تجري اللجان الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السوري عمليات تسوية شاملة في محافظة درعا وريفها جنوبي البلاد، منذ مطلع يونيو/ حزيران الجاري، بغية تسوية أوضاع المطلوبين والفارّين من الخدمة العسكرية الإلزامية، في خطوة جديدة من المفترض أن تشمل المقيمين في الداخل والمهجرين في دول اللجوء السوري، تزامنًا مع تطبيع الدول العربية علاقاتها مع النظام.
تعدّ هذه التسوية الثالثة من نوعها منذ بسط النظام سيطرته على الجنوب السوري بدعم روسيا في يونيو/ حزيران 2018، والتي تهدف إنهاء الملاحقات الأمنية للمطلوبين، وإرساء الأمن والاستقرار في المنطقة حسب زعمه، إلا أنها تشهد فلتانًا أمنيًّا يتمثل بعمليات اغتيال وتفجيرات بالعبوات الناسفة، ما أسفر عن مقتل مئات المدنيين والعسكريين المحسوبين على مختلف الأطراف.
النظام يجدّد التسوية
باشرت اللجان الأمنية والعسكرية التابعة للنظام السوري، منذ أبريل/ نيسان الماضي، إجراء عمليات التسوية في عدة مناطق بأرياف محافظة درعا بينها مدن وبلدات (الصنمين والحارة والغارية الشرقية والسهوة وغباغب والمسيفرة ومنطقة اللجاه)، استهدفت فيها حَمَلة السلاح والمتخلفين عن الخدمة العسكرية في قوات النظام، عقب اجتماع أجرته اللجان الأمنية مع مخاتير ووجهاء البلدات.
في 3 يونيو/ حزيران الجاري افتتحت اللجان الأمنية والعسكرية مركز التسوية الشاملة لأوضاع المطلوبين والفارّين من الخدمة العسكرية، في قصر الحوريات الواقع وسط مدينة درعا، لمدة أسبوع، إلا أنها مددت الفترة حتى 18 يونيو/ حزيران، حيث انضم نحو 23 ألف شخص إلى عمليات التسوية خلال 12 يومًا، بحسب ما نقلت وكالة النظام “سانا” عن مصادر وصفتها بالأمنية.
بدوره، قال عضو مجلس الشعب عبد الناصر الحريري لـ”سانا”: “إن التسوية خطوة مهمة لعودة حالة التعافي إلى كامل محافظة درعا، وهي تمهيد لعملية استقرار شاملة”، مضيفًا أن “المدني يستطيع ممارسة حياته الطبيعية، والعسكري إلى وحدته بجانب زملائه في صفوف الجيش بعد إجراء عملية التسوية”.
يستهدف مركز قصر الحوريات المخصص لعمليات التسوية المطلوبين والفارّين من الخدمة العسكرية، المقيمين في الداخل والمهجرين في دول اللجوء السوري، حيث تلقّت اللجان الأمنية طلبات لإجراء عمليات تسوية من قبل عدد من اللاجئين.
وتفرض اللجان الأمنية عملية استجواب على الأشخاص الذين يرغبون في إجراء التسوية، وذلك من خلال الإجابة عن عدة أسئلة بعضها يتعلق في نشاط الشخص خلال سنوات الثورة، والجهة التي عمل معها وطبيعة الأنشطة التي نفّذها، والجهات التي تعاون معها، إضافة إلى معلومات عن معارضين غادروا المنطقة إلى الشمال السوري.
في المقابل، يحصل المطلوبون والمتخلفون عن الخدمة العسكرية على بطاقة تسوية ومهلة 6 أشهر للالتحاق بالخدمة، لكنها في الواقع لا تتيح لهم التنقل بشكل آمن في المنطقة، كونها لا تحميهم من الاحتجاز رغم عدم انتهاء المهلة المحددة، ما يدفع البعض إلى استخراج أوراق ثبوتية وجواز السفر حتى يتمكّنوا من مغادرة البلاد، بحسب ما أوضح أيمن أبو نقطة الناطق باسم “تجمع أحرار حوران”.
وأضاف أن “الأشخاص الذين يجرون عمليات التسوية معظمهم من المدنيين، ولم يسبق لهم حمل السلاح، ورغم ذلك يتعرض بعض المطلوبين لعمليات اعتقال تعسفي، وابتزاز مالي يتراوح بين 50 و100 ألف ليرة سورية (ما يعادل 10 دولار أمريكي تقريبًا)، من مجموعة تابعة للأمن العسكري قبل دخول المركز”.
ما الهدف من استنساخ التسوية؟
تحمل عمليات التسوية التي يجريها النظام السوري في درعا أبعادًا خارجية إلى حدٍّ ما، ورسالة إلى الدول العربية التي تحاول ضبط الحدود من أجل السيطرة على تجارة المخدرات التي تهرَّب إلى الدول العربية، وذلك من خلال إحكام قبضته الأمنية في المناطق الحدودية، فضلًا عن جمع السلاح والأموال من الأهالي.
