تتسم حالة حقوق الإنسان في تونس بالهشاشة، بعد نحو سنتين من انقلاب الرئيس قيس سعيد وهيمنته على كل السلطات في هذا البلد العربي، وقد وثقت العديد من المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية وقائع عديدة تكشف هذا التراجع.
تفككت المؤسسات المستقلة وفقد القضاء دوره الأساسي بعد أن وضع سعيد يده عليه وطوع جزءًا كبيرًا منه لخدمة أجندته السياسية، كما منح الضوء الأخضر عبر خطاباته التي تخون جزءًا مهمًا من الشعب، لبعض القوى لممارسة الانتهاكات.
من هذه الانتهاكات الخطيرة التي نددت بها المنظمات الحقوقية، نجد التعذيب الذي قالت بعض المنظمات إنه في تمدد، ما دفعها إلى التفكير في تقديم شكوى للجان والمؤسسات الدولية والإقليمية المهتمة بهذا المجال، لأجل الضغط على الدولة التونسية.
187 حالة تعذيب جديدة
سجلت المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، ارتفاعًا في حالات التعذيب وسوء المعاملة خلال المدة الأخيرة في تونس، خاصة بعد إعفاء عشرات القضاة، وفق تقرير صادر عنها أمس، قالت فيه إن الوضع في تونس “مقلق”.
تعامل برنامج “سند” التابع للمنظمة (تأسس عام 2013)، وفق التقرير، مع 187 حالة تعذيب في تونس منذ بداية العام الماضي من بينهم سجناء، وكان أغلب ضحايا التعذيب وسوء المعاملة من الرجال بنسبة 89% وخاصة من سن 18 إلى 35 سنة، ووصف نائب رئيس المنظمة، مختار الطريفي، الأرقام بأنها “مفزعة وفي تمدد”.
وتشمل أنواع التعذيب في تونس وفق المنظمة الحقوقية، الوفيات المشبوهة في مراكز الاحتجاز، التي تمثل 8% من الحالات المسجلة، ثم سوء المعاملة الإدارية وتمثل 49%، يليها التعذيب والمعاملة السيئة من الشرطة وتمثل 18%.
ويقصد بالتعذيب في تونس حسب الفصل 101 مكرر جديد الذي أضيف للمرسوم عدد 106 لسنة 2011 المؤرخ في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2011 “كل فعل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد جسديًا كان أو معنويًا يلحق عمدًا بشخص ما بقصد التحصيل منه أو من غيره على معلومات أو اعتراف بفعل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه هو أو غيره”.
دائمًا ما تنفي السلطات التونسية وجود أي حالات تعذيب في تونس، وتتهم المنظمات الحقوقية بتشويه واقع حقوق الإنسان في البلاد
يعد تعذيبًا تخويف أو إزعاج شخص أو غيره للحصول على ما ذكر، ويدخل في نطاق التعذيب الألم أو العذاب أو التخويف أو الإرغام الحاصل لأي سبب من الأسباب بدافع التمييز العنصري، ويعتبر معذبًا الموظف العمومي أو شبهه الذي يأمر أو يحرض أو يوافق أو يسكت عن التعذيب في أثناء مباشرته لوظيفته أو بمناسبة مباشرته لها.
وما فتئت المنظمات الحقوقية على غرار “العفو الدولية” و”هيومن رايتس واتش” ترصد وتوثق حالات التعذيب في صفوف التونسيين خاصة في صفوف المساجين، إذ تم تسجيل العديد من الوفيات في صفوف السجناء بسبب التعذيب.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي أكدت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب تسجيل حالات وفاة مسترابة عديدة في أثناء الملاحقات الأمنية، كما وثقت المنظمة حالات عنف مفرط وحالات موت بالرصاص الحي، على حد قولها.
حرب شوارع في حي هلال بالعاصمة ومواجهات عنيفة بين الأمن والمحتجين بعد وفاة الشاب ربيع الشيحاوي تحت التعذيب في السجن#يسقط_الانقلاب_في_تونس pic.twitter.com/27FabHm4mv
— 🌟🌟 ✌️✌️نــايـڵــة🌼🌺🌷🌺 (@aappchina) November 5, 2022
دائمًا ما تنفي السلطات التونسية وجود أي حالات تعذيب في تونس، وتتهم المنظمات الحقوقية بتشويه واقع حقوق الإنسان في البلاد، خدمة لأجندات سياسية معارضة للرئيس قيس سعيد الذي انقلب على مؤسسات الدولة ودستور البلاد صيف 2021.
من الحالات التي تم رصدها، وفاة الشاب التونسي ربيع الشيحاوي الذي ينحدر من حي هلال (من أفقر الأحياء الشعبية في العاصمة تونس)، – كان معتقلًا في السجن المدني بالمرناقية بمحافظة منوبة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي -، نتيجة التعذيب وسوء المعاملة، وقد تم معاينة وجود كدمات واضحة وآثار تعذيب على جثته.
ضغوطات سعيد
أبرز الأسباب التي تقف وراء تواصل ظاهرة التعذيب بهذه الأعداد في تونس، انقلاب قيس سعيد، فهذا الانقلاب منح القوات الأمنية في المراكز الأمنية والسجون وفي الشوارع أيضًا، الضوء الأخضر لممارسة مختلف صنوف التعذيب في حق التونسيين.
