحين من ورائها.
ويأتي على رأس تلك التحديات فقدان ثقة مصر في السياسة الإيرانية التي تهدد الأمن القومي المصري بطبيعة الحال، بحكم أطماع التوسع وطموحات النفوذ التي تجيش لأجلها طهران كل إمكاناتها دون أي اعتبارات أخرى، حيث تمثل طهران خنجرًا مسمومًا في ظهر الأمن القومي المصري في أكثر من مسار، بدءًا من اليمن وصولًا إلى قطاع غزة، مرورًا بسوريا والعراق ولبنان.
تتحرك مصر في مقارباتها مع إيران وفق نظرية المنفعة المشتركة والمصالح المتبادلة، لكن هذا لا ينكر حالة التحفظ والقلق التي تخيم على الجانب المصري في تعاطيه مع ملف التطبيع الكامل معها، يقينًا أن إعادة إيران النظر في سياستها الخارجية مؤخرًا نابع في المقام الأول من بعد برغماتي بحت وليس أيديولوجيًا وأن الحديث عن مرونة في السياسة الإيرانية حديث يفتقد للموضوعية والدقة، ومن هنا تأتي تخوفات القاهرة من تجاوز كل تلك المخاوف مرة واحدة والولوج في فخ التطبيع الكامل مع طهران التي ستحاول جاهدة تحقيق أقصى استفادة ممكنة من هذا التقارب لتعظيم نفوذها الإقليمي ولو على حساب الاعتبارات المصرية.
كما أن العلاقات الإستراتيجية التي تربط مصر بحلفائها الأمريكان والأوروبيين، فضلًا عن الحليف الإسرائيلي، قد تشكل عقبة رئيسية أمام التطبيع الكامل في العلاقات مع طهران، فالقاهرة لن تضحي بأي حال من الأحوال بعلاقتها بواشنطن والمعسكر الغربي من أجل عيون الإيرانيين مهما كانت المكاسب المحققة، وعليه ستحاول قدر الإمكان تحقيق التوازن من خلال مسك العصى من المنتصف.. لكن يبقى السؤال: هل تملك القاهرة في الوقت الحاليّ الأدوات الدبلوماسية الكافية لتحقيق هذا التوازن بما يحقق لها مصالحها من جانب، ويقلل مخاوفها ولا يغضب حلفاءها من جانب آخر؟