يحيا حزب “الوفد” المصري، أحد أعرق الأحزاب في تاريخ الدولة المصرية، حالة من التخبط في أعقاب الفوضى الناجمة عن إعلان رئيسه عبد السند يمامة نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقرر لها العام القادم، وهو الخطوة التي أثارت استياء قطاع كبير من شباب الحزب الرافض لرئيسه أن يخوض تلك التجربة.
الرفض هنا يأتي بعد التصريحات العلنية التي أدلى بها يمامة وأكد خلالها أنه داعم بشكل قوي للرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي، الذي يفترض أنه منافسه الأقوى، بل طالب بأن يوضع اسمه إلى جانب كبار زعماء مصر مثل محمد علي باشا وأخرين، وهي التصريحات التي شككت في جدية ترشحه، وأنه سيعيد تجربة رئيس حزب الغد موسى مصطفى موسى، خلال انتخابات 2018، حين أدى دور “الكومبارس” لتمرير العملية الانتخابية بشكل دستوري.
المأزق الذي وُضع فيه الحزب جراء موقف يمامة دفع عضو الهيئة العليا فؤاد بدراوي لإعلان نيته خوض الانتخابات، حفظًا لماء الوجه، وهو ما أحدث حالة من الانقسام والخلافات بين جنبات الوفد، ما زاد من تشويه صورة الحزب الذي يواصل نزيف نقاط رصيده السياسي والشعبي يومًا تلو الآخر.
بعد حصوله على موافقة 53 عضوًا من أعضاء الهيئة البرلمانية للحزب من إجمالي 60 عضوًا لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة.. رئيس #حزب_الوفد “عبد السند يمامة”: كلنا مع الرئيس #السيسي#مزيد pic.twitter.com/0Nagdy9s6E
— مزيد – Mazid (@MazidNews) June 13, 2023
بداية وطنية مشرفة
كانت نشأة الحزب نشأة وطنية بامتياز رغم قيامه على أسس علمانية ليبرالية تتعارض بشكل واضح مع المزاج الشعبي المصري في ذلك الوقت الذي كان يميل إلى التدين نسبيًا، غير أن ظروف تدشينه اتسمت بمقاومة الاستعمار والمطالبة بالاستقلال وهو ما زاد من شعبيته والتفاف الناس حوله.
في عام 2018 دعا السياسي المصري المخضرم سعد زغلول عددًا من أصحابه في أحد مساجد القاهرة، لبحث مطالب استقلال مصر عن بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وكان من بين الحضور عبد العزيز فهمي وعلي شعراوي وأحمد لطفي السيد ومكرم عبيد وإسماعيل باشا كوكب وآخرين.
اتفق المشاركون في هذا الاجتماع على تدشين وفد ممثلًا عن الشعب المصري للذهاب إلى لندن لعرض مطلب الاستقلال على الحكومة البريطانية هناك، حيث فوضوا سعد زغلول بقيادة هذا الوفد، وجاء في صيغة البيان الموقع من الحضور “نحن الموقعين على هذا قد أنبنا عنا حضرات: سعد زغلول و… في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلًا في استقلال مصر تطبيقًا لمبادئ الحرية والعدل التي تنشر رايتها دولة بريطانيا العظمى”.
وفي تمام الساعة الـ11 صباح يوم الأربعاء 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1918 قابل سعد زغلول وعبد العزيز فهمي بك وعلي شعراوي باشا المندوب السامي البريطاني في مصر، السير ونجت، لمناقشة فكرة السفر إلى لندن وعرض مقترح الاستقلال، وبعد مناوشات وسجال دار لعدة ساعات، قال لهم المندوب البريطاني إنهم لا يمثلون الشعب المصري، وأن فكرة الاستقلال المطروحة خلال اللقاء لا تعدو كونها “نخبوية” لا تمثل جموع المصريين.
