يوم بعد آخر، تتثاقل تكاليف المعيشة على الأسرة السورية في مناطق سيطرة النظام، حيث سجّلت ارتفاعًا ملحوظًا خلال النصف الأول من العام 2023، بفارق واضح يكشف تكاليف المعيشة وارتفاع الأسعار مقارنة مع العام الماضي، وسط تدهور مستمر يشهده القطاع الاقتصادي والمعيشي.
تواجه العائلات السورية في المحافظات التي يسيطر عليها النظام، فجوة كبيرة بين مصادر الدخل والأجور التي يتقاضونها الموظفون الحكوميون، وتكاليف المعيشة المرهقة التي باتت شبه مستحيلة في ظل ظروف تنعدم فيها إمكانات تأمين الاحتياجات، لا سيما مع غياب المبادرات الحكومية لإسعاف الوضع الراهن الذي تعيشه البلاد.
ارتفاع أسعار السلع
تعاني العائلات في مناطق سيطرة حكومة النظام من صعوبة بالغة في تأمين الاحتياجات الضرورية للمعيشة، نتيجة ارتفاع أسعار السلع والمنتجات الغذائية التي خلّفها تدهور الليرة السورية أمام الدولار الأمريكي، حيث وصلت في ذروتها إلى حدود الـ 9 آلاف و400 ليرة سورية لكل دولار.
ارتفعت أسعار اللحوم الحمراء والدجاج حوالي 17.8%، بينما ارتفع أسعار الحلويات نحو 10.3%، أما الجبن فقد ارتفع إلى 12.5% بينما تكلفة البيض 41.7%، وانخفضت أسعار الخضار بنسبة 3.6%، بينما ارتفعت أسعار الفواكه بنسبة 2.4%، أما الأرزّ فقد ارتفاع بحوالي 53.6%، وذلك بناءً على حاجة الفرد اليومية للغذاء حسب “مؤشر قاسيون”.
يعدّ تغيُّر أسعار السلع الأساسية الاستهلاكية أقل من تغيُّر السلع الكمالية، نتيجة الدورة السلعية التي تتراوح بين 45 و180 يومًا، بينما السلع الكمالية فيجري تسعيرها بشكل يومي معتمد على الدولار لإحلال السلع، حيث يختلف سعر السكّر الذي يستخدَم بالحلويات (صناعي) ويسعَّر الطن منه بشكل يومي، بينما السكّر الاستهلاكي يسعَّر كل 3 أشهر، حيث السلع التي تستخدَم بأكثر من استخدام يعتمد على بطاقة الاستيراد، حسب ما أوضح المحلل الاقتصادي يونس الكريم.
قال الكريم خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن ارتفاع الأسعار بسبب صعوبة الاستيراد، كون البنك المركزي لم يعد يملك القطع الأجنبي لتمويل الاستيراد، رغم أن توقعات النظام كانت عكس ذلك بعد الانفتاح العربي عليه وبدأ التطبيع الدولي معه، حيث كان يتوقع تدفق الاستثمارات إلى مناطقه، وهذا لم يحصل، ما انعكس بشكل سلبي على القطاع الاقتصادي”.
وأضاف: “إن سبب فشل حكومة النظام في تنظيم الأسعار وضبطها لأن أمراء الحرب الذين يستوردون السلع لا يودّون الالتزام بتسعيرة النظام، وخلقوا سوقًا سوداء وحموها بنفوذهم، ويستطيعون من خلالها تصريف بضائعهم، فضلًا عن تغلغل ميليشيات المخدرات في القطاع الاقتصادي، التي باتت توظف الدولار لاستيراد المواد الأولية لصناعة المواد المخدرة”.
وتابع أن عدم قدرة النظام على فرض سيطرته على القطاع الاقتصادي في البلاد، أدى إلى استحواذ حلفائه على مؤسسات الدولة الرئيسية المنتجة للدولار، ما أضعفه في المناورة للسيطرة على الاقتصاد، والذي انعكس على تضخم الأسعار وركود الاستثمارات.
يضاعف تكاليف المعيشة
أدّى ارتفاع أسعار المنتجات والاحتياجات الضرورية إلى ارتفاع متوسط تكاليف المعيشة للعائلة السورية المكونة من 5 أفراد إلى أكثر من 6.5 ملايين ليرة سورية شهريًّا، فيما وصل الحد الأدنى لتكاليف المعيشة إلى أكثر من 4.1 ملايين ليرة سورية شهريًّا، بحسب مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة.
