أثار إعلان مصر اعتزامها التدخل بشكل رسمي، لدعم الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا ضد الكيان المحتل أمام محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، حالة من الجدل داخل الشارع المصري والعربي، كونه الموقف الأبرز للقاهرة في مواجهة دولة الاحتلال بعد مرور أكثر من 220 يومًا على حرب غزة.
وكانت الخارجية المصرية قد أرجعت في بيان لها الأحد 12 مايو/أيار، هذا التحرك إلى “تفاقم حدة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة، والإمعان في اقتراف ممارسات ممنهجة ضد أبناء الشعب الفلسطيني، من استهداف مباشر للمدنيين، وتدمير البنية التحتية في القطاع، ودفع الفلسطينيين إلى النزوح والتهجير خارج أرضهم”، متهمة الاحتلال بخلق أزمة إنسانية غير مسبوقة في قطاع غزة، وانتهاك أحكام القانون الدولي بشكل صارخ، وكذلك اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.
وطالبت مصر دولة الاحتلال بالامتثال لالتزاماتها باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال، وتنفيذها للتدابير المؤقتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية بضمان نفاذ المساعدات الإنسانية والإغاثية على نحو كافٍ، بما يلبي احتياجات الفلسطينيين في القطاع، كذلك تجنب اقتراف أي انتهاكات ضد الشعب الفلسطيني، بوصفه يتمتع بالحماية وفقًا لاتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.
ويأتي هذا التحرك المصري بعد نحو 5 أشهر من دعوى جنوب إفريقيا أمام العدل الدولية، ومقتل 35 ألف شهيد ونزوح ما يزيد على مليون ونصف غزي، الأمر الذي أثار حزمة من التساؤلات عن طبيعة الدعم المصري لتلك الدعوى وتأثيره الفعلي، ودوافع القاهرة لتلك الخطوة الآن تحديدًا وعلاقة ما يحدث في رفح بهذا التحول، وما إذا كان الجانب المصري جادًا في هذا الموقف أم أن هناك مقاربات واعتبارات أخرى.
بعد 5 أشهر من دعوى جنوب إفريقيا.. لماذا الآن؟
قبل الحديث عن مضمون بيان الخارجية المصرية وماهية الدعم المصري المقترح، كان السؤال الأبرز على لسان رجل الشارع: لماذا الآن بعد 5 أشهر كاملة من رفع جنوب إفريقيا دعواها؟ آنذاك خرجت الكثير من المطالب لحث القاهرة على الانضمام للدعوى بصفتها الجار الأقرب للاحتلال والشاهد على جرائمه المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، هذا بخلاف عرقلة الكيان إدخال المساعدات عبر معبر رفح، المنفذ الوحيد لأكثر من مليوني غزي، كما يقول الجانب المصري.
ورغم تلك المناشدات فإن القاهرة رفضت الاستجابة ولم تعلق بشكل رسمي على فكرة الانضمام لجنوب إفريقيا، مع الوضع في الاعتبار إعلان دول أخرى دعمها لتلك الخطوة على رأسها ليبيا والمالديف وناميبيا وماليزيا وغيرها، ومن ثم جاءت الخطوة الحاليّة مثيرة للنقاش والجدل.
وفي محاولة لفهم هذا التحول المصري لا بد من الإشارة إلى السياق العام الذي اتخذت فيه القاهرة تلك الخطوة، وهو السياق الذي يتضمن الدوافع الرئيسية التي قادت الجانب المصري لإصدار هذا البيان الذي يصفه الكثيرون بـ”القوي” ويتناسب إلى حد ما مع الدور الإقليمي – المتراجع مؤخرًا – لدولة بحجم مصر وتاريخها وثقلها.
أولًا: الربط بين هذا التحرك وعملية رفح الراهنة.. حيث اجتياح جيش الاحتلال للحدود المصرية الفلسطينية، والسيطرة على جزء كبير من محور فيلادلفيا الواقع في المنطقة (د) المحمية وفق ملاحق معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل”، هذا بخلاف الاستعراض المبالغ فيه لجنود جيش الاحتلال على الشريط الحدودي بين مصر وفلسطين، الذي أثار حفيظة السلطات المصرية ووجدت نفسها في حرج شعبي وأخلاقي كبير أمام الشارع المصري والعربي.
ورغم ما يثار بشأن التنسيق المسبق بين الجانبين الإسرائيلي والمصري حول عملية رفح، الذي أكدته وسائل إعلام عبرية وأمريكية، حتى إن نفته القاهرة في تصريحات رسمية، فإن الاستعراض الإسرائيلي على المعبر زاد من غضب الجانب المصري الذي أُجبر على وقف التنسيق مع الإسرائيليين وطالب واشنطن بالتدخل الفوري حفاظًا على معاهدة السلام بين البلدين.
