“مصر منورة بأهلها”.. يبدو أنه قد آن الأوان لتتحول تلك المقولة المجازية إلى واقع فعلي ومنهج حياة في الجمهورية الجديدة تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، وذلك بعدما غرقت الدولة في الظلام ليلًا ولهيب الحر نهارًا، جراء الانقطاع المتكرر للكهرباء الذي يتراوح بين 3 ساعات يوميًا بحسب البيان الرسمي للحكومة وأضعاف هذا الرقم في القرى والمناطق النائية بحسب شهود عيان.
يأتي هذا الانقطاع الصادم لكثير من المصريين استجابة لاستراتيجية “تخفيف الأحمال” التي أعلنت عنها الدولة من أجل توفير 35 مليون دولار شهريًا، لترشيد استهلاك الغاز وتصديره إلى الخارج، بهدف توفير العملة الصعبة لاستيراد الوقود المخصص لتشغيل المحطات، بحسب بيان وزارة الكهرباء والطاقة المتجددة المصرية.
ويعاني الشارع المصري جراء هذا الانقطاع الطويل للكهرباء، وما يترتب عليه من شلل تام لكل مقومات الحياة الأخرى، من حالة احتقان لم تشهدها الساحة منذ تولي السيسي السلطة في 2014، وسط تحذيرات من تبعات هذا الغضب على الاستقرار والسلم المجتمعي.
وتعكس إدارة الدولة لملف الكهرباء خلال السنوات الـ10 الماضية حالة التخبط الواضحة التي تخيم على المشهد في المجالات كافة، فمن التصريحات الوردية بأن تكون مصر مركزًا إقليميًا للطاقة، إلى قبوع أكثر من 100 مليون مواطن في الظلام وفي تلك الأجواء الحارقة لأكثر من 3 ساعات يوميًا، هناك مسافة طويلة من الفشل يتحمل كلفتها المواطن.
أحلام الريادة.. من هنا كانت البداية؟
– بعد توليه السلطة راودت السيسي أحلام أن تصبح مصر مركزًا إقليميًا للطاقة، أن تكتفي ذاتيًا من الكهرباء وتصدر المتبقي، وأن تصبح مصادر الطاقة وأنواعها نافذة لإنعاش خزينة البلاد بالعملة الصعبة.
– في 2015 تعاقدت الحكومة مع شركة سيمنز الألمانية لإنشاء 3 محطات لتوليد الكهرباء، في العاصمة الإدارية، وفي غرب مدينة البرلس بمحافظة كفر الشيخ في دلتا النيل، وفي بني سويف جنوب القاهرة، بكلفة 8 مليارات دولار، وذلك من أجل توليد 144 ألفًا و400 ميغاوات سنويًا.
– لم يكن لدى الدولة المصرية الميزانية الكافية لإنشاء تلك المحطات الضخمة، وكالعادة لجأت للحل السهل وهو الاقتراض لإقامة مثل تلك المشروعات، حيث اقترضت 4.1 مليار يورو من 3 بنوك ألمانية “التعمير الألماني” و”دويتشه بنك” و”HSBC ألمانيا”، على أن يتم سدادهم بداية من 2019 في صورة دفعات منتظمة تتراوح بين 20 و30 مليون يورو لكل دفعة على مدار 12 عامًا، وهو ما يعني أن تستمر فترة سداد هذا القرض حتى عام 2031 ( 2019+ 12= 2031)، بجانب 900 مليون يورو اقترضتهم وزارة الكهرباء المصرية من وزارة المالية.
– ومع دخول تلك المحطات حيز التشغيل ارتفعت قدرات إنتاج الكهرباء الفعلية من 31.1 ألف ميجاوات في 2013/2014 إلى 58.7 ألف ميجاوات في 2022/2023، مع الوضع في الاعتبار أن أقصى استهلاك للدولة في فصل الصيف لم يتجاوز 36 ألف ميجاوات، ما يعني أن هناك فائضًا بنحو 22.7 ألف ميجاوات.
– حين فكر السيسي في بناء تلك المحطات كان حجم الدين الخارجي لمصر لا يتجاوز 46 مليار دولار، لكن سرعان ما ارتفع مع عام حكمه الأول ليصل إلى 55.8 مليار دولار ثم 79 مليار دولار في العام الثاني، وصولًا إلى 123.5 مليار دولار في عام 2019 قبل أن يصل إلى 168 مليار دولار العام الحاليّ، الأمر الذي دفع الحكومة إلى إعادة النظر في تلك المحطات والتفكير في طرح بعضها للبيع لسداد ما عليها من ديون.
عشوائية التخطيط
– تعتمد المحطات الـ3 في تشغيلها على الغاز الطبيعي بتكنولوجيا الدورة المركبة، ما يعني أنها تحتاج إلى معدل معين من الغاز لا يمكنها العمل دونه، وقد تتعرض للتوقف التام في حال أي خلل في هذا المصدر الذي لم توفره الحكومة بشكل يضمن لتلك المحطات الاستمرارية.
