منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان الفائت، اختفت مظاهر سلطة الدولة تمامًا خاصة في مناطق دارفور وكردفان، بما في ذلك الشرطة والقضاء والحكومات المحلية، تاركين السكان الضعفاء فريسة سهلة للأقوياء.
وفي الوقت الحاليّ، إذا اُرتكبت بحقك جريمة قتل أو نهب أو أي جريمة أخرى، لا تملك غير أن تعفي عن المجرم أو تتجه إلى السلطة الاجتماعية التي تُعرف بالإدارة الأهلية – قادة العشائر والقبائل – لإنصافك.
وعلى الرغم من أن الإدارة الأهلية لن تُغطي فراغ مؤسسات الدولة في قضاء كثير من حوائج السكان بسبب اهتمامها بمصالح العشائر الضيقة، فإنها أصبحت السلطة الوحيدة التي يتوجه إليها الضعفاء، لتبقى بمثابة آخر خيط يربط الجماهير بالسلطة، فهي تغطي فراغ مؤسسات الدولة الشرطية والعدلية والقضائية في مناطق السودان الطرفية الملتهبة، بعقد اتفاقيات مع الجيش والدعم السريع تتعلق بوقف الاشتباك المتبادل في ولاية محددة، أو عقد اتفاق مع قوات الدعم السريع لتوفير الحماية في منطقة ما.
سعي لإيقاف القتال وتوفير الحماية
بعد أيام من اندلاع الحرب، توسطت الإدارة الأهلية في ولاية شمال دارفور غرب السودان، بين الجيش والدعم السريع لإيقاف القتال في المدينة، على أن يخضع الجزء الغربي لسيطرة الجيش والجزء الشرقي لسيطرة الدعم السريع.
لكن هذا الاتفاق خُرق مرتين على الأقل، بسبب إصرار الجيش على عدم منح جنود الدعم السريع رواتبهم الشهرية بذريعة إنها قوات متمردة على الدولة، ومع ذلك ظل الاشتباك محدودًا وسرعان ما تم تداركه بواسطة الإدارة الأهلية.
جرى توقيع اتفاقيات مماثلة في ولايتي شرق دارفور وشمال كردفان
ذات الأمر حدث في ولاية جنوب دارفور، حيث أبرمت الإدارة الأهلية اتفاقًا بين الجيش والدعم السريع لوقف العدائيات في مدينة نيالا، بموجبه يظل الجيش في ثكناته والدعم السريع في مواقعه فيما يُترك تأمين السوق الرئيسي لقوات الشرطة، وقد حدثت اشتباكات محدودة بين طرفي الحرب بسبب الرواتب.
وجرى توقيع اتفاقيات مماثلة في ولايتي شرق دارفور وشمال كردفان، لكن التطور حدث في مدينة الرهد الواقعة في ولاية شمال كردفان، عندما أبرمت الإدارة الأهلية في 18 يونيو/حزيران الحاليّ، اتفاق حماية مع قوات الدعم السريع، بعد أن انتشرت فيها أعمال النهب والسلب.
تحدث الاتفاق عن عدم تعرض الدعم السريع للمواطنين ومحاربة أعمال النهب والسلب ونشر ارتكازات، بجانب تأمين الطرق البرية لضمان وصول السلع والخدمات وأمان تنقل السكان، مع منح المدنيين حق الدفاع عن حقوقهم ضد من يحاول سلبها.
ولم يكن الجيش أو الحكومة المحلية طرفًا في هذا الاتفاق، ما يُعد تطورًا خطيرًا يُمكن أن ينتقل إلى مناطق أخرى، وهذا التطور لا يتعلق بتجاوز القادة الأهليين للجيش والحكومة المحلية فقط وإنما يمتد إلى منح الدعم السريع شرعية لتشكيل حكومة مدنية مقابل توفير الحماية.
يقول المحلل السياسي عبد الحافظ عبد اللطيف، لـ”نون بوست”: “عقد الإدارة الأهلية اتفاقيات مع قوات الدعم السريع مثل الذي وقُع في الرهد، يُعتبر نوع من التعامل مع الواقع الماثل الذي لا توجد فيه قوة مسلحة يمكن أن تكون رادعة للانفلات والنهب”.
يضيف أيضًا أن الإدارة الأهلية في واقع تعدد القوات في مناطقها وغياب الجيش عن أداء دوره المفترض، ليس أمامها إلا الاستعانة بالقوة المسلحة الموجودة على أرض الواقع بغض النظر عن هوية وطبيعة هذه القوة.
طريقة فعالة.. لكنها غير كافية
يعتقد المحلل السياسي محمد الأسباط، أنه في ظل الحروب والأزمات المتراكمة يلجأ الناس إلى الولاءات الضيقة التي تتمثل في الإدارة الأهلية والطرق الصوفية، ويقول إن هذا يحدث كثيرًا في كردفان ودارفور.
