يتواصل الانهيار الاقتصادي في المحافظات الجنوبية الواقعة تحت سيطرة الحكومة الشرعية المدعومة من التحالف السعودي، منذ بدء الحرب في البلاد، في ظل نقص الإيرادات الاقتصادية، فضلًا عن توقف صادرات النفط، عقب استهداف جماعة الحوثيين للموانئ النفطية في محافظات شبوة وحضرموت.
غطى التحالف السعودي الإماراتي العجز الاقتصادي، منذ تدخله في اليمن عام 2015، بودائع ومنح مالية وضعت في البنك المركزي الذي نقل بقرار من الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي من صنعاء إلى عدن عام 2016، لكن تلك الودائع والمنح صرفت في المضاربة بالسوق ودفع المرتبات للموظفين، فضلًا عن تأمين استيراد القمح وبعض المواد الغذائية الأخرى.
ومع دخول المفاوضات السياسية إلى طريق مسدود، انخفض الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي في العاصمة المؤقتة عدن وبات يقترب من النفاد، في ظل عدم وصول الودائع المالية التي أعلنت عنها السعودية والإمارات قبل عام، حسب ما نقلته وكالة رويترز عن مصادر في الحكومة اليمنية.
الحكومة ستواجه ابتداءً من الشهر المقبل أزمة بصرف مرتبات موظفي الدولة بعد توقف تصدير النفط
وأكدت الوكالة “أن الاحتياطي النقدي المتوافر لا يزيد على 200 مليون دولار، لكن مسؤولًا في البنك المركزي ذكر أن المتوافر أقل من ذلك بكثير، لكنه رفض التصريح عنه خشية انهيار سعر الريال في مقابل الدولار الأمريكي”.
وبحسب الوكالة “بلغ عجز الميزانية ذروته عند 82%، في ظل تراجع إيرادات الدولة لأدنى مستوياتها على الإطلاق، في وقت وضعت الحكومة السعودية شروطًا قاسيةً للإفراج عن الودائع المعلنة على مدى أجزاء من العام”.
وبطبيعة الحال فإن الحكومة الشرعية ستواجه ابتداءً من الشهر المقبل أزمة بصرف مرتبات موظفي الدولة بعد توقف تصدير النفط، في ظل تفشي الفقر والمجاعة في رقعة واسعة من البلاد، فبحسب الأمم المتحدة فإن 80% من اليمنيين بحاجة إلى شكل من أشكال المساعدة.
يأتي ذلك وسط انهيار الريال اليمني في العاصمة المؤقتة عدن جنوب اليمن، حيث تجاوز 1345، في آخر إحصائية له، يوم السبت 10 يونيو/حزيران، من 1200 ريال بداية الشهر الماضي، بينما يستقر سعر الصرف في العاصمة صنعاء عند حاجز 530 ريالًا للدولار الأمريكي.
لم تنفع استجداءات مجلس القيادة والحكومة اليمنية، للسعودية والإمارات، في حثهما على تقديم المساعدات المالية التي وعدتا بها لدعم مجلس القيادة الرئاسي، فرشاد العليمي رئيس مجلس القيادة كان بزيارة إلى أبو ظبي منذ أيام وأيضًا غادر رئيس الحكومة معين عبد الملك مطلع الشهر الحاليّ مدينة عدن إلى الرياض، في مسعى للبحث عن دعم سعودي وإمارتي عاجل، لكنهما لم يحصلا على شيء حتى الآن.
وفي ظل التخوفات في أوساط اليمنيين من الانهيار الاقتصادي، نتيجة تراجع الاحتياطي النقدي، خرج البنك المركزي بتصريح نقله عن مصدر مسؤول لم يسمه، ينفي صحة الخبر الذي نشرته وكالة رويترز، ووصفه بـ”الشائعات الكاذبة”.
مؤكدًا أن ذلك يأتي في إطار “الحملات المسعورة التي تقف خلفها جهات مشبوهة تستهدف استقرار الأوضاع ومعيشة الناس بالترويح لمعلومات مغلوطة وغير صحيحة عن نفاد الاحتياطيات الخارجية للبنك المركزي اليمني”.
المصدر الذي نقلت الخبر عنه وكالة سبأ الرسمية، أكد أن البنك المركزي لديه من الاحتياطات الخارجية في عدة بنوك عالمية ما يمكنه من القيام بوظائفه وتأمين الاحتياج، مرجعًا انهيار العملة، إلى تعطيل جماعة الحوثيين تصدير النفط الخام، بالإضافة إلى الإيرادات المفقودة منذ اتفاق الهدنة من الرسوم الجمركية والضريبية لسفن الوقود التي تدخل عبر ميناء الحديدة غربي اليمن.
