تنتشر نقاط بيع الخرفان، أو ما يعرف في تونس بـ”الرحبة”، عادةً في المدن والبلدات في الفترة التي تسبق عيد الأضحى المبارك، إذ يجلب المزارعون مواشيهم من الأرياف لبيعها، وتشاهد الناس ملتفين حولها يقلّبون الماشية ويسألون عن سعرها، علّهم يظفرون بأضحية تدخل البهجة للعائلة.
لكن خلال هذه السنة، قلّت الحركة وتراجع الإقبال، إذ لم نشهد تلك المشاهد المعتادة قبل أيام العيد، فنقاط بيع الخرفان قليلة والمشترون قلّة، أغلبهم يعود إلي بيوتهم دون أن يشتروا الأضحية بسبب غلاء أسعارها، الذي يعود إلى الجفاف والأزمة الاقتصادية اللذين تشهدهما البلاد.
صعوبة شراء الأضاحي في تونس
يواجه العديد من التونسيين صعوبات كبرى لشراء أضحية العيد في هذه السنة، ما جعل الحركة التي تتّسم بها هذه الأيام المباركة تتراجع مقارنة بالسنوات الماضية، وهو أمر يسهل معاينته أثناء جولة صغيرة في بعض المدن والقرى التونسية.
غابت عديد المشاهد المرتبطة بالعيد، كأكوام التبن والعلف التي تنتشر عادة في الشوارع ومداخل الأحياء والأسواق الشعبية وتقاطعات الشوارع والأزقة، كما تراجعت نقاط بيع الفحم وآلات الشواء الصغيرة والكبيرة، ومختلف العيدان الحديدية والخشبية التي توضع عليها قطع اللحم الصغيرة وتستعمَل للشواء.
ويؤكد المزارعون والتجّار ضعف الإقبال على شراء الخراف، فنسبة كبيرة من الأسر الفقيرة ومتوسطة الدخل لن تستطيع توفير الأضحية هذا العام بسهولة، وفق تأكيد البعض منها، فالأسعار والأحجام غير متقابلة.
أدّى الجفاف إلى تلف المحاصيل وتراجع المراعي الخضراء، ما اضطر المزارعين إلى شراء الأعلاف لأغنامهم.
تتجاوز أسعار الأضاحي هذه السنة إمكانات أغلب العائلات التونسية، ما جعلها تعدل عن أداء شعيرة التضحية، وتتراوح الأسعار بين 600 دينار (200 دولار) لأصغر خروف و1500 دينار (نحو 500 دولار) للخروف المتوسط، فيما تصل بعض الأسعار إلى نحو 2000 دينار (660 دولار).
نفهم من هنا تضاعُف أسعار الأضاحي في تونس هذه السنة، فالسنة التي قبلها كان يمكن للمواطن التونسي أن يشتري أضحية متوسطة الحجم بمبلغ لا يتجاوز 200 دولار، لكن هذا المبلغ الآن يمكن أن يوفر له خروفًا لا يتعدّى وزنه 15 كيلوغرامًا.
التقى “نون بوست” مع محمود وهو بصدد شراء أضحية العيد، حيث يقول إنه تمكن من شراء الخروف بعد عناء طويل وأيام من البحث، فالميزانية المرصودة للعيد لا تتجاوز 900 دينار (300 دولار)، وكان يظنّ أنه سيشتري خروفًا كبيرًا، لكن أمواله لم تكفِ إلا لشراء خروف صغير الحجم.
أما علي فقد اضطر إلى شراء معزة بـ 600 دينار (200 دولار)، ذلك أن عائلته كبيرة والمبلغ الذي يملكه لا يفي بالحاجة وفق قوله لـ”نون بوست”، وأبدى استغرابه الشديد من أسعار الأضاحي لهذه السنة، رغم أن الدولة أكّدت عدم وجود أي مشاكل.
تأثير الجفاف وغلاء الأعلاف
يُرجع المزارعون ارتفاع أسعار الأضاحي لهذه السنة إلى موسم الجفاف وتراجع المراعي الطبيعية الخضراء، ويقول بعض المزارعين الذين تحدثنا معهم في “نون بوست” إنهم اضطروا إلى بيع مواشيهم بسبب عدم قدرتهم على تحمل التكاليف المرتفعة، ما تسبّب في نقص قطيع الماشية هذه السنة.