وأصدرت الصحيفة المحلية مطلع يوليو/ تموز الجاري تقريرها الربع سنوي، الذي يرصد تكاليف المعيشة بالاعتماد على حاجة الفرد اليومية إلى حوالي 2400 حريرة من المصادر الغذائية المتنوعة، حيث حسبت الوجبة الأساسية للفرد خلال اليوم الواحد التي تكفل له الحياة وإعادة إنتاج قوة عمله من جديد.
وأشارت إلى أن تكاليف الغذاء هذه تمثل 60% من مجموع الحد الأدنى لتكاليف معيشة الأسرة، بينما تمثل الـ 40% الباقية الحاجات الضرورية الأخرى للأسرة، منها تكاليف سكن ومواصلات وتعليم ولباس وصحة وأدوات منزلية واتصالات وغيرها.
وبذلك بلغ ارتفاع متوسط تكاليف المعيشة إلى نسبة قاربت 15.6% خلال أشهر أبريل/ نيسان ومايو/ أيار ويونيو/ حزيران، مقارنة مع الربع الأول من العام الحالي الذي تجاوزت فيه تكاليف المعيشة المتوسطة عتبة الـ 5.6 ملايين ليرة سورية، بينما بلغ الحد الأدنى 3.5 ملايين ليرة سورية، بينما كان الارتفاع خلال الربع الأول من عام 2022 حوالي 41.4%.
فجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة
يتزامن ارتفاع تكاليف المعيشة مع انخفاض الأجور، حيث كان الحد الأدنى للأجور، البالغ 92 ألفًا و970 ليرة سورية، غير قادر في الربع الأول من العام الحالي على تغطية سوى 1.6% من وسطي تكاليف المعيشة، بينما أصبح في الربع الثاني غير قادر سوى على تغطية 1.4% من وسطي تكاليف المعيشة.
مصطفى الغريب، يقيم في الأحياء الشرقية من مدينة حلب شمال البلاد، ويعمل موظفًا حكوميًّا ضمن القطاع العام، يتقاضى لقاء عمله مرتبًا شهريًّا يصل إلى 150 ألف ليرة سورية، ليعيل أسرته البالغ عددها 6 أفراد يكبرهم طفل ذو 15 عامًا.
يقول الرجل خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن مرتبي الذي أحصل عليه شهريًّا لقاء عملي الوظيفي لا يغطي مصروف يومَين من الشهر، متضمنة احتياجات الأطعمة والمشروبات دون الاحتياجات الأخرى، كاللباس والمواصلات والخدمات كالمياه والكهرباء”.
ويضيف أنه يضطر إلى العمل في مهن يدوية كعامل بناء، مقابل أجر يومي للتحايل على تكاليف المعيشة المرهقة، التي لا تتوفر في معظم الأوقات، وتعاني أيضًا من انخفاض في الأجور، ما يدفعه إلى إرسال ابنه إلى العمل في مهن شاقة لقاء أجور بسيطة، ما ساهم في تدهور في واقعه المعيشي.
وتابع أن معظم معيلي الأسر يبحثون عن فرصة عمل إضافية لإعالة أسرهم حتى بالحدود الدنيا، بغية تغطية تكاليف المعيشة، فهم غير قادرين على سدّ الفجوة بين الأجور التي يحصلون عليها من أعمالهم والتكاليف المعيشية، في ظل ارتفاع أسعار المنتجات الغذائية والاحتياجات الضرورية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
تضاعف متوسط تكاليف معيشة الأسرة في سوريا خلال سنة، إذ بلغت تكاليف المعيشة في يوليو/ تموز 2022 نحو 3 ملايين ليرة سورية، لترتفع إلى نحو 3.5 ملايين في سبتمبر/ أيلول 2022، ومنها إلى 4 ملايين في يناير/ كانون الثاني 2023، حتى وصلت إلى 6.5 ملايين في يوليو/ تموز الحالي.
يشير المحلل الاقتصادي إلى “أن المواطن لا يعيش على السلع الأساسية فقط، لذلك كلفة الحياة تجعله يشعر بالمزيد من السوداوية والإحباط، ما يقلل إنتاجيته، ويدفعه إلى التفكير لتغطية تكاليف الحياة، وذلك إما بالانضمام إلى الميليشيات، وإما البحث عن سبيل يمكّنه الخروج من البلاد، بعدما وصل معدل الفجوة بين تكاليف المعيشة ومستوى الدخل حدود الـ 95%، وما تبقى منها 5% يغطيها من مرتبه”.
ويؤكد أن متوسط المعيشة 600 دولار أمريكي لم يتغير منذ العام 2008 حسب مراكز الدراسات السورية، وهي عمليًّا 6.5 ملايين ليرة سورية حسب سعر الصرف الحالي، وتعدّ رقمًا لا يستطيع الموظف تحقيقه، ما ساهم في اتّساع الفجوة مع الوقت.