– الحكومة حين فكرت في إنشاء تلك المحطات لم تضع الخطط اللازمة لتصريف فائض الإنتاج من الكهرباء، ورغم تصدير بعضه للأردن وليبيا والسودان، فكان بنسب ضئيلة للغاية لا تتناسب وحجم الفائض الذي ظل عبئًا على الدولة.
– في تلك الأوقات بدأت الديون الخارجية تقفز بمعدلات جنونية، في ظل سياسة الاستدانة التي يعتمد عليها النظام لإنجاز مشروعاته البعيدة في كثير منها عن احتياجات المواطن الملحة، الأمر الذي أربك حسابات الدولة ودفعها نحو تخصيص الجزء الأكبر من ميزانيتها لخدمة الدين (فوائد وأقساط).
– وأمام تصاعد حجم الدين الخارجي من جانب، والفشل في توفير العملة الصعبة لسداد خدمة الدين من جانب آخر، لجأت الحكومة للحل الأسهل، الاجتزاء من الخدمة المقدمة للمواطن، ومزيد من تقليص الدعم، وترسيخ استراتيجية “التقشف الإجباري”، فلم تجد سوى الغاز المستخدم في توليد الكهرباء من تلك المحطات الـ3 لتوفير كلفة استيراده من أجل تخصيصها لخدمة فوائد الدين.
– تقول الحكومة إن انقطاع الكهرباء لساعتين يوميًا يوفر قرابة 35 مليون دولار شهريًا، وهو المبلغ الذي كان مخصصًا لاستيراد الغاز المستخدم في المحطات، وكلما زادت عدد ساعات الانقطاع كلما زاد مبلغ التوفير، لكن اللجوء إلى هذا الخيار سيخرج بعض تلك المحطات عن العمل والخدمة ويحولها إلى عبء إضافي لا حاجة للدولة له.
– ومن هنا جاء التفكير في طرح تلك المحطات للبيع، البداية كانت بطرح المحطات الـ3 مرة واحدة، وهو ما رفضته البنوك الألمانية المُقرضة، كذلك شركة سيمنز التي أنشات المشروع، ثم تقلص الطرح إلى محطة واحدة هي محطة بني سويف، وبالفعل أصبحت المحطة تابعة لصندوق مصر السيادي تمهيدًا لبيعها.
– في أبريل/نيسان الماضي دخل الصندوق في مفاوضات مع الشركات والبنوك الألمانية، المصنعة والمُقرضة، وتم الانتهاء من معظم المسائل التفصيلية الخاصة بالصفقة، على أن تبيع الحكومة 70% من المحطة وتحتفظ لنفسها بـ30% فقط، وتُحول قيمة الصفقة لسداد جزء من قرض إنشاء المحطات الـ3.
المواطن يدفع ثمن التخبط
– منذ وصول السيسي إلى الحكم في 2014 حتى مطلع عام 2024، زادت قيمة الكهرباء 13 مرة، وهناك ترقب لزيادتها للمرة الـ14 في غضون ساعات، فيما تم تصفير الدعم المخصص للكهرباء في الميزانية العامة للدولة منذ عام 2019/2020، ما يعني أن المواطن يتحمل كلفة إنتاج الكهرباء بالكامل دون أي دعم مقدم من الحكومة.
– في عام 2013 وقبيل استلام السيسي السلطة كان سعر الكيلووات/ساعة للشريحة من صفر إلى 50 نحو 5 قروش، أما الشريحة الثانية (استهلاك 51 إلى 200 كيلووات) فكانت 12 قرشًا، الشريحة الثالثة (201 إلى 350 كيلووات) 19 قرشًا، الرابعة (350 إلى 650 كيلووات) 29 قرشًا، الخامسة (651 إلى ألف كيلووات) 53 قرشًا، فيما كانت الشريحة السادسة (أكثر من ألف كيلو وات/ساعة) 67 قرشًا، مع الوضع في الاعتبار أن سعر برميل النفط كان خلال 2013 قرابة 115 دولارًا.
– في عام 2024 وصل سعر الشريحة الأولى 58 قرشًا، والثانية 68 قرشًا، والثالثة 83 قرشًا، والرابعة 125 قرشًا، أما الشريحة الخامسة فيتم احتساب الكيلووات بـ140 قرشًا، مقارنة بـ165 قرشًا للكيلووات للشريحة السادسة لأكثر من 1000 كيلووات في الساعة، مع الوضع في الاعتبار أن متوسط سعر برميل النفط بلغ نحو 84.43 دولارًا.
– يلاحظ أنه رغم تراجع سعر برميل النفط عام 2013 مقارنة بالعام الحاليّ 2024، فإن معدل الارتفاع في سعر الكهرباء للمستهلك وصل في الشريحة الأولى (من صفر إلى 50 كيلووات) لمحدودي الدخل من 5 قروش إلى 58 قرشًا، أي أكثر من 1100%.