الخارجية المصرية: انضمام مصر لدعوى جنوب إفريقيا المرفوعة على إسرائيل يأتي في ظل تفاقم اعتداء الاحتلال على المدنيين في غزة pic.twitter.com/MlUS1nKg0Q
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) May 12, 2024
ثانيًا: إفشال “إسرائيل” للمقترح المصري الخاص باتفاق التهدئة وتبادل الأسرى تمهيدًا لوقف إطلاق النار، والإصرار على عملية رفح ورفض ما قدمته مصر رغم موافقة حكومة الاحتلال والإدارة الأمريكية عليه مسبقًا، وهو ما وضع القاهرة كوسيط له ثقله، في حرج كبير، وعليه كان التحرك ضد “إسرائيل” أمام العدل الدولية.
ويميل أنصار هذا الاتجاه إلى أن تأخير القاهرة في الانضمام لدعوى جنوب إفريقيا يعود إلى دورها كوسيط يفترض أن يكون محايدًا، وألا يتورط في خصومة مباشرة مع أي من طرفي الأزمة، حماس والاحتلال، لافتين إلى أنه وبعد إفشال الجانب الإسرائيلي لهذا الدور المصري عبر عناده وإصراره على التصعيد، تحركت القاهرة بشكل فوري.
لكن على الجانب الآخر هناك من يشكك في هذا المبرر الذي يصطدم مثلًا بالحالة الأمريكية، كون واشنطن أبرز الداعمين للاحتلال والتي تحولت إلى خصم مباشر للمقاومة من خلال دعم الكيان لوجستيًا وعسكريًا وسياسيًا، ومع ذلك تمارس دور الوساطة مع مصر وقطر.
ثالثًا: تصاعد الغضب الشعبي.. يعاني المزاج الشعبي المصري من حالة احتقان شديدة جراء الموقف الرسمي إزاء سكان غزة الذي يصفه البعض بالمتخاذل وأنه لا يتناسب مع دور مصر ومسؤوليتها السياسية والتاريخية والأخلاقية، بل إن هناك من يتهم الجانب المصري بالضلوع في جريمة الإبادة التي يتعرض لها الغزيون من خلال غلق معبر رفح وعرقلة دخول المساعدات، وهي الاتهامات الصادرة عن حلفاء النظام المصري، الإسرائيليين والأمريكيين، وأكدتها الممارسات اليومية منذ بداية الحرب، رغم نفيها رسميًا من القاهرة، فضلًا عن التورط في الحصار من خلال تدمير الأنفاق وإغراقها.
وزاد من حدة هذا الغضب العربدة الإسرائيلية على معبر رفح وجولة الاستعراض التي قام بها جنود الاحتلال هناك، واستفزت بشكل كبير الشعب المصري، وهي الخطوة التي يراها المصريون تمس السيادة المصرية وتنتهك استقلالية الدولة، مطالبين بإجراء حاسم وسريع لحفظ الكرامة المصرية ورد الاعتبار لسيادة الدولة.
ماذا يعني الدعم المصري للدعوى؟
أثار البيان – الغامض – الصادر عن الخارجية المصرية تأويلات عدة عن مفهوم عبارة “دعم مصر دعوى جنوب إفريقيا أمام العدل الدولية”، وطبيعة هذا الدعم، وما إذا كان انخراط في الدعوى كطرف مباشر في مواجهة الاحتلال مثل جنوب إفريقيا، أم مجرد دعم سياسي كما أعلنته بعض الدول، هذا بخلاف الجدل بشأن لفظ “اعتزامها” التدخل بشكل رسمي، وهل يعني ذلك التدخل فعليًا أم أن الأمر ما زال في طور الاعتزام ومراجعة المواقف.
وبحسب الحقوقي المصري والمحامي بالمحكمة الجنائية الدولية، ناصر أمين، رئيس المركز العربي لاستقلال القضاء، فإن بيان الخارجية المصرية لا يعني انضمام مصر للدعوى، إذ لم يوضح “هل ستطلب مصر التدخل في الدعوي كطرف ثالث مثل نيكاراغوا على سبيل المثال، وهل ستتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة”.
وأوضح أمين خلال تصريحات صحفية أدلى بها لصفحة “متصدقش” على فيس بوك (صفحة متخصصة في محاربة الأخبار الكاذبة وتوضيحها)، أنه لا يمكن معرفة ما ستضيفه مصر إلى موقفها في الدعوى الجنوب إفريقية المرفوعة ضد الاحتلال، وهل هناك من جديد يمكن تقديمه غير المذكرة القانونية والمرافعة الشفهية التي قدمتها أمام المحكمة في فبراير/شباط الماضي – كرأي استشاري – حين أكدت استمرار الاعتداءات الإسرائيلية ضد سكان القطاع.
