لم تكن تتوقع أسماء، البالغة من العمر 30 عامًا، أن يأتي عليها اليوم الذي تقضي فيه العيد بعيدة عن أسرتها في أم درمان بالعاصمة السودانية الخرطوم، فمنذ ولادتها لم تفارق حضن والديها وأخواتها الثلاث في أي مناسبة كانت، خاصة المناسبات الدينية كالأعياد وشهر رمضان تحديدًا، لكن اليوم الوضع تغير بفعل لعنة الحرب التي شنّها الجنرالات المتصارعون على السلطة، ولو كان الثمن تشريد الملايين وتفريق آلاف الأسر، وتفريغ وطن بأكمله من أبنائه وموارده.
“لا أعرف كيف أقضي العيد دون أهلي”، بنبرة تكسوها الحسرة تصف الشابة السودانية، التي تقيم في منطقة الهرم بالجيزة، في حديثها لـ”نون بوست” إحساسها الصعب وهي تقضي أول عيد لها في حياتها بعيدًا عن أهلها، فلم يكن يدور بخلدها يومًا ما أن تفارقهم، وألّا تصلي العيد رفقة والديها، وأن تُحرم من أحضان أخواتها عقب الصلاة وهنّ يهنّئنها بالعيد.
أكثر من 170 ألف سوداني من إجمالي 4 ملايين سوداني مقيمون في مصر، سيقضون عيدهم الأول بعيدًا عن وطنهم الأم، هؤلاء الذين نزحوا إلى جارتهم الشمالية خلال الأسابيع القليلة الماضية، هربًا من صراع أباطرة العسكر الذين حوّلوا البلد إلى معركة مصالح ونفوذ، فيما يدفع الشعب وحده الثمن.
إحساس مؤلم
كان الخروج اضطراريًّا، فالبقاء كان يعني الانتحار أو الاستسلام للموت دون مقاومة، في ظل تجاوز العسكر لكل خطوط الإنسانية الحمراء، وإن كانت مغادرة الوطن والأهل مؤلمة في حدّ ذاتها ألم الموت، وربما أكثر وجعًا، لكن الاختيار هنا كان بين موت جسدي محقق وموت شعوري محتمل.
“في البداية رفضت المغادرة، وآثرت البقاء ولو كان الموت هو الثمن، لكن تحت إلحاح وضغط أبنائي وزوجتي اضطررت للرضوخ في نهاية المطاف، لأحمل أمتعتي وابنتي الصغيرة وزوجتي، لنبدأ رحلة من العذاب، من الخرطوم وصولًا إلى القاهرة، تلك الرحلة التي ستظل عالقة في الأذهان حتى الممات”، هكذا بدأ عثمان (60 عامًا) حديثه، مستعرضًا بعض ملامح الهجرة الإجبارية الاضطرارية.
ويضيف الستيني السوداني: “إحساس صعب أن تغادر بيتك وبه فلذات أكبادك يواجهون وحدهم مصيرهم المحتوم، لقد سمحوا لنا بعبور الحدود المصرية دون تأشيرات بحكم سنّي بجانب زوجتي وابنتي، وفق اتفاقية الحدود مع القاهرة، لكن أبنائي ما كان لهم المغادرة دون الحصول على تأشيرة، وهذا أمر غاية في الصعوبة في الوقت الحالي”.
وتابع: “كنت أمني النفس بحضورهم لمصر قبيل العيد حتى نقضيه معًا، فنخفف عن بعضنا، لكن للأسف لم يحدث ذلك، وها أنا وزوجتي وابنتي نحبس الأنفاس بين الساعة والأخرى قلقًا على أبنائي، خاصة بعدما سمعنا أن قوات الدعم السريع بدأت في سلب البيوت في أم درمان، والذي يعارضها قد تقتله”.
مكملًا: “ومع قدوم العيد تتعاظم الأزمة، أي فرحة تلك التي يمكن أن نشعر بها ونحن لا نعرف شيئًا عن أولادنا؟ ثم كيف يكون العيد عيدًا وهم بعيدون عنا؟ شعور يمزج بين القلق والترقب، الحسرة والألم”، وتابع: “منذ أكثر من أسبوع ودمعات أمهم لم تتوقف، فهي تخشى أن تفقدهم دون أن تراهم”.
أما ميرغني (57 عامًا) فيقول إنها ليست المرة الأولى التي يقضي فيها العيد خارج بلاده، لكن في الغالب تكون أسرته (زوجة وولد وبنت) معه، وهنا لا يشعر بالغربة كثيرًا في العيد طالما بين أفراد عائلته الصغيرة، غير أن هذا العام الوضع مختلف، فلأول مرة سيقضي العيد دونهم، حيث فشلوا في عبور الحدود بعد إقرار الجانب المصري للوائح جديدة خاصة بالمغادرة واستقبال الأجانب، ليتركهم هناك في الخرطوم حيث العيد وحدهم.
