منذ القرن الـ 19 وحتى اليوم، تشابهت الصور النمطية والمخاوف التي تثيرها شخصية المهاجر بين عموم الفرنسيين، حيث تحولت نظرتهم للمهاجر من العامل المرحب به إلى الغريب الذي يهدد الهوية والقيم الفرنسية، إذ لم تكن سلبيات الهجرة محط الاهتمام الفرنسي في السنوات السابقة للحربَين العالميتَين، لأن الحكومات آنذاك كانت في أمسّ الحاجة إلى عمال المصانع والمناجم، من أجل إعادة بناء البلد، غير أن النظرة الاستعلائية تجاه “الآخر” غلبت على طبع الشخصية الفرنسية.
الهجرات الكبرى والتحيُّز ضد العمّال
في منتصف ستينيات القرن الـ 19، كان هناك أكثر من 650 ألف أجنبي، الغالبية العظمى منهم عمّال يمثلون 1.7% من إجمالي السكان، ثم زادت الحاجة إلى العمالة الصناعية والزراعية خلال العقود الأولى من الجمهورية الثالثة (1870-1940)، حيث تم الوصول إلى عتبة المليون أجنبي في تعداد عام 1881، وعشية الحرب العالمية الأولى كان عدد الأجانب ما يزيد قليلًا عن 1.15 مليون أجنبي، أي 2.86% من إجمالي السكان.
في جميع البلدان، أدّت العلاقة مع الآخر إلى بروز تصورات معقدة، حيث تتشكّل العقليات على طريقة الفصل بين “هم” و”نحن”، ووفقًا للمؤرخ الفرنسي لوران دورنيل لم تفلت فرنسا من هذا الطبع، خاصة منذ أن تحولت بإرادتها في وقت مبكّر إلى أرض للهجرة.
وليس المهاجر هو ذلك المسافر الذي يصل اليوم ويغادر في اليوم التالي، بل هو ذلك الشخص الذي يصل اليوم ويستقر غدًا جنبًا إلى جنب مع الموطن الأصلي، ويرغب في الاندماج في المجتمع الجديد، لكن المواطن الفرنسي دائمًا ما كان يصف ذلك الغريب غير العابر بنعوت شتى، مثل “البربري” أو “ميتك” أو “ريتال” أو “البيكوت”، أما الآن فيطلق عليه اسم “غير الموثوق” أو “محتال اللجوء” أو “حثالة الضواحي”.
منذ السنوات الأولى من الجمهورية الفرنسية الثالثة، تمَّ تحديد شخصية الأجنبي على أنه عامل، وعلى النقيض كان ينظر إلى الأجنبي المتشرد على أنه عدو للمجتمع، بل حتى إلى حدود ثمانينيات القرن الـ 19 لم تكن الطبقة البرجوازية تنظر بكراهية إلى الأجنبي.
غير أن التدفق الهائل للمهاجرين في المدن الكبرى، مقابل صعود الوعي القومي، دفع العديد من الصحفيين والاقتصاديين وفقهاء القانون وعلماء الديموغرافيا والإحصاء إلى النظر في قضية الأجانب على أنهم يغزون كل مكان من فرنسا، وتمَّ وصمهم بأنهم مجرمون محتملون ويشكّلون خطرًا اقتصاديًّا ووطنيًّا وأخلاقيًّا.
ونتيجة لذلك، كان العمّال المولودون خارج حدود فرنسا يعتبَرون “مفسدين للهوية والثقافة الفرنسية”، من واقع أنهم متعلقون بجذورهم، حيث أصبحوا ضحايا لنظرات قلقة وساخرة ومتعالية وكذلك متعادية تجاههم، لأنهم لا يتوفرون على صفات المواطن المولود في فرنسا، وهكذا تشابهت قصص المهاجرين الذين عانوا من التمييز ضد العمال، خصوصًا أولئك الذين سكنوا في الضواحي.
وغالبًا ما اتُّهم الإيطاليون الذين توافدوا بدءًا من عام 1880، والبولنديون في عام 1930، والجزائريون في عام 1960، والماليون في عام 2020، بأنهم يشكّلون تهديدًا للتماسُك الاجتماعي، أو المنافسة في سوق العمل، أو حتى يشكّلون خطرًا على الوطن.