ووفق أرقام رسمية صادرة عن اتحاد الفلاحة والصيد البحري، أنتجت تونس 850 ألف رأس من الأغنام لهذا العيد، في مقابل 1.2 مليون رأس العيد الماضي، وهو ما ساهم في ارتفاع الأسعار، إذ يقدَّر استهلاك التونسيين بقرابة الـ 950 ألف خروف سنويًّا خلال العيد.
وعرفت تونس هذه السنة نقصًا كبيرًا في كميات مياه الأمطار المتساقطة على البلاد، وجفافًا مستمرًّا للعام الثالث على التوالي، وهو ما دفع مسؤولي الدولة إلى التحذير من خطورة الوضع وإقرار خطة طوارئ مائية، إذ وصل منسوب بعض السدود إلى ما دون 10% من سعتها.
تنفق العائلات التونسية الجزء الكبير من الراتب على المواد الغذائية الضرورية وجزءًا منه على اللباس.
أدّى الجفاف إلى تلف المحاصيل وتراجع المراعي الخضراء، ما اضطر المزارعين إلى شراء الأعلاف لأغنامهم، لكن الأعلاف باهظة الثمن، إذ يبلغ ثمن 100 كيلوغرام شعير 150 دينارًا (50 دولارًا)، والقرط (أعلاف خشنة) بـ 30 دينارًا للحزمة الواحدة (10 دولارات)، ما يعني تضاعف الثمن مقارنة بالسنة الماضية نتيجة الجفاف، ما انعكس على سعر الأضحية، فالخروف الواحد يأكل معدل 2 كيلوغرام من الشعير في اليوم.
حتى وإن وفّر المزارع المال لشراء الأعلاف، فإن الدولة لا تستجيب لطلباته، إذ حدّدت السلطات كمية الأعلاف المخصصة لكل مزارع، نظرًا إلى عدم قدرة الدولة على توفير الأعلاف بالكمية المطلوبة نتيجة الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها، وهو ما شجّع السوق السوداء التي تيبع بأسعار مضاعفة.
الأزمة الاقتصادية
تتراوح رواتب الأجراء والموظفين في تونس ما بين 900 و1800 دينار (300 و600 دولار) و600 دينار (200 دولار) بالنسبة إلى بعض الأجراء، ما يعني أن الراتب كامل لا يوفر ثمن أضحية العيد، ما اضطر العديد من التونسيين للعدول عن أداء هذه الشعيرة.
وأثّرت الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس منذ سنوات -والتي زادت حدّتها بعد سيطرة الرئيس قيس سعيّد على مقاليد الحكم وكل السلط في البلاد- على المقدرة الشرائية للتونسيين، حيث ينفق غالبية التونسيين رواتبهم الشهرية خلال النصف الأول من الشهر، نتيجة غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن.
ورغم محاولة “تقسيط” الراتب على امتداد الشهر والاكتفاء بما هو ضروري من مستلزمات العيش، إلا أن الأمر يبدو صعبًا خاصة في المناسبات التي تقتضي نفقات إضافية، كالأعياد الدينية والعودة المدرسية والجامعية والمرض وغيرها من المصاريف الطارئة.
تنفق العائلات التونسية الجزء الكبير من الراتب على المواد الغذائية الضرورية وجزءًا منه على اللباس (اضطر عدد كبير من التونسيين شراء الملابس المستعملة)، فيما توزعت بقية الرواتب على خلاص فواتير الكهرباء والماء الصالح للشرب.
هذا بالنسبة إلى العائلات المتوسطة التي يشتغل بعض أفرادها، لكن هناك عائلات فقيرة لا يوجد فيها أي فرد يعمل، وتلك الفئة الأكثر ضررًا من الأزمة الاقتصادية التي تشهدها تونس منذ سنوات، فهذه العائلات لا موارد لها.
خلال موسم العيد تصرف الدولة منحًا لهذه العائلات، حيث صرفت الدولة هذا العيد مساعدات ظرفية لفائدة حوالي 329 ألف أسرة منتفعة بالمنحة الشهرية القارة، بقيمة 60 دينار لكل عائلة (20 دولار)، وهو مبلغ لا يكفي لشراء كيلوغرام ونصف من اللحم.
يحرص التونسيون سنويًّا على ذبح الأضاحي حفاظًا على الشعيرة الإسلامية وتماهيًا مع التقاليد الاجتماعية، لكن هذه السنة يبدو الأمر مختلفًا، فالعديد من الأسر عدلت عن أداء الشعيرة لعدم توفّر المال الكافي لذلك.