وبعد خروج الوفد المصري بساعة واحدة من قصر المندوب السامي البريطاني تم الاتفاق على وضع مسودة لتأسيس هيئة شعبية تتحدث باسم المصريين، وبدأوا في اتخاذ الإجراءات القانونية لذلك، فيما اختير سعد زغلول رئيسًا للوفد المصري، وهو ما أغضب المستعمر البريطاني والحكومة الموالية، ما دفعهم لاعتقال زغلول ونفيه مع بعض رفاقه إلى جزيرة مالطا في 8 مارس/آذار 1919، لتنفجر معها ثورة 1919 الشهيرة التي كانت سببًا رئيسيًا في تدشين حزب الوفد رسميًا بعد ذلك.
احتكار للمشهد السياسي
كانت شعبية الوفد في ذلك الوقت جارفة، وهو ما أهله لأن يكون حزب الأغلبية مع أول انتخابات تشريعية حقيقية تشهدها البلاد عام 1924 حين حصل على 188 مقعدًا من إجمالي 215 مقعدًا، وذلك بعد منافسة مع حزبي “الأحرار الدستوريين” و”الحزب الوطني” الذي تأسس على أيدي مصطفى كامل ومحمد فريد.
تولى سعد زعلول رئاسة الحكومة وقتها بحكم أنه رئيس الحزب الفائز بالأغلبية، لكنه لم يستمر طويلًا، إذ تقدم باستقالته بعد عدة أشهر إثر محاولات الملك فؤاد ومن خلفه الإنجليز عرقلة الحكومة وإفشالها، لتستمر محاولات تشويه الحزب شعبيًا وهو ما حقق أهدافه بالفعل، ففي الانتخابات التشريعية عام 1925 تراجعت حصة الوفد إلى 86 مقعدًا لكنه ظل يحتفظ بالأغلبية البرلمانية، لترتفع في العام التالي إلى 150 مقعدًا ثم 198 خلال انتخابات 1929، لتتراجع نسبيًا إلى 169 مقعدًا خلال انتخابات عام 1936، وصولًا إلى قمتها في انتخابات 1942 حين حصد الحزب على 240 مقعدًا من إجمالي 264 وكان حينها تحت زعامة مصطفى النحاس.
ومنذ عام 1924 إلى 1942 ظل الوفد محتكرًا للأغلبية البرلمانية، حتى عام 1945 حين تراجعت حصته إلى 29 مقعدًا محتلًا المركز الثالث في قائمة الأحزاب الأكثر حصدًا للمقاعد، وذلك قبل أن يعود للصدارة مرة أخرى عام 1950 حين حصل على 225 مقعدًا من إجمالي 319 مقعدًا.
لعنة الانقسامات
احتكر الوفد المشهد الانتخابي طيلة أكثر من ربع قرن تقريبًا، فكان الحزب الجماهيري صاحب الأغلبية الحاشدة، كما تولى تشكيل الحكومة معظم الأوقات خلال الفترة من 1924 حتى عام 1952، إلا أنه رغم هذا الاكتساح تعرض لطعنات غائرة جراء الاختلافات والانقسامات التي دبت في أوصاله.
وشهد الحزب طيلة مسيرته العديد من المعارك الداخلية التي فرغته – في كثير من الأحيان – من قوته ونفوذه، وضربت وحدته في مقتل، من أبرزها تلك التي نشبت بين سكرتير الحزب آنذاك مكرم عبيد باشا، وعضوي الحزب أحمد ماهر باشا وفهمي النقراشي باشا بسبب معاهدة 1936.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه مجددًا، وأن الوفديين لا يتعلمون من أخطاء الماضي، وأن الإصرار على النهج ذاته بدافع الحصول على مكاسب سياسية مؤقتة، تحول إلى نهج عقائدي لدى قادة هذا الكيان الذي أطاح في السابق بحكومات الاستعمار
كان فريق مكرم الذي يدعمه مصطفى النحاس رئيس الحزب وقتها، يميل إلى فكرة الإبقاء على حزب الوفد ككيان مستقل، دون دمجه مع أي أحزاب أخرى، فيما رأى الفريق الآخر الذي يمثله ماهر والنقراشي بضرورة دمج الأحزاب المصرية في مواجهة الإنجليز، وبعد خلاف محتدم بين الفريقين، أصدر النحاس بصفته قرارًا بفصل ماهر والنقراشي من الحزب عام 1938، ما دفعهما لتدشين حزب جديد عرف باسم “الهيئة السعدية” يقوم على نفس مبادئ الوفد القديم.