تعدّ عملية التسوية التي يجريها النظام خطوة مقابل خطوة بحسب ما خرج عن اجتماع عمان التشاوري بين النظام والدول العربية التي أعادت علاقاتها معه، إذ يتذرّع النظام بوجود انفلات أمني سبّبه هؤلاء الأفراد، لا سيما فيما يتعلق بتجارة المخدرات، ما يمكّنه من ضبط أسماء المطلوبين وتقييد نشاطهم، وإحكام قبضته الأمنية بشكل أوسع، بحسب ما أوضح أيمن أبو نقطة.
وقال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “يسعى النظام من خلال التسوية تهجير ما تبقى من الشباب في درعا بهدف إحداث تغيير ديموغرافي لصالح مشروع إيران التوسعي في الجنوب، إذ يهاجر مئات الشبان إلى خارج البلاد بعد كل تسوية، عندما يصبحوا قادرين على إصدار أوراق ثبوتية من بينها جواز السفر”.
وأضاف: “رغم خضوع الآلاف لعمليات التسوية وحصولهم على بطاقات تسوية تمكّنهم من التنقل بشكل طبيعي، إلا أنها لا تحميهم من عمليات الاعتقال والاغتيال في ظلّ تردي الواقع الأمني، لا سيما أن النظام يسعى إلى جمع المعلومات وإدانة المطلوبين بجرائم أمام محاكم الإرهاب، وابتزاز المطلوبين للحصول على أموال مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية”.
الجنوب السوري
لا تختلف التسوية الجديدة عن سابقاتها من التسويات، التي سبق ونفّذها النظام بعد السيطرة على المحافظة خلال يونيو/ حزيران 2018، حيث كانت الأولى بعد أيام قليلة من انتشار قوات النظام بدعم روسي في عموم المناطق، شملت 11 بندًا فرضها النظام على الراغبين بالبقاء في منازلهم.
في حين لم تنعم المحافظة باستقرار حقيقي، وظلت رخوة أمنيًّا ضمن المناطق التي يسيطر عليها النظام، ما عكس انعدام الاستقرار وسط استمرار حالات اغتيال تُنسب إلى مجهولين، في الوقت الذي تقاسمت السيطرة عليها الميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، وخلايا تنظيم “داعش”، وبقايا فصائل المعارضة إلى جانب النظام.
وتبعتها تسوية استنسختها أجهزة النظام الأمنية والعسكرية في سبتمبر/ أيلول 2021، عقب فلتان أمني وعمليات استهداف واغتيالات ومداهمات أمنية للنظام، وصلت ذروتها مطلع يوليو/ تموز من العام ذاته.
انفلات أمني وعجز خدماتي
في الوقت الذي يسعى فيه النظام إلى ترسيخ وجوده في محافظة درعا جنوبي سوريا، تشهد المحافظة فلتانًا أمنيًّا غير مسبوق مع استمرار عمليات الاغتيال وتجارة المخدرات، ما يمنع عودة الاستقرار الخدماتي والإداري للمنطقة في ظلّ تدهور الأحوال المعيشية والاقتصادية.
رئيس مجلس محافظة درعا في الحكومة السورية المؤقتة، عصمت العبسي، قال خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن الواقع الميداني في محافظة درعا لا يختلف عن واقع مناطق سيطرة النظام، لا سيما في المجالَين الخدماتي والإداري اللذين يداران بالمحسوبية والفساد والرشاوى، في ظل غياب مقومات الدولة وإدارتها، ما يتسبّب في غياب الخدمات عن الأهالي”.
وأضاف: “هناك شحّ شديد في كل ما يتعلق في الخدمات العامة، لا سيما مستلزمات الحياة المعيشية، حيث يعاني السكان من سطوة الميليشيات وسط انتشار المخدرات والجريمة، فضلًا عن تسلُّط مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية، وهو ما يثبت فشل النظام في السيطرة على المنطقة”.
وأكّد “أن معظم الشباب يخضعون للتسوية بهدف التهرب من الملاحقات الأمنية التي تفرضها أجهزة النظام، حتى يتثنى لهم مغادرة منطقتهم إما إلى خارج المناطق التي شملتها التسوية الجديدة، والتي يكون حضور النظام فيها شكليًّا، وإما بغية الهجرة من البلاد كليًّا”.
ارتفعت عمليات الخطف مع استمرار عمليات الاغتيال والاعتقال من قبل قوات النظام على حواجزها العسكرية وخلال عمليات المداهمة، خلال مايو/ أيار، حيث وثّق “تجمع أحرار حوران” مقتل 41 شخصًا في محافظة درعا، بينهم سيدتَين وطفل، كما أحصى 33 عملية ومحاولة اغتيال أسفرت عن مقتل 18 شخصًا وإصابة 13 ونجاة 3 من محاولات الاغتيال.
وتسجَّل عمليات الاغتيال التي تحدث في المحافظة تحت اسم مجهول، في وقت يتّهمُ الأهالي الأجهزةَ الأمنية التابعة للنظام والميليشيات الإيرانية من خلال تجنيدها لميليشيات محلية، بالوقوف خلف الكثير من عمليات الاغتيال التي تطال في غالب الأحيان معارضين للنظام.
ورغم تكرار عمليات التسوية في المحافظة ذاتها، خلافًا لما جرى في مناطق التسوية التي رعتها روسيا في عدد من المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة السورية، إلا أن الأحداث الميدانية تظهر فشل التسويات في بسط الأمن المزعوم الذي يروّج له النظام.