المهاجرون ضحايا الأزمات الفرنسية
شكّلت الأزمات الفرنسية عاملًا معارضًا أمام اندماج المهاجر في المجتمع الفرنسي، الذي كان بشكل من الأشكال يعيش انقسامًا واضحًا بين سكان الجنوب وسكان الشمال، وسكان الأرياف وسكان المدن، علاوة على طبقية البرجوازية والعمّال والفلاحين.
بناء على ذلك، يستنتج المؤرخ الفرنسي كريستوف شارل أن التجزُّؤ جغرافي لكنه اجتماعي أيضًا، انتهى هذا التجزؤ إلى العديد من الانقسامات التي كانت عنيفة وباسم رفض الآخر، بحيث تضع فئات أو مجموعات من الشعب الفرنسي ضد بعضها، وهذا أيضًا هو تأثير “سياسة الإقصاء المنهجية التي يطبّقها الأعيان والبرجوازية فيما يتعلق بالطبقات العاملة”، ما أدّى إلى “مراقبة أو تجريم جميع أنشطة الطبقة العاملة ذات البُعد الاجتماعي”.
وصف المؤرخ لويس شوفالييه، في النصف الأول من القرن الـ 19، هذا التجريم للشعب الباريسي بإسهاب، ما أدّى إلى مساواة الطبقات العاملة بالطبقة الخطرة، وكان مهتمًّا بشكل خاص بـ”المقارنة بين البروليتاري والوحشي”.
حدّد شوفالييه في خطابات وتمثلات حول العمال عددًا معيّنًا من التسميات التي ترفضهم وتهمّشهم اجتماعيًّا، وتعتبرهم سياسيًّا ككتلة غير قادرة على التفكير وبالتالي لا تستحق الحقوق المدنية، بل حتى ذهب إلى وصفهم بـ”المتوحشين والحمقى”.
اهتمام مبكّر بـ”مخاطر الهجرة”
أقامت الدوائر المثقفة في فرنسا، منذ نهاية القرن الـ 19، حدودًا تفصلها ليس عن مرور الزائرين الذين تقدم لهم الضيافة، لكن عن الأجانب الذين يرغبون في الاستقرار، حيث روّجت على نطاق واسع تحذيرها من “خطر ثلاثي يشكّله المهاجرون”، فقد أُشيع أنهم يشكّلون خطرًا اقتصاديًّا، بما أنهم يتنافسون مع الفرنسيين في الوظائف ما يؤدي إلى تخفيظ أجورهم، ناهيك عن حقيقة أنهم ينفقون جزءًا صغيرًا من دخلهم، بينما يذهب جزء منه إلى بلدهم الأصلي.
ثانيًا، اعتبرتهم خطرًا قوميًا، حيث اتُّهم المهاجرون بالانخراط في التجسُّس، ومن خلال زواجهم بالفرنسيات يقومون بتغيير هوية المجتمع الفرنسي إلى مجتمع أممي وخلق مواطن عالمي (كوسموبوليتاني)، كما اعتقد الفرنسيون أنه من غير العادل أن يتم استثناء المهاجرين من الخدمة العسكرية، لأنهم يستفيدون من المزايا المقدمة من الدولة مثل المواطنين الأصليين.
وينطوي الخطر المعنوي على أن وجودهم يزعج الهدوء والانسجام الأصلي للمجتمع الفرنسي، لذلك سيكون الأجانب عاملًا من عوامل الانحطاط لفرنسا، حسب الفقيه القانوني جان لومونييه، حيث إنهم يمثلون خطر “تجريد الفرد من القومية وانحطاطه اللاحق”، وأن وجود الأجنبي يزيد من البؤس.
اليوم، يعيش في فرنسا أزيد من 7 ملايين أجنبي، ما يمثل 10% من إجمالي السكان، حيث تطور التنميط العنصري إلى اتهام المهاجرين بتنفيذ مخطط استبدال المجتمع الفرنسي، خاصة الجالية المسلمة التي تشكّل الأقلية الكبرى في البلاد، ولو أن مثل هذه الخطابات يروّج لها اليمين المتطرف على وجه التحديد، إلا أنه بدأ التطبيع بالفعل مع مثل هذه الأفكار أكثر من أي وقت مضى.