يحمل كبار السن أو المسنون على أكتافهم مسؤوليات تفوق سنهم، ليس أقلها تقاليد وثقافة المجتمع، وحتى قيادة مجتمعات ودول، وينقل هؤلاء المعرفة إلى الأجيال القادمة، ومع ذلك إنهم أيضًا معرضون للخطر بشدة أكثر من أي فئة أخرى في المجتمع، حيث يقع العديد منهم في براثن الفقر، ويواجهون مشاكل صحية أو تمييزًا أو إساءة المعاملة أو إهمالًا، ما يؤثر سلبًا عليهم.
ربما دعا ذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل 23 عامًا، وتحديدًا في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1990، إلى
تبنّي يوم الأول من أكتوبر/ تشرين الأول كيوم عالمي لكبار السن، في محاولة لإلقاء الضوء على فئة عمرية تشيخ وتعتبر حياتها قد انتهت، ولم تعد تستحق العيش، وبالتالي يفكر بعضهم في الموت الذي اختاره بإرادته المنقوصة.
أرقام متسارعة.. الجانب المظلم في حياة المسنين
وفقًا لمنظمة الصحة العالمية، فإن الوصول إلى الشيخوخة أو التقدم في السن
يحدث نتيجة التغيرات البيولوجية التي تطرأ على الخلايا مع مرور الزمن، وتؤدي إلى تراجع تدريجي في القدرات البدنية والعقلية، وتزيد احتمالية الإصابة بالأمراض والوفاة في النهاية، وغالبًا ما يرتبط التقدم في السن بأحداث أخرى تطرأ في الحياة مثل التقاعد والانتقال إلى مسكن أنسب ووفاة الأصدقاء والشريك.
مع ذلك، لا يجتمع كبار السن على صفات موحّدة، فبعضهم البالغ 80 سنة يتمتع بقدرات بدنية وعقلية مماثلة لأشخاص في الثلاثينات من عمرهم، في حين يعاني آخرون من تراجع القدرات في أعمار أصغر بكثير، هذا التنوع الواسع عند كبار السن واحتياجاتهم كثيرًا ما تتجاهله الاستجابة الشاملة في مجال الصحة العامة.
يرتبط التقدم في السن عمومًا بالعديد من المشاكل الصحية الشائعة، مثل فقدان السمع وضعف البصر وآلام العظام والمفاصل والسكري والاكتئاب والخرف، ومن المرجّح أن يواجه الأشخاص مع تقدم في السن عدة مشاكل صحية في وقت واحد.
يزيد إهمال استجابات الحكومة باستمرار للاحتياجات والمخاطر المحددة التي يواجهها كبار السن خلال فترة انتشار الوباء من خطر تعرضهم للإساءة والإهمال.
تشير الباحثة إلس فان فينغاردن في
دراسة بعنوان “الاستعداد للتخلي عن الحياة“، إلى أنه غالبًا ما يعاني الأشخاص المسنون بشدة من كومة من الظروف المختلفة، مثل اعتلال الصحة والخسائر المرتبطة بالعمر والثكل والشعور بالوحدة والصدمات والتبعية، ووجود وضع اجتماعي منخفض مرتبط بالتقاعد، والوضع الاقتصادي السيّئ بسبب المعاش التقاعدي المحدود والافتقار إلى المشاريع الهادفة المتاحة، وعدم اليقين بشأن مدى كفاية خدمات الرعاية الاجتماعية وترتيبات الرعاية، وتؤدي هذه الظروف المختلفة إلى أبعاد مختلفة ومتشابكة في كثير من الأحيان للمعاناة.
من المتوقع أن تزيد هذه التحديات في السنوات القادمة مع زيادة نسبة كبار السن، أو ما يعرف بشيخوخة السكان، التي يمثلونها في تركيبة السكان، فبحسب منظمة الأمم المتحدة ستكون شيخوخة السكان أهم تحول اجتماعي في القرن الحادي والعشرين، حيث يعيش الأفراد اليوم أعمارًا أطول ممّا سبق، ويمكن أن يتوقع الكثيرون أن يعيشوا حتى سن الـ60 أو أكثر.
تتوقع المنظمة أيضًا أن
يبلغ عمر واحد من كل 6 أشخاص في جميع أنحاء العالم 60 عامًا أو أكثر بحلول عام 2030، إذ سينمو عدد كبار السن من مليار نسمة عندما تجاوز عددهم عدد الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 5 سنوات في عام 2020 إلى 1.4 مليار نسمة، أي بنسبة زيادة 34%.
