يمسك بيده هاتفه الجوال لساعات طويلة، ما تلبث أن تعلو وجهه ابتسامة أو تقطيبة جبين، دون أن يفهم ذووه سرّ تعابير وجهه.. تلك حال يوسف الشايب الذي يسكن أحد مخيمات إدلب شمال سوريا.
يعمل يوسف الشايب كما يقول لـ”نون بوست” في تداول العملات الرقمية، وجلوسه الطويل خلف شاشة هاتفه له مبرراته، فهو بدايةً اتبع خطوات عملية في تعلم ودراسة مبادئ التداول، والقائم على فكرة “الشمعات اليابانية” وكذلك دراسة أحوال السوق، فضلًا عن معرفة ما إذا كانت هذه العملة والمضاربة بها توافق تعاليم الشريعة اﻹسلامية.
وما دفعه أساسًا لهذا العمل، حسب قوله، فهو البطالة والرغبة في تحقيق دخل جيد، بعد أن وجد الكثير من أقرانه توجهوا إلى التداول بالعملات الرقمية للكسب، لكن كثيرًا منهم خسر ووقع في المديونية، ﻷنه لم يتعلم قواعد العمل كما يقول.
أما صادق شهاب الدين، المهجّر من ريف القنيطرة، فيقول إنه يمضي يومه يتابع أحوال السوق، وبالتالي تقييم واتخاذ قرار البيع أو الشراء، من خلال دراسة اﻷرقام، “لكنّ هناك حدودًا في المضاربة، من تجاوزها وقع في الخسارة حتمًا”.
التداول ومقوماته
يقول المتداول والمحلل في سوق العملات الرقمية خالد زكرة لـ”نون بوست”: “العملات الرقمية المتداولة كثيرة جدًا، أبرزها البيتكوين والإيثريوم واللايت كوين والدوج كوين وشيبا وسولانا، والكثير من العملات والمشاريع الرقمية”.
ويرى أن أبرز ما يميز هذا السوق هو المخاطرة العالية، إذ تتغير الأسعار بنسب كبيرة صعودًا وهبوطًا، فمن الطبيعي أن ترى بعض العملات تخسر ثلث قيمتها وأكثر خلال يوم واحد، وبالمقابل من الممكن أن تصنع بعضها أضعاف السعر صعودًا خلال ساعات، لذلك لا يمكن معرفة متوسط دخل الفرد، إذ إن غالبية المتداولين المبتدئين في هذا السوق من الخاسرين أو العالقين في عملات هبطت كثيرًا وأصبح من الصعب بيعها أو الرضا بالخسارة الحاليّة.
ولفت زكرة إلى أن موضوع الربح والخسارة يحدده بالدرجة الأولى حجم رأس المال وحجم المخاطرة بالصفقات وإدارة الأموال لدى المتداول.
وبخصوص نسبة إقبال السكان في منطقة إدلب على تداول العملات الرقمية، أشار زكرة إلى أن الفترة الأخيرة شهدت إقبالًا كبيرًا على سوق العملات الرقمية في المنطقة، لافتًا إلى أن مقومات التداول تتركز على وجود خبرة في مجال التداول وإدارة رأس المال بشكل صحيح وعدم المجازفة الكبيرة، بالإضافة إلى وجود إنترنت جيد وهاتف محمول أو جهاز لوحي لاستخدام منصة التداول أو البرامج بهدف تحليل العملات لمن لديه معرفة بالتحليل.
و”بالنسبة للبرامج فهي عبارة عن منصات عالمية لتداول العملات الرقمية، وأبرز المنصات الشهيرة هي “بينانس” المحظور في سوريا وبعض الدول العربية، لذلك يلجأ المتداول في سوريا إلى استخدام منصات بديلة مثل كوكوين أو كوين إكس” يضيف زكرة.
يستطرد محلل العملات في حديثه مع “نون بوست”، أن عمل المكاتب في الشمال السوري يقتصر على شراء العملات الرقمية مِمّن يُريد البيع من المحفظة الخاصة به، وبنفس الوقت تبيع لمن يريد شحن محفظته بالدولار الرقمي المستخدم للتداول USTD.
وعن بداية انتشار هذا التداول في الشمال السوري، أكد أن دخول الشباب بدأ منذ منتصف 2020 حتى منتصف 2021، فقد تميزت تلك الفترة عالميًا بارتفاع أسعار العملات، ما دفع الكثيرين لدخول المجال وشراء هذه العملات، لترتفع نسبة المتداولين في الشمال المحرر بشكل كبير.
خطوات العمل
يقول الشاب بلال البكور وهو مهجر من ريف حماة ويسكن مدينة الباب شرقي حلب: “خطوات تداول العملات الرقمية تتم من خلال منصات إلكترونية، ولعل أشهرها منصة كوين إكس التي تعد إحدى أكثر المنصات تداولًا في الشمال المحرر”.
وتابع قائلًا: “أولى الخطوات تبدأ في قيام العميل (المضارب) بإنشاء حساب (محفظة) على المنصة عن طريق البريد الإلكتروني أو رقم الهاتف، ويوثق الحساب بواسطة وثائق رسمية كالهوية الشخصية أو جواز السفر، وفي مرحلة لاحقة يتم تحويل الدولار إلى عملة USDT وBTC”.
مضيفًا “بعد الخطوات السابقة يتمكن العميل من دخول سوق العملات، وبالتالي المضاربة والعمل بيعًا وشراءً، وفي حال رغب العميل بإنهاء المضاربة، ما عليه إﻻ سحب أمواله أو حتى القيمة التي يريدها، عبر التوجه لأحد مكاتب التصريف أو المختصة، أو حتى تحويل ما لديه إلى محفظة أخرى، مقابل سحب ما يعادل عملته الرقمية وفقًا للسعر اللحظي”.