ويضيف لـ”نون بوست” “توالي مبادرات الإدارة الأهلية لنزع فتيل التوتر في شمال وجنوب دارفور، وفي الرهد والأبيض بشمال كردفان، يعود إلى طبيعة تكوين وتركيبة هذه المناطق وطبيعة التأثيرات”. ويشير إلى أن مبادرات الإدارة الأهلية فعالة، لكنها لا تغني عن إيقاف الحرب وعودة الأمور إلى الدولة لتنظيم وتولي تسيير شؤون السكان.
حاولت الإدارة الأهلية ولا تزال تحاول، سد فراغ السلطات الحكومية بشتي السبل
يقول الصحفي المختص في النزاعات، حافظ المصري: “الأوضاع الإنسانية والأمنية تدهورت في عدد من مناطق دارفور وكردفان، نظرًا لعدم وجود سلطات رسمية بما في ذلك الشرطة والقضاء”.
ويشدد خلال حديثه لـ”نون بوست”، على أن هذا التدهور مؤشر خطير للانحدار نحو الهاوية، فالمجتمعات باتت تحت رحمة القدر، في ظل اختفاء السلطات التي يأخذ موظفوها رواتبهم من المواطن مقابل تقديم الخدمات له، إلا أنها تركته دون رقابة ودون حماية ودون رعاية، مع غضها الطرف عن الانتشار الواسع للأسلحة.
ويوضح بأن السلطات لم تكتف بغيابها، بل أعطت المجتمعات مصوغات لاقتناء السلاح تحت تبرير حماية النفس والعرض والممتلكات، رغم علمها بوجود ضغائن بين الأفراد والمكونات الاجتماعية، ما يجعل شرعنة امتلاك السلاح في ظل هذه الأوضاع كارثة حقيقية.
ويضيف “في خضم ذلك، حاولت الإدارة الأهلية ولا تزال تحاول، سد فراغ السلطات الحكومية بشتي السبل – رغم علمها باستحالة هذا الأمر – ومن ضمن جهودها توقيع اتفاقيات وقف عدائيات مع طرفي الحرب أو توفير الحماية مع أحد طرفيها”.
غياب القادة الأهليين يُعبد الطريق إلى الفوضى
تتجه الحرب المندلعة بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية التي يمتلك قائدها محمد حمدان دقلو “حميدتي” طموحًا سلطويًا، إلى التمدد في مناطق واسعة في دارفور وكردفان، وهي مناطق تُعاني من هشاشة أمنية وينتشر فيها السلاح بكثافة.
استفاد حميدتي من ضعف الدولة خلال فترة الانتقال، موسعًا نفوذه داخل الإدارة الأهلية ومؤسسات الدولة، وتعزز هذا النفوذ مع الانقلاب الذي نفذه مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، مع التوسع في تجنيد مزيد من العناصر حتى وصل عدد قواته إلى 120 ألف جندي.
نتيجة لهذا التوسع في التجنيد وشراء العتاد العسكري، استطاعت قوات الدعم السريع بعد الحرب الانتشار في مساحات واسعة من كردفان ودارفور، على الرغم من أن القتال يدور بصورة رئيسية في العاصمة الخرطوم.
المشكلة الأكبر التي تواجه الإدارة الأهلية عدم امتلاكها القوة الكافية لتنفيذ قراراتها
وإزاء هذا الانتشار، ومع غياب مظاهر سلطة الدولة، لا تملك الإدارة الأهلية غير توقيع اتفاق صلح بين طرفي الحرب أو مع الدعم السريع بغرض الحماية والتأمين.
وظهر تأثير غياب الإدارة الأهلية في ولاية غرب دارفور التي يدور فيها قتال شرس على أساس عرقي، بين قبيلة المساليت الإفريقية ومليشيات القبائل العربية المدعومة من قوات الدعم السريع.
يهتم القادة الأهليون بمصالح مجتمعاتهم بغض النظر عن أهلية أو شرعية من يحكم، فتأمين هذه المصالح يُعزز من سلطتهم الاجتماعية التي يمكن أن تتقوض حال انفرط عقد الأمن، لهذا ظلوا على الدوام يتعاملون مع الأنظمة الحاكمة سواء وصلت إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري أم صندوق الانتخابات.
لكن المشكلة الأكبر التي تواجه الإدارة الأهلية عدم امتلاكها القوة الكافية لتنفيذ قراراتها، ومع ذلك، فهي تعد آخر حائط سد لمنع انزلاق مناطق كثيرة في السودان في الفوضى والحرب الأهلية الشاملة.