على مدى العقود الثلاثة المقبلة، من المتوقع أن تشهد جميع المناطق زيادة في نسبة كبار السن، ويتضاعف عدد هذه الفئة العمرية ليصل إلى 2.1 مليار نسمة بحلول عام 2050 (من 12% إلى 22%)، ووفق وتيرة الزيادة الحالية
ستصل النسبة إلى ثلث سكان العالم (حوالي 3 مليار نسمة) بحلول عام 2150، كما سيتضاعف عدد الأشخاص البالغين 80 سنة فأكثر 3 أضعاف بين عامَي 2020 و2050، ليصل إلى 426 مليون نسمة.
تحدث هذه الزيادة بوتيرة غير مسبوقة وسوف تتسارع في العقود المقبلة، ويتوقع أن
تشهد منطقة شرق وجنوب شرق آسيا الجزء الأعظم من هذا التحول، بزيادة عدد كبار السن (من 261 مليونًا في عام 2019 إلى 573 مليونًا في عام 2050)، ويتوقع أن تكون أسرع زيادة في شمال أفريقيا وغرب آسيا (من 29 مليونًا إلى 96 مليونًا في عام 2050)، وثاني أسرع زيادة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (من 32 مليونًا إلى 101 مليون في عام 2050).
من المتوقع أن يكون النمو في عدد السكان المسنين أسرع في الاقتصادات النامية، وستكون البلدان النامية موطنًا لأكثر من ثلثي سكان العالم المسنين (1.1 مليار) في عام 2050، ومع ذلك من المتوقع أن تحدث أسرع زيادة في أقل البلدان نموًّا، ويمكن أن يرتفع عدد المسنين من 37 مليونًا في عام 2019 إلى 120 مليونًا في عام 2050 (زيادة بنسبة 225%).
يترتب عن هذه التوقعات عدم القدرة على تلبية الاحتياجات لقلة الموارد والتخطيط، وذلك يقود إلى ضرورة التحرك ووضع السياسات لتحسين أوضاع هذه الفئة والاستفادة من قدراتها في عالم يشيخ أكثر فأكثر، وهو ما دعا الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى
إعلان فترة 2021-2030 “عقدًا للشيخوخة” للنهوض بالصحة مع التقدم في السن، والحد من أوجُه عدم المساواة في الصحة، ووقف التحيز ضد التقدم في السن، وتحسين حياة كبار السن وأسرهم ومجتمعاتهم المحلية، وإتاحة رعاية جيدة طويلة الأجل لمن يحتاجونها من كبار السن.
المعاناة في صمت
يتمكن العديد من كبار السن من إيجاد معنى للحياة، حتى في سن الشيخوخة المتقدمة، ومع ذلك هناك الكثير منهم يشعرون أن الحياة لم تعد تستحق العيش، فهم يعانون من عواقب الشيخوخة، والتي تختزَل في مشاعر الوحدة والعزلة الاجتماعية والإهمال والمخاوف المتزايدة من التراجع والتبعية.
في الكثير من الدول الأوروبية مثل سويسرا وهولندا وبلجيكا وبعض الولايات الأمريكية، يتم تقييم الحالات الصحية المعقدة التي يطلق عليها “متلازمات التقدم في السن“، والتي غالبًا ما تحدث نتيجة لعدة عوامل كامنة تشمل الوهن وسلس البول والهذيان وقرحة الضغط، على أنها “معاناة لا تطاق وغير قابلة للشفاء“، وفي مثل هذه الحالات قد يكون الأشخاص المعنيون مؤهّلين للقتل الرحيم أو الانتحار بمساعدة الطبيب، وتلك أفعال قنّنتها بعض الدول لإنهاء حياة أولئك الذين يعانون منذ فترة طويلة من أمراض مستعصية أو متاعب صحية دائمة لا تطاق.
وبالنسبة إلى هؤلاء الذين أُجبروا على الحياة، فإن أحد أهم وأخطر مشكلات الصحة العامة وأكثرها انتشارًا التي يواجهونها تتمثل في إساءة معاملة كبار السن، التي يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة تتعلق بالصحة البدنية والنفسية، ووفقًا للتقديرات تعرّض شخص واحد من كل 6 أشخاص يبلغون 60 عامًا أو أكبر لشكل من أشكال سوء المعاملة في البيئات المجتمعية خلال عام 2021.