ويضيف الخمسيني السوداني الذي يعمل في أحد المحال الرياضية في القاهرة: “قضيت العيد في مصر لأكثر من 7 سنوات، فأنا أقيم هنا منذ 15 عامًا، لكن كل عام تأتي أسرتي لقضاء رمضان والعيدَين معي، غير أن هذا العام انقلب الوضع رأسًا على عقب، حتى أني فكرت في السفر للخرطوم لكن أشقائي هناك حذروني من أني إذا ما سافرت إليهم فربما لا أستطيع العودة إلى القاهرة مرة أخرى، وهنا سأفقد عملي وحياتي كلها”.
أوضاع قاسية.. ولكن
وممّا يزيد من صعوبة إقامة السودانيين في مصر العراقيل التي يواجهونها لإتمام أوراق إقامتهم، حيث المكوث لساعات طويلة أمام المفوضية العليا للاجئين بمدينة 6 أكتوبر بمحافظة الجيزة جنوب القاهرة، من أجل الحصول على صفة “لاجئ” بما يسمح لهم بصرف إعانات شهرية تعينهم على الحياة.
ومنذ التفكير في الخروج من السودان وصولًا إلى الاستقرار في مصر، تكبّد السودانيون العديد من الصعاب، ابتداء بالاستغلال والابتزاز اللذين تعرّضا لهما على أيدي سماسرة وتجار تذاكر السفر وحافلات النقل، حيث قفزت الأسعار أكثر من 10 أضعاف مرة واحدة، الأمر كذلك في الداخل المصري حيث ارتفعت قيمة الإيجارات بنسب جنونية.
“كنا في العالم الماضي نستأجر الوحدة الواحدة بقرابة 3 آلاف جنيه شهريًّا، لكن فوجئنا اليوم بأنها وصلت إلى 13 ألف جنيه وأكثر بكثير في بعض المناطق”، هكذا علقت أم حمدان على ظاهرة الابتزاز العقاري الذي تتعرض له في مصر، لافتة أن تهافت السوادنيين على وحدات سكنية في مناطق معيّنة (الهرم والمهندسين والدقي بالقاهرة) رفع من قيمة الإيجارات بها، مقارنة بغيرها من المناطق الأخرى.
وعن استهداف السودانيين لتلك المناطق تحديدًا ذات الإيجارات المرتفعة، وعدم الذهاب إلى الأقل قيمة، قالت أم حمدان في حديثها لـ”نون بوست” إن تلك المناطق يوجد فيها سودانيون كثر منذ سنوات، ويشعرون فيها بالألفة والأمان، بل أن بعضها ذات أكثرية سودانية مقارنة بالمصريين، وهو ما يضفي عليها الطابع السوداني التقليدي، لذا يكون الإقبال عليها كثيف، ما يدفع أصحاب تلك العقارات إلى رفع قيمة الإيجارات.
هذا بخلاف المنغّصات الأخرى الناجمة عن الازدحام والاحتكاك مع بعض المصريين وأفراد من جنسيات أخرى كاليمنيين والسوريين، فقد تتعرض بعض السودانيات للمضايقات داخل وسائل المواصلات، بجانب التنمُّر من قبل البعض، لكنها حالات فردية في مجملها لا تتناسب والمعاملة الجيدة من قبل عموم المصريين.
وأنهت الأربعينية السودانية حديثها بأنها ستحاول رغم تلك الأوضاع، وابتعادها عن وطنها وأهلها في بلدها، الاستمتاع بالعيد من خلال ممارسة الطقوس السودانية من طعام وزينة واحتفالات، وهي الطقوس التي يحبّها المصريون كثيرًا، ويطالبون بها السودانيين المقيمين في تلك المناطق.
أماني الطويل: مديرة البرنامج الإفريقي في مركزالأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
المهنيون السودانيون لن يجدوا مشكلة في الاندماج في مصر والحصول على عمل والمشكلة تتعلق بالقطاع الهامشي منهم.@mabdulhamidBBC#مصر #السودان #الصراع_السوداني pic.twitter.com/L5VNMOxAcM
— BBC – نقطة حوار (@Nuqtat_Hewar) June 20, 2023
ويتفاخر بعض السودانيين، لا سيما النساء، بقدرتهم على فرض تراثهم وتقاليدهم وطقوسهم في الأعياد على المصريين، لافتين أن الإرث السوداني سريع الانتشار، وأن المصريين يتفاعلون معه بشكل كبير، مرجعين ذلك إلى الامتداد التاريخي والجغرافي والثقافي بين البلدَين، حيث كانت مصر والسودان بلدًا واحدًا قبل التقسيم، مؤكّدين على حرص شريحة كبيرة من المصريين على احتواء أشقائهم من السودانيين، والتعامل معهم كأخوة وأبناء وطن وليس كلاجئين، كما هو الحال في بعض البلدان الأخرى.
ويقدَّر عدد الجالية السودانية في مصر بقرابة 4 ملايين سوداني مقيم بشكل كامل (من بين 9 ملايين ينتمون لـ 60 دولة وفق المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة)، من بينهم 110 آلاف و696 سودانيًّا لاجئًا وطالب لجوء مسجّلًا بالمفوضية السامية للاجئين في مصر، منهم 37% يعملون في وظائف ثابتة وشركات مستقرة، مع توقع زيادة تلك الأعداد مؤخرًا وخلال الفترات القادمة، بسبب استمرار عملية النزوح هربًا من الحرب التي لا يعرف أحد متى ستُسدَل ستائرها.