أما المعركة الثانية فكانت عام 1942 بين الحليفين في المعركة الأولى، النحاس ومكرم، وانتهت إلى فصل مكرم من الحزب، وعلى نفس الدرب، دشن حزبًا سياسيًا جديدًا تحت مسمى “حزب الكتلة الوفدية”، وبذلك أصبح للوفد ثلاثة أحزاب قائمة على نفس المبادئ ومشكلة من نفس القيادات، وظلت تعمل تلك الكيانات حتى يناير/كانون الثاني عام 1953 حين أصدر مجلس قيادة ثورة يوليو/تموز عام 1952 قرارًا بحل الأحزاب السياسية جمعيها، ليدخل الوفد وفروعه مرحلة بيات شتوي قهرًا استمرت أكثر من 25 عامًا.
حزب الوفد الجديد
لم يُسمح للأحزاب بالعودة للحياة السياسية مرة أخرى إلا في أعقاب اتفاقية كامب ديفيد الموقعة مع دولة الاحتلال، حيث سمح الرئيس المصري محمد أنور السادات بعودة التعددية الحزبية مرة أخرى، مشكلًا حزب “مصر العربي الاشتراكي” بزعامته، ليكون هو الحزب الحاكم في ذلك الوقت.
وتم تشكيل بعض الأحزاب وقتها مثل حزب “الأحرار” ممثلًا عن التيار الليبرالي، وحزب “التجمع الوطني التقدمي الوحدوي” نيابة عن التوجه اليساري، ثم “الحزب الوطني التقدمي” الذي شكله السادات لاحقًا وانضم إليه معظم أعضاء حزبه الاشتراكي القديم.
وفي عام 1978 تقدم السياسي فؤاد سراج الدين بطلب السماح لحزب الوفد بالعودة مرة أخرى وممارسة نشاطه الحزبي والسياسي، وهو ما أثار حفيظة السادات وبعض النخب السياسية في مصر، حيث كانت تنظر للوفد على أنه وريث الملكية والحزب الحاكم خلال العهد البائد ما قبل حركة الضباط الأحرار عام 1952.
وبعد معركة ضارية بين قادة الوفد والحكومة حصل الحزب على موافقة لجنة الأحزاب بالبرلمان بتأسيسه مرة أخرى، تحت مسماه الحاليّ “حزب الوفد الجديد” وكان ذلك في 4 فبراير/شباط 1978، لكنها العودة المأزومة، حيث واجه الحزب حملات ممنهجة من الجهات الأمنية والرسمية، أبرزها اعتقال زعيمه فؤاد سراج الدين، ضمن قرارات سبتمبر/أيلول 1981، التي اعتقل على إثرها عشرات السياسيين في مصر، ما دفع قادته لتجميد نشاطه بشكل طوعي.
وبعد اغتيال السادات في أكتوبر/تشرين الأول 1981 وتولي حسني مبارك السلطة، الذي أطلق سراح كل معتقلي سبتمبر/أيلول الأسود، أعلن سراج الدين – بعد الإفراج عنه – عودة الوفد للعمل السياسي بشكل علني مرة أخرى، مختصمًا الدولة في قرار عدم جواز عودة الحزب لنشاطه إثر تجميده، وبالفعل حكمت هيئة قضايا الدولة بشرعية الحزب وقانونية إعادة ممارساته السياسية مرة أخرى عام 1984.
وحتى عام 2000 كان الوفد اللاعب الأبرز على الساحة السياسية، والند الأكثر خطورة على الحزب الوطني الحاكم، حتى توفي سراج الدين، لينتخب من بعده نعمان جمعة الذي تولى الزعامة حتى 2006، ليدخل هذا الكيان السياسي في خضم النزاعات والخلافات والانقسامات إلى جبهات عدة، تلك التي قضت على ما تبقى من تاريخه.