توقف صادرات النفط
يرى الباحث الاقتصادي نجيب العدوفي أن انخفاض الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي اليمني يعود إلى توقف مصادر النقد الأجنبي أبرزها عائدات النفط الغاز، ومنذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي تعرضت موانئ التصدير لقصف من جماعة الحوثي، ما أدى إلى حرمان الحكومة من المصدر الرئيسي للعملة الصعبة، إلى جانب سيطرة الحوثيين على المركز الرئيسي للبنوك وشركات الصرافة، ما يجعل الحكومة في مناطق سيطرتها غير قادرة على الاستفادة من حوالات المغتربين التي تعد مصدرًا مهمًا للنقد الأجنبي.
وأكد لـ”نون بوست”، أن توقف تصدير النفط والغاز أفقد الحكومة أهم مواردها، إلى جانب أن فتح ميناء الحديدة الخاص لسيطرة حكومة صنعاء، أمام السفن النفطية والتجارية قلص عائدات ميناء عدن إلى نحو 50%، فضلًا عن أن ضرائب كبار المكلفين تذهب إلى صنعاء، إلى جانب غياب الحكومة وعدم سيطرتها على مؤسسات الدولة يهدر الكثير من الموارد، وكما هي الموارد في المناطق الشمالية تذهب لجماعة خارج الدولة هناك أيضًا تشكيلات مسلحة في الجنوب وجميعها تتقاسم موارد البلاد.
وعن الوديعة المعلن عنها من السعودية والإمارات في أثناء تشكيل مجلس القيادة الرئاسي، فبحسب نجيب فإن الدولتين تؤكدان أنها مرتبطة بإصلاحات اقتصادية يجب على الحكومة اليمنية تنفيذها، وهو ما تعجز عنه الحكومة نتيجة الاضطرابات الحاصلة حتى في مناطق نفوذها، وربما يكون أيضًا للدولتين اعتبارات سياسية فيما يخص تقديم هذا الدعم.
وكانت السعودية والإمارات قد أعلنتا أنهما ستقدمان دعمًا عاجلًا للاقتصاد اليمني المتداعي بقيمة 3 مليارات دولار، عقب إصدار الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي في 7 أبريل/نيسان من العام الماضي قرارًا بتشكيل مجلس قيادة رئاسي ونقل صلاحياته إليه، لكن البلدين لم تدفعا الودائع حتى الآن.
وفيما يخص تأثير انخفاض الاحتياطي من النقد الأجنبي على الوضع الاقتصادي في البلاد أكد نجيب أن ذلك يزيد من ارتفاع التضخم، خاصة أن اليمن يستورد ما نسبته 90% من احتياجاته من الخارج بما في ذلك الغذاء والدواء، كما أن ذلك الانخفاض سيجعل الحكومة غير قادرة على تغطية رواتب الموظفين.
الضربة القاسمة
كانت الضربة القاسمة للحكومة اليمنية استهداف الحوثيين للموانئ النفطية، وتهديدها باستهداف أي أنشطة لاستئناف عملية تصدير النفط من المحافظات الجنوبية، ما حرم الحكومة اليمنية، من مصدر الدخل الوحيد من العملات الأجنبية، الأمر الذي أدى إلى توقف البنك المركزي عن بيع العملة الأجنبية عن طريق المزاد الذي كان يعلن عنه أسبوعيًا، إذ أصبح الآن شبه متوقف، حسب الخبير الاقتصادي شلال العفيف.
وبالإضافة إلى ذلك شكلت العوامل السياسية واحدة من أهم أسباب الانهيار الاقتصادي، التي تتمثل في توقف عجلة المفاوضات بين السعودية والحوثيين للوصول إلى سلام شامل من جانب، والصراع داخل مكونات مجلس القيادة الرئاسي، المتمثلة بالمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيًا والمطالب بالانفصال ورئاسة مجلس القيادة.
وحسب العفيف فإن العوامل السياسية والاقتصادية على السواء، شكلت نوعًا من الضغط على السوق وزيادة الطلب على العملة الأجنبية، ما أدى إلى ارتفاع سعر الصرف.
تعثر عملية السلام
من جانبه قال الخبير الاقتصادي رشيد الحداد إن الحكومة المعترف بها دوليًا تواجه عجزًا ماليًا كبيرًا جدًا وأنه كان هناك اجتماعات مختلفة في الرياض وفي عدن وكذلك في الأردن مع صندوق النقد الدولي ومع جهات دولية داعمة ومع مانحين، فضلًا عن تحركات السفير الأمريكي إلى اليمن ستيفن فاجن الذي زار عدن بشكل مفاجئ في الـ5 من الشهر الحاليّ وكانت قضية تدهور الأوضاع الاقتصادية وكذلك المالية للحكومة من أولوياته.