ورغم وجود هذه المشكلة في كل من البلدان النامية والمتقدمة،
لا يتم الإبلاغ عنها على مستوى العالم، وتقول منظمة الصحة العالمية إن العالم يفتقر إلى المعلومات بشأن حجم الانتهاكات بحق المسنين، خصوصًا في البلدان النامية، وتعيقُ محدوديةُ البيانات الخاصة بحجم المشكلة في مؤسسات ترتفع فيها معدلات الإساءات مثل المستشفيات ودور الرعاية الطويلة الأجل، الوصولَ إلى تقديرات أكثر دقة لمعدلات الانتشار الخاصة بنسبة تضرر كبار السن من مختلف أنواع الإساءة.
يعاني كبار السن في صمت لأنهم لا يعرفون كيفية الإبلاغ عن الحوادث أو حتى الإسرار بها، وقد يخشون الانتقام من قبل المعتدي عليهم أو الوصمة إذا طلبوا المساعدة.
ورغم اتّساع فجوة البيانات المتعلقة بكبار السن، تشير
دراسات أجريت مؤخرًا في البيئات المؤسسية إلى أن 2 من كل 3 موظفين (64.2%) أبلغوا عن ارتكابهم شكلًا من أشكال إساءة المعاملة في العام الماضي، ويتوقع أن تزداد احتمالات سوء المعاملة المرتبطة بالمسنين مع الزيادة السريعة في أعداد السكان الشائخين، وتسارع وتيرة تقدم السكان في السن في الكثير من البلدان حول العالم، ويتوقع أن يرتفع عدد ضحايا إساءة معاملة كبار السن إلى نحو 320 مليون ضحية بحلول عام 2050، وفق تقديرات منظمة الصحة العالمية.
وكشف
تقرير نشرته منظمة HelpAge في يونيو/ حزيران 2020، أن فيروس كورونا أدّى إلى زيادة خطر العنف والإهمال الذي يتعرض له كبار السن في جميع أنحاء العالم، والذي كان في ارتفاع بالفعل، وبحسب التقرير زادت الإساءات التي يتعرض لها كبار السن، مثل الإيذاء الجسدي والمالي والنفسي واللفظي والجنسي فضلًا عن الإهمال، بشكل حاد في العديد من البلدان كنتيجة مباشرة للوباء.
ويكشف التقرير أنه رغم أن كبار السن من الفئات الأكثر عرضة لخطر الإصابة بأمراض خطيرة والوفاة بسبب الوفاء، والأكثر تأثرًا بالضغوط الاقتصادية والاجتماعية -مثل فقدان الدخل والتباعد الجسدي وتدابير العزل- التي تسبّبت فيها الجائحة، إلا أنهم ظلوا غير مرئيين وأُهملوا بشكل مؤسف في جهود الاستجابة والتعافي.
وتشمل الفئات الأكثر عرضة للخطر النساء الأكبر سنًّا، اللواتي كنّ بالفعل محرومات اجتماعيًّا واقتصاديًّا قبل الوباء، والأشخاص ذوي الإعاقة وذوي الاحتياجات الداعمة، لكن في كثير من الأحيان يعاني كبار السن في صمت لأنهم لا يعرفون كيفية الإبلاغ عن الحوادث أو حتى الإسرار بها، وقد يخشون الانتقام من قبل المعتدي عليهم أو الوصمة إذا طلبوا المساعدة، وفي بعض الأحيان لا يعترفون بذلك باعتباره إساءة.
لا يقتصر الأمر على ذلك، بل يزيد إهمال استجابات الحكومة باستمرار للاحتياجات والمخاطر المحددة التي يواجهها كبار السن خلال فترة انتشار الوباء من خطر تعرضهم للإساءة والإهمال، في حين لا تعترف بعض الجهات المسؤولة بوجود الإساءات، وتفتقر إلى قوانين يمكن استخدامها لملاحقة الجناة قضائيًّا.
كشف فيروس كورونا عن عدم كفاية وفشل الأنظمة على مختلف المستويات في تلبية احتياجات كبار السن وحقوقهم ودعم قدرتهم على الصمود، وبعد مرور أكثر من 3 أعوام على هذه الجائحة، لا يزال كبار السن في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل
يعانون التمييز والتهميش.
دعت هذه الإساءات المتزايدة الأمم المتحدة في عام 2012 إلى
استحداث يوم عالمي للتوعية بشأن إساءة معاملة المسنين في 15 يونيو/ حزيران من كل عام، للتشديد على ضرورة تحسين نوعية حياة هذه الفئة والحفاظ على قدراتها،
وأصدرت منظمة الصحة العالمية وشركاؤها دليل “التصدي لإساءة معاملة كبار السن“، ومع ذلك ما زال لا يعرف الكثير بعد عن إساءة معاملة كبار السن وكيفية الوقاية منها على الصعيد العالمي، خاصة في البلدان النامية.