ويضرب البكور مثالًا قائلًا: “إذا كنت أملك 50 دولارًا في محفظتي، يمكنني شراء عملة رقمية معينة بعد أن أستطلع حسابات خبراء أو فنيين في الأسواق العالمية على منصة “تويتر” الذي يقدمون نصائحهم بشكل يومي بخصوص العملات التي قد تحقق أرباحًا في الساعات القادمة، ومن خلال قراءتي وإجماع الفنيين على عملة معينة اشتري بكامل المبلغ أو قسم منه، وأراقب صعود العملة أو هبوطها والبيع في أي وقت قد أرغب فيه وتحويل الأرباح إلى عملة البرنامج الأساسية التي تعادل الدولار “USTD”، ومنها أسحب المبلغ نقدًا من صاحب المكتب الذي أتعامل معه”.
مخاطر التداول
انتشار التداول بالعملات الرقمية شمال سوريا، فتح معه الحديث عن مخاطره، إﻻ أن ما يشجع على المتابعة هو الحاجة إلى رأس مالٍ بسيط في حده اﻷدنى 50 إلى 100 دولار.
يؤكد اﻷستاذ عروة العظم، المختص بالشأن اﻻقتصادي لـ”نون بوست” أن الشباب الذين يعملون في مجال تداول العملات الرقمية يجهلون أحيانًا مسألتين: أولها مدى موافقة العمل والعملة للشريعة اﻹسلامية، ومن جهة أخرى أساسيات هذا العمل، وأسباب ارتفاع وانخفاض العملة المشفرة، ومن يقف خلفها ويديرها.
الشمال السوري يضم قرابة 40 متجرًا لبيع وشراء العملات الرقمية
وتابع قائلًا: “تابعت الكثير من الدورات المتعلقة بهذا الشأن، معظمها يدور حول فكرة الشمعات اليابانية ونجمة داوود، اللتين تعتبران أساس هذه اللعبة، وهي الحد الذي متى تجاوزه المضارب وقع في المغامرة”، وأضاف “من الناحية اﻻقتصادية، لا يمكن توصيف التداول بالعمل اﻻقتصادي، فهي عملية غير منتجة إطلاقًا”.
واستطرد في حديثه معنا بقوله: “ماذا يحقق الشباب من مكاسب إﻻ الجلوس طويلًا وتوقف عملية اﻹنتاج المعطَّلة أساسًا بدلًا من البحث عن خيارات وابتكارات أفضل”، مشيرًا إلى أنه بالنسبة لمسألة الشرعية فلها أهلها، وهم من يفتون بها.
مكاتب خدمية
انتشرت منذ سنوات مكاتب في شمال سوريا تعمل في مجال العملات الرقمية، يزعم العاملون بها المعرفة العلمية بآليات العمل والسوق، ويقدمون بالتالي خدمات ونصائح، مثل إنشاء محفظة وفتح الحسابات، وﻻ يخلو اﻷمر من استغلال العملاء في بعض اﻷحيان.
يروي حسام سليمان وهو صاحب شركة الفارس للصرافة والحوالات التي تعتبر رائدة في مجال العملات المشفرة في منطقة إدلب، لـ”نون بوست”، أن نسبة إقبال المتداولين على العملات الرقمية ترتفع بشكل يومي في شمال سوريا، ومعظم من يتجهون نحو سوق العملات من النازحين والفقراء جدًا، مشيرًا إلى أن عدد المقبلين على العملات الرقمية في مدينة الدانا شمال إدلب بلغ قرابة 300 شخص فيما وصل عددهم في مخيمات دير حسان وسرمدا إلى نحو 500 متداول.
ولفت إلى أن نسبة الذين يخسرون في عملهم أكثر من الذين يربحون فعليًا، بسبب غياب الوعي الكافي لديهم عن كيفية مراقبة الأسهم واختيار العملة الصحيحة، قائلًا: “أغلبية الذين يريدون العمل يُلحون عليّ أن أختار لهم عملة لشرائها، بالإضافة إلى مراقبة عملهم بشكل يومي”.
وأوضح أن تداول السوريين للعملات المشفرة ما زال منخفضًا مقارنةً مع باقي دول العالم، مسترسلاً في حديثه لـ”نون بوست” أن الشمال السوري يضم قرابة 40 متجرًا لبيع وشراء العملات الرقمية.
يعتقد هؤلاء الشباب أن العملات الرقمية هي قارب نجاة، في ظل الظروف الصعبة التي يختبرونها، ورغم خسائرهم أحيانًا، فإنهم يصنفون أنفسهم في خانة التجار أو العاملين في سوق البورصة، و”العمل ربح وخسارة” كما يرددون، وفي الأيام الجيدة، يكسب المتداولون بالمتوسط يوميًا ما بين 10-20 دولارًا، فيما تصل عمولة صاحب المكتب التي يتقاضها على عمليات التحويل سواء الشراء أم البيع ما بين 1 و2%.
أخيرًا، فإن تداول العملات الرقمية ما يزال ناشئًا في الشمال السوري، ويعتمد على الثقة بين المتداولين قليلي الخبرة وأصحاب المكاتب الوسيطة، وغم وقوع عدد من عمليات النصب التي راح ضحيتها متادولون مستجدون، إلا أنها لم تمنع الشباب من طرق هذا الباب المستحدث من التجارة الرقمية.