ولفت الحداد في حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن انهيار العملة جاء نتيجة تعثر مسار بالسلام وعدم قدرة المبعوث الدولي إلى اليمن هانس جرونبرج على إنهاء حالة الانقسام النقدي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد.
يقلل الحداد من تأثير توقف تصدير النفط على الاحتياطي النقدي، فالمحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية تعيش اضطرابات اقتصادية منذ سنوات من قبل توقف صادرات النفط والغاز، فضلًا عن أن إيرادات النفط لا تذهب كاملة إلى البنك في عدن، لكنها تذهب لتمويل بعض الجهات العسكرية في الحكومة وهناك تقاسم وغموض بشأن مصير هذه الإيرادات.
وأكد رشيد أن الحكومة كان لديها إيرادات ضخمة خلال السنوات الماضية، لكن المواطن لم يلمس أي تحسن في الأوضاع الاقتصادية، ولم يتم رفع مرتبات الموظفين، حيث لا يتجاوز راتب الموظف 50 دولارًا كحد أدنى، وهناك فجوة كبيرة بين صغار الموظفين أو متوسط الموظفين وكبار الموظفين الذين هم من المقربين من الحكومة وحصلوا على امتيازات خلال هذه الحرب، الذين تصل نفقاتهم في الخارج إلى نحو 90 مليون دولار، فهناك مليار ومئة مليون دولار يتم سحبها من السوق في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة إلى الخارج لتمويل رواتب كبار موظفي الحكومة المعترف بها دوليًا، وهذا المبلغ يشكل ضغطًا كبيرًا جدًا على الاقتصاد اليمني وينعكس بشكل سلبي على أي احتياطات نقدية.
أزمة ثقة
وفي ذات السياق أوضح رشيد سبب عدم تنفيذ الوعود السعودية والإماراتية بتقديم الودائع المالية، حيث يؤكد أن ذلك يعود لأزمة ثقة كبيرة بين مجلس القيادة الرئاسي والدولتين بدأت منذ عام.
ولفت إلى أن السعودية لم تقدم سوى مليار دولار قدمته عبر صندوق النقد العربي، بأرباح عالية جدًا وشروط قاسية، ولم يتم تقديمه كمنحة أو وديعة كما كان من قبل، مثلما قدمت السعودية ودائع مالية لمصر والأردن وتركيا خلال الفترة الماضية، لذلك لم ينعكس المليار دولار بشكل إيجابي على المحافظات الجنوبية.
ويقول رشيد: “هناك أزمة مالية واقتصادية تواجهها الحكومة المعترف بها دوليًا، يحاول البنك المركزي بعدن تبديدها ببيانات للتأكيد أن الوضع الاحتياطي بالحدود الآمنة، لكن الأزمة كبيرة جدًا وتفرض على الجميع الاتجاه إلى خيار تحييد الاقتصاد الوطني والعمل على تحسين الايرادات، لأن المحافظات الجنوبية والشرقية تشهد تنافرًا فيما يتعلق بالبنك المركزي وفروع البنوك في المحافظات، حيث لا يتم توريد إيرادات النفط والغاز من صافر ومن محافظة مأرب إلى البنك المركزي في عدن، ولم يتم التوافق حول السياسة النقدية أو بالأحرى لم يتم التعامل مع بنك عدن كبنك”.
فالبنك المركزي بعدن يعتمد على مصادر دخل، مثل المنح وودائع البنك الخاصة، التي قدمت من البنك الدولي، وأيضًا المبالغ المالية التي كانت في حساب البنك المركزي في الخارج، وحولت إلى البنك المركزي بعدن.
ولمعالجة الوضع الوضع الاقتصادي يؤكد رشيد أن على الحكومة المعترف بها دوليًا اللجوء إلى خيارات وحلول عادلة فيما يتعلق بصرف مرتبات موظفي الدولة على مستوى الجمهورية وما يتعلق بإنتاج النفط والغاز، دون ذلك لن يستطيعوا أن يحققوا أي نجاحات في الملف الاقتصادي، حد تعبيره.
بالمحصلة، يدفع المواطن اليمني جنوبًا وشرقًا ثمن هذا الانهيار، فسعر صرف الدولار لن يتوقف عند سقف 1500 ريال للدولار الواحد في ظل الانهيار الحاليّ، وفي حال لم يتم معالجة هذه الأزمة فسيكون لها أثر شديد على حياة اليمنيين وستكون أشد وطأة من الأزمات التي شهدتها اليمن خلال التسع السنوات الماضية، خصوصًا أن اليمن يعتمد بشكل شبه كلي على الواردات من الخارج.