ويستند تحرك مصر وغيرها من الدول الراغبة في التدخل في الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا، إلى المادة (62) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية التي تنص على أحقية أي دولة في التدخل في الإجراءات التي تقوم بها “العدل الدولية”، في قضية منظورة أمامها، غير أن هذا التدخل يقتصر على مساعدة المحكمة في تفسير معاهدة منع جريمة الإبادة الجماعية، ودعم أي من طرفي الدعوى دون التعليق على محتوى القضية نفسها، إذ إن هذا ليس من حق الدول المتداخلة، حسبما يرى خبير القانون الدولي، الألماني شتيفان تالمون، كما حال دول نيكاراغوا وليبيا وتركيا التي أعلنت دعمها لجنوب إفريقيا، وألمانيا الداعمة لـ”إسرائيل”.
عندما تعلن مصر إعتزامها التدخل لدعم الدعوي التي أقامتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليه فهذا موقف قومي يعبر عن ثوابت الموقف المصري تجاه القضية الفلسطينيه . إن الحيثيات التي تضمنتها مذكرة الخارجيه المصريه ضد إسرائيل تؤكد غضب مصر الشديد تجاه السياسة العدوانيه…
— مصطفى بكري (@BakryMP) May 12, 2024
وأصبح شائعًا خلال الأعوام الأخيرة طلب بعض الدول التدخل في الدعاوى المرفوعة أمام العدل الدولية، كما حدث في دعوى أوكرانيا ضد روسيا وغامبيا ضد ميانمار، ويتوقع أن تصدر أكثر من 30 دولة إعلانات بالتدخل في القضية المرفوعة حاليًّا ضد “إسرائيل”، أغلبها سيكون لدعم جنوب إفريقيا، بحسب ما قاله تالمون في مقابلة له مع “DW”.
وهناك طريقان أمام الدول والهيئات لتقديم رأيها في موضوع الدعوى دون أن يعني ذلك انضمامهم لها، أولهما أن “تُرسل أي دولة (أو) الهيئات الدولية رأيها في الموضوع للمحكمة، والمحكمة تنظر فيه باعتباره رأي استشاري”، والثاني: “المحكمة ترى أنه من الضروري استطلاع رأي كل الدول الأعضاء في الاتفاقية (اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها) والبلدان غير ملزمة بالرد”.
وفي ظل الغموض المحدق بالبيان وعدم إجابته على الكثير من التساؤلات عن نوايا الجانب المصري بشأن الدعم المقدم لدعوى جنوب إفريقيا، يرى الحقوقي المصري أن القاهرة إذا ما أرادت أن تكون حاضرة بقوة في هذا الملف، فيمكنها تقديم دعوى منفصلة أمام المحكمة تتهم فيها حكومة “إسرائيل” بارتكاب انتهاكات لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وفي هذه الحالة يخضع الطلب لتقدير المحكمة، على حد قوله.
خطوة مهمة.. ولكن
أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي.. هكذا يقول المصريون والعرب الداعمون للقضية الفلسطينية، تعليقًا على الموقف المصري وبيان وزارة الخارجية الأخير، فالخطوة من حيث الشكل تغير ملموس في البوصلة المصرية إزاء ما يحدث في غزة بعد أكثر من 7 أشهر من الميوعة والخذلان.
ورغم الغموض الذي يغلف البيان والقراءات المتباينة لمسألة دعم دعوى جنوب إفريقيا ضد الاحتلال أمام العدل الدولية، وبعيدًا عن الدوافع العاجلة وراء هذا التحرك بعد تأخر دام لـ5 أشهر كاملة، فإن ما حدث خطوة مهمة نحو عزلة “إسرائيل” دوليًا، ومسألة تستحق أن “تُثمن” كما علقت حركة المقاومة حماس، التي دعت الدول العربية والإسلامية والدول حول العالم إلى اتخاذ خطوات مماثلة، وقطع أي علاقة مع “إسرائيل” وعزلها دوليًا، والسعي لمحاسبتها وقادتها على “جرائمهم الممنهجة بحق أطفالنا وأبناء شعبنا في قطاع غزة”.
وفي ضوء ما سبق، تبقى الأيام القادمة ساحة اختبار عملية لتلك الخطوة المصرية، وما إذا كانت محاولة لامتصاص حالة الغضب وحفظ ماء الوجه وورقة ضغط مشهرة في وجه الجانب الإسرائيلي للتراجع عن إحراج القاهرة عبر احتلال معبر رفح ومحور فيلادلفيا، أم تغير واضح في الموقف المصري إزاء جريمة الإبادة التي يتعرض لها مليوني فلسطيني داخل القطاع، ومحاولة نحو استعادة دور مصر المتراجع مؤخرًا.