ترى المنظمة الحقوقية التونسية أن “القرارات الصادرة بعد 25 يوليو/تموز، وضرب استقلالية القضاء بحل المجلس الأعلى للقضاء وإعفاء القضاة، وعدم تنفيذ قرارات المحكمة الإدارية ببطلان الإعفاءات، يصب في خانة تغذية الإفلات من العقاب”.
وكان سعيد قد أصدر أمرًا بإقالة عشرات القضاة بدعوى الفساد، لكن المحكمة الإدارية نقضت قراره وأصدرت أحكامًا في أغسطس/آب الماضي 2022 بإعادة أغلب المعزولين إلى مناصبهم، ولم تنفذ أحكام المحكمة حتى اليوم.
عرفت تونس في الأشهر الأخيرة محاكمات سياسية لعدد من السياسيين من ذلك الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي
بحجة محاربة الفساد، ضاعف قيس سعيد تدخله في القضاء للتأثير، وأعلن نفسه من خلال نشر المرسوم رقم 11 في 12 فبراير/شباط 2022 “الرئيس الفعلي” للسلطة القضائية، ومهد ذلك لتزايد نسق المضايقات والتهديدات ضد القضاة في تونس.
ومن أجل قمع أي معارضة لنظام الحكم القائم على سلطة الفرد الواحد، استخدمت السلطة التنفيذية في تونس العدالة كوسيلة غير مسبوقة منذ 25 يوليو/تموز 2021، رغم الانتقادات والضغوطات الداخلية والخارجية لوقف هذه الممارسات.
وسبق أن حذرت المديرة القانونية للمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، إيلين ليجي، السلطات التونسية من “تنامي” ظاهرة سوء المعاملة المرتبطة على حد قولها بـ”التعذيب الأخلاقي” ضد معارضي الرئيس التونسي قيس سعيد منذ قراراته التي اتخذها صيف العام 2021.
وأكدت المسؤولة بالمنظمة أن هذه الظاهرة “امتدت منذ 25 يوليو/تموز 2021 لتشمل المعارضين السياسيين”، وبحسب “المنظمة الدولية لمناهضة التعذيب”، يتجلى هذا الوضع في شكل قيود تعسفية على الحرية، ومن خلال الإقامة الجبرية، وحظر السفر واستدعاءات إلى مركز الشرطة”.
وضع حقوق الإنسان في خطر
تقول هبة مرايف، مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا: “الرئيس سعيد قوض بإصداره المراسيم من دون إشراف أو مراجعة، العديد من الإنجازات الرئيسية التي حققتها البلاد في مجال حقوق الإنسان في السنوات العشرة التي أعقبت ثورة 2011 وأنهت حكم الرئيس السابق بن علي”.
خلال الفترة التي أعقبت سيطرة سعيد على كل مؤسسات الدولة، تنامت الانتهاكات بحق التونسيين، إذ فكك سعيد الضمانات الرئيسية لحقوق الإنسان ووضع حدًا لحرية التعبير من خلال استهداف الصحفيين ووسائل الإعلام وسن المرسوم 54.
كما أربك العمل الجمعياتي وضيق على المنظمات، وأقصى الأحزاب من الحياة السياسية وجمد أبرزها، ونعني بذلك حركة النهضة التي منعها من النشاط، واستهدف قادة المعارضة واعتقل عددًا كبيرًا منهم سواء كانوا سياسيين أم محامين أم قضاة أم إعلاميين.
على هامش انعقاد الدورة 53 لمجلس حقوق الإنسان في قصر الأمم في #جنيف نظمت جمعية ضحايا التعذيب في تونس (AVTT) خيمة حقوقية اعلامية تحسيسية حول وضع حقوق الانسان في #تونس وتضامنا مع #المعتقلين السياسيين في تونس في ساحة الامم المتحدة جنيف – سويسرا#Save_Tunisian_Democracy pic.twitter.com/bG97oGsGEG
— حزب حركة النهضة (@NahdhaTunisie) June 21, 2023
عرفت تونس في الأشهر الأخيرة محاكمات سياسية لعدد من السياسيين من ذلك الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي الذي يواجه 5 محاكمات، ورؤساء أحزاب مثل غازي الشواشي وعميد المحامين الأسبق عبد الرزاق الكيلاني، وعدة نواب.
ضمن عمليات التضييق على التونسيين، اعتمد سعيد إجراءات غير قانونية على غرار حظر السفر التعسفي والإقامة الجبرية التعسفية، وهي إجراءات كان أستاذ القانون الدستوري يندد بها ويدعو لوقف العمل بها قبل وصوله إلى قصر قرطاج.
نتيجة هذه الانتهاكات المتواصلة بحق التونسيين، تستعد العديد من المنظمات، للتوجه للمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان ولجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة ولجنة مناهضة التعذيب، لأجل الضغط على الدولة التونسية فيما يتعلق بحقوق الإنسان.
مع ذلك، من المستبعد أن يستجيب الرئيس قيس سعيد لهذه الضغوطات، فهو لا يعير لها أي اهتمام أصلًا ومستمر في برنامجه، ويرى في معارضيه “خونة وعملاء للخارج”، يعملون على استهداف الدولة والتآمر عليها.