السقوط المدوي
مع رحيل آخر عظماء الوفد، سراج الدين، تعرض هذا الكيان التاريخي لهزات عنيفة، أضعفته وسلبته قوته المعتادة، ما تسبب في تشويه صورته بقوة، لدى أعضائه والشارع المصري، على حد سواء، وتحول من حزب له ثقل وتاريخ طويل في مناهضة الاستعمار والزود عن أهداف الشعب الوطنية إلى حزب كرتوني لا حضور له على الأرض.
ومن أبرز السقطات التي تعرض لها الوفد تخليه عن أيديولوجيته التي كانت تميزه، وقام على أجلها، واستمد شعبيته من خلالها، وذلك حين تحالف انتخابيًا مع جماعة الإخوان في ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي اعتبره البعض السقطة الأبرز في مسيرته الحديثة، إذ تحول من حزب هيكلي المبدأ (علماني ليبرالي) إلى برغماتي بحت، ناشدًا الحضور البرلماني عبر جسور الإسلاميين رغم تعارضه الفكري معهم.
ثم جاءت انتخابات الرئاسة عام 2005 التي شارك فيها رئيس الحزب وقتها نعمان جمعة لتفضح الشعبية الضئيلة لهذا الكيان التاريخي، إذ حل ثالثًا بعد رئيس حزب الغد المشكل حديثا وقتها، أيمن نور، وبعيدًا عن الاتهامات التي وجهت للوفد وقتها بأن مشاركته كانت لتمرير العملية الانتخابية لصالح مبارك وتفتيت أصوات المعارضة، إلا أن فشله في الحصول على المركز الثاني – ولو كان صوريًا – كانت بمثابة فضيحة مدوية للحزب.
يتخوف شباب الوفد من أن يكون يمامة امتدادًا لنموذج الصباحي 2005 وموسى مصطفى موسى عام 2018، وهو ما دفعهم لإصدار بيان رفضوا فيه خوض رئيس الحزب لتلك الانتخابات
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه مجددًا، وأن الوفديين لا يتعلمون من أخطاء الماضي، وأن الإصرار على النهج ذاته بدافع الحصول على مكاسب سياسية مؤقتة، تحول إلى نهج عقائدي لدى قادة هذا الكيان الذي أطاح في السابق بحكومات الاستعمار وكان يملك من التأثير والحضور أن دفع الشعب بكل أطيافه للخروج في مسيرات حاشدة للهتاف باسم مصر، وذلك قبل أن يتحول إلى حزب كرتوني هش لا يملك حتى التأثير على أعضائه.
اللافت هنا أن الذي كان يترأس اللجنة التشريعية لمجلس النواب (البرلمان) في دورته السابقة، التي مررت كل مشروعات القوانين والتعديلات الدستورية ومهدت الطريق للسيسي للبقاء في السلطة حتى 2030 هو رئيس حزب الوفد السابق، بهاء الدين أبو شقة، وهي المفارقة التي تكشف أي مرحلة وصل إليها الحزب المصنف على أنه معارض.
ثم جاء إعلان رئيس الحزب عبد السند يمامه نيته الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة مع التأكيد في ذات الإعلان على دعمه الكامل للسيسي، ليعيد للأذهان حادثة رئيس حزب “الأمة” أحمد الصباحي، حين قرر الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2005، مؤكدًا على منح صوته الشخصي لمنافسه مبارك، في واقعة قوبلت بسخرية عارمة وقتها.
يتخوف شباب الوفد من أن يكون يمامة امتدادًا لنموذج الصباحي 2005 وموسى مصطفى موسى عام 2018، وهو ما دفعهم لإصدار بيان رفضوا فيه خوض رئيس الحزب لتلك الانتخابات، هربًا من فخ الاتهام بأداء بدور “المحلل” لعبور السيسي نحو ولاية جديدة، ما دفع عضو الهيئة العليا، فؤاد بدراوي لإعلان ترشحه هو الآخر، فهل ينقذ بدراوي سمعة الوفد قبل فوات الأوان؟