وأوضح أن المواطن يبحث عن استراتيجيات لتقليل الفجوة، تنحصر بين إعادة ترتيب أولوياته وتقليل عدد الوجبات، والاعتماد على المنظمات الإغاثية والتعاضد المجتمعي لتغطية هذه الكلفة المعيشية، إضافةً إلى العمل في عدة أعمال تصل إلى دفع باقي الأسرة بغضّ النظر عن العمر والجنس، للانخراط بسوق العمل أيًّا كانت طبيعة العمل بهدف تغطية احتياجات اليومية، خاصة أن متوسط دخل العمل الواحد 20 دولارًا، في حين أن أدنى حد ممكن العيش فيه بسوريا وفق المعايير الدولية للفقر 300 دولار لتكاليف المعيشة.
ويلاحَظ ممّا سبق انكشاف واضح، حيث لا يمكن لأي شخص العيش ضمن هذا الشرخ الكبير بين مستوى الدخل والكلفة المعيشية، ما يسبّب تداعيات متعددة يمكن تلخيصها في انتشار الجوع والفقر وعمالة الأطفال وانتشار الجريمة وتعاطي المخدرات بين أوساط المجتمع السوري.
يرزح نحو 90% من السوريين تحت خط الفقر، وأكثر من 15 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية، ويواجهون العديد من التحديات بدءًا من ضعف الاقتصاد وصولًا إلى سوء أوضاع البنى التحتية، حسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
غيابٌ للحلول الحكومية
تواصل حكومة النظام السوري الحديث عن زيادة مرتقبة لرواتب الموظفين الحكوميين، حيث باتت حديث الشارع السوري في الفترة الممتدة بين عيد الفطر والأضحى، بعدما شهدت المنتجات الغذائية تغيرات كبيرة في أسعارها، ما تسبّب في اتّساع رقعة الفجوة بين مستوى الدخل وتكاليف المعيشة.
ورغم تكرار حديث مسؤولي حكومة النظام عن زيادة مرتقبة للأجور، إلا أن الأخيرة لم تتجرأ بعد على إقرار الزيادة وتطبيقها فعليًّا، في وقت ينتظر السوريون بارقة أمل لتحسين واقعهم المعيشي، رغم أنها قد لا تغير شيئًا ملموسًا على الصعيد المعيشي.
ونقلت صحيفة “الوطن”، عن عضو مجلس الشعب السوري محمد زهير تيناوي، الخميس 6 يوليو/ تموز، أن الزيادة في الرواتب قائمة وتتم دراستها، متوقعًا أن يتم إقرارها خلال الشهر الجاري وتطبيقها مع شهر أغسطس/ آب المقبل، كما رجّح ألا تتجاوز قيمة الزيادة بين 60 و70%، وأن تتم تغطية الكتلة المالية لهذه الزيادة عبر تعديل أسعار مبيع بعض مشتقات النفط، وبذلك فإن الزيادة المرتقبة تلازمها هيكلة جديدة للأسعار، وعلى رأسها المحروقات.
بدوره، يرى المحلل الاقتصادي يونس الكريم، أن الحكومة غير قادرة على زيادة الأجور وموازنتها مكلفة بسبب نقص السيولة والقطع الأجنبي في البنك المركزي، بالإضافة إلى أن زيادة الأجور يتطلب مقابلها توفر سلع، وإلا سوف تكون الزيادة فتيل البارود في برميل الأسعار نتيجة عدم وجود سلع، ما يقود إلى تضخم مفرط يفقد الليرة السورية قيمتها وبطبيعة الحال الأجور.
واعتبر أن الزيادة تتراوح بين 60 و70% من قيمة الرواتب، ولا تعتبر زيادة إذا لم تغطِ 50% من متطلبات حياة الأسرة، وبذلك الزيادة لا يمكنها ردم سوى 5% من الفجوة بين تكاليف المعيشة ومصادر الدخل، في حين تبقى الـ 90% دون تغطية، حيث يضطر المواطن إلى مهن متعددة والمخاطرة في مستقبل أفراد عائلته لتغطية الكلفة.
ويقع على عاتق حكومة النظام زيادة الأجور حتى حدودها الدنيا بهدف تغطية نصف الكلفة المعيشية، إلى جانب العمل على تأمين السلع والمواد التموينية الأساسية، وإعادة توسعة السلة المدعومة للمواطنين ما يساهم في ردم الفجوة، وإلا فإن الواقع المعيشي والاقتصادي يزداد تدهورًا وسط غياب الحلول الحكومية.