– المثير للجدل أن الشركة القابضة للكهرباء رغم رفعها لأسعار الكهرباء 13 مرة، وتقترب من المرة الـ14 بداية يوليو/تموز القادم، فإن ديونها بلغت نحو 378 مليار جنيه في يونيو/حزيران 2023، بعدما سددت أقساط وفوائد قروض محطات التوليد، بلغت 61 مليار جنيه، الأمر الذي يدفعها دومًا للبحث عن المواطن لسد هذا العجز، إما في صورة رفع جديد لأسعار الكهرباء أو فرض ضرائب ورسوم غير معروفة وقد لا يشعر بها الكثيرون في خضم زحمة الأعباء المفروضة على الشعب.
– ورغم تحمل المصريين تلك الكلفة العالية للكهرباء بأسعارها العالمية، صفرية الدعم، فإن ذلك لم يشفع لهم لدى السلطة الحاكمة في أن يتمتعوا بتوافر هذا المرفق على مدار اليوم، ليضطروا قهرًا تحمل فاتورة فشل السياسات وغياب التخطيط والتخبط العشوائي في إدارة هذا الملف الحيوي، وذلك من خلال انقطاع التيار بالساعات في هذا الجو الحارق وإصابة حياة الناس بالشلل التام طيلة هذه المدة التي تتجاوز في بعض المناطق 9 ساعات يوميًا.
سردية المؤامرة وقلق الاحتقان
“أحد الحقول في دول الجوار المرتبطة التي تضخ كميات كبيرة داخل الشبكة المصرية خرج من الخدمة، وحدث فيه عطل فني، فتوقف لأكثر من 12 ساعة، وبالتالي حجم الغاز الذي كان يضخ للشبكة ويصل إلينا ونستخدمه في احتياجاتنا اليومية توقف تمامًا طوال هذه المدة”.. بهذه الكلمات حاول رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي تبرير زيادة ساعات انقطاع التيار الكهربائي خلال الآونة الأخيرة، وإن لم يشر إلى هوية تلك الدولة المجاورة لكن الكل على يقين بأن المقصود هو دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تستورد مصر منها الغاز طيلة السنوات الماضية.
– الإعلام المقرب من النظام ولجانه الإلكترونية تلقفوا هذه الكلمات لاختلاق سردية بطولية جديدة تحاول إلقاء الكرة في ملعب “المؤامرة” الإقليمية على مصر من أجل الضغط عليها بسبب موقفها من الحرب في غزة ورفض مخططات التهجير الإسرائيلية لسكان القطاع إلى سيناء والأراضي المصرية.
– تقوم تلك السردية على الإشارة إلى أن هناك ضغوط قوية تمارسها “إسرائيل” والولايات المتحدة على قبرص واليونان لمنع تصدير الغاز إلى مصر بغرض إسالته، ما أثر على كميات الغاز التي تعتمد عليها الدولة المصرية في توليد الكهرباء وهو ما أدى إلى الانقطاع المتكرر للتيار، لافتين إلى أن السيسي نجح في التصدي لتلك المخططات وعدم الرضوخ للضغوط الممارسة عليه.
– في المقابل يبدو أن هناك قناعة تامة لدى المقربين من النظام بأن مثل تلك السرديات لن تجني ثمارها مع المواطن الذي يتجرع مرارة الألم منذ سنوات، وهو ما دفع بعضهم للتنفيس نسبيًا عن الشارع من خلال توجيه الانتقاد للحكومة وتحميلها مسؤولية ما وصل إليه الوضع وما يمكن أن يترتب عليه من زيادة في معدلات الاحتقان التي يبدو أنها تقلق النظام بشكل كبير هذه المرة.
– الإعلامي والبرلماني المقرب من النظام، مصطفى بكري، وجه في تغريدة له حزمة من التساؤلات لرئيس الحكومة بشأن تداعيات هذا التخبط على أمن واستقرار الدولة، قائلًا له: “هل تعلم أن أزمة الكهرباء سببت عدم ثقه من الشارع في أداء الحكومة ومصداقيتها؟ هل تعلم أن إدارة الحكومة لهذه الأزمة وغيرها من الأزمات تميز بالعشوائية وتسبب في غياب الأمل في أي إصلاح ؟وهل تعلم أن هذه الإدارة التي تستهين بالمصريين ورد فعلهم يمكن أن تمثل خطرًا علي سلامة النظام في البلاد؟” مختتمًا تغريده قائلًا: “ما يحدث ليس في صالح النظام، وليس في صالح الدولة، وإذا كنتم تظنون أن هذا الشعب العظيم سيبقي صامتًا وقابلًا، فهذا غير صحيح”
وهكذا فشل النظام الحاليّ في أن يجعل مصر مركزًا إقليميًا لتصدير الكهرباء، كما كان يَعِد، وفشل كذلك في توفير هذا المرفق للمواطنين رغم تحملهم كلفته العالية بأسعاره العالمية، كما وعدهم، ليدفع الشعب كالعادة ثمن الفشل المتكرر وغياب دراسات الجدوى وفقه الأولويات وفرض سياسة الأمر المباشر التي أوقعت الدولة في كوارث من الصعب تجاوزها في الوقت القريب.