تُلقب بـ”المدينة الفاضلة” و”المدينة النبيلة”، فهي لؤلؤة آسيا الوسطى ورمانة ميزانها، اقتصاديًا وعلميًا، إذ كانت لعقود طويلة منارة العلم وقبلة العلماء التي لا يُغلق بابها أمام طلابها من بقاع العالم كافة، فاستحقت أن تُخلد في سجلات العلم عبر التاريخ والحضارة.
كانت بخارى، المدينة الواقعة في جمهورية أوزبكستان على المجرى الأدنى لنهر زرفشان، محط اهتمام المؤرخين والرحالة، وصفها المؤرخ ياقوت الحموي في كتابه “معجم البلدان” قائلًا: “بخارى من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلّها، يُعبَر إليها آمل الشط وبينها وبين جيحون يومان من هذا الوجه، وكانت قاعدة ملك السامانية، واسمها أيضًا (بُومجكث)، ولا شك أنها مدينة قديمة نزهة كثيرة البساتين واسعة الفواكه جَيّدتُها عَهدي بفواكهها تُحمَل إلى مَروَ وبينهما اثنتا عشرة مرحلة وإلى خوارزم وبينهما أكثر من خمس عشرة يومًا وبينها وبين سمرقند سبعة أيام أو سبعة وثلاثون فرسخًا بينهما بلاد الصغد”.
ورد اسمها لأول مرة في القرن التاسع الميلادي من المؤرخ الشهير أبو بكر محمد بن جعفر نرشخي، وقد تعددت الآراء بشأن دلالة تسميتها بهذا الاسم، إلا أن الراجح من أقوال اللغويين والمؤرخين بأن كلمة “بخارى” مشتقة من كلمة “بخار” عند المغول التتار حين غزوها قديمًا، وتعني العلم الكثير، فكان المسمى دالًا على مكانتها، مدينة العلم والعلماء.. فماذا نعرف عنها؟
تاريخ من الصمود
في مؤلفه “تاريخ بخارى” يذكر نرشخي أن أول من بنى مدينة بخارى هو سياوش بن الملك عز الدين كيكاوس الذي كان حاكمًا على تلك المنطقة خلال الفترة من 1211- 1220م، حين ترك والده غاضبًا وتوجه إلى ملك الترك، أفراسياب، الذي أكرمه وزوجه من ابنته ومنحه تلك الأرض التي عرفت فيما بعد بـ”بخارى”، فبنى عليها المدينة الخالدة حتى اليوم.
ويوضح الكتاب كيف بُنيت تلك المدينة قديمًا قائلًا “قد تكونت من فيضانات نهر “ما صف” الذي عرف فيما بعد باسم نهر السّغد، فكان هذا النهر يفيض بذوبان الثلوج في أعالي الجبال، ويجرف جريانه الطمي يملأ به الوهاد، كما يتخلف عنه الماء الذي يكون المناقع، وبعد استواء هذه الأرض قصدها الناس من كل صوب لطيب هوائها وخصبها، وعمروها وأمرّوا عليهم أميرًا”.
سقوط مدينة بخارى أمام المغول بعد حصار دام 3 أيام وانتهى بطرد وقتل السكان وإحراق المدينة
كان أهل بخارى يعبدون الأصنام في ذلك الوقت، وكانت تحكمهم امرأة تدعى “خاتون”، وقد قاومت وشعبها الفتح الإسلامي لتلك المدينة، ويذكر المؤرخون أن أول من اجتاز نهر السغد إلى بخارى هو عبيد الله بن زياد والي خراسان حينها وذلك عام 674م، وما إن دخل حتى أرسلت خاتون إلى الترك تستنجد بهم في مواجهة المسلمين، إلا أن جيوش المسلمين ألحقت بهم هزيمة نكراء ففروا هاربين، وهنا لم تجد حاكمة المدينة إلا التفاوض والصلح مع قائد المسلمين بن زياد، حيث تم الاتفاق على أن تدفع ألف درهم جزية للمسلمين.
رغم ذلك لم يتوقف أهل بخارى عن محاربة المسلمين والعرب واستهدافهم بين الحين والآخر، ما عطل من تمكن الحكم العربي والإسلامي للمدينة حتى عام 705م في خلافة الوليد بن عبد الملك، حين ولَّى الحجاج بن يوسف الثقفي أمير العراقيين (694- 714م) قتيبة بن مسلم الباهلي خراسان (705-715م) وأمره بفتح ما وراء النهر.
في عام 1924 أعلن قيام جمهورية بخارى بشكل رسمي، لكن سرعان ما تقسمت مرة أخرى بين جمهوريات طاجكستان وأوزبكستان وتركمنستان، وصارت بخارى إحدى المدن المهمة في جمهورية أوزبكستان
ظلت بخارى تابعة إداريًا لولاة خراسان الطاهريين حتى عام 892م، ثم صارت بعد ذلك عاصمة للدولة السامانية بعد أن ولى أمير سمرقند نصر بن أحمد الساماني أخيه إسماعيل على حكم بخارى بناءً على طلب أهلها وعلمائها، لتبدأ رحلتها فيما بعد في أن تصبح مركز للعلوم والصناعة.
وبحسب روايات المؤرخين فإن بخارى كانت تتمتع بمستوى اقتصادي ومعيشي عظيم، إذ كانت موطنًا للكثير من الصناعات وألوان التجارة المختلفة، فيما تشير بعض الوثائق إلى أن المسلمين حين فتحوها غنموا منها الكثير والكثير من المال والمصنوعات التي كانت تنافس بها حينها مدينة سمرقند التي كانت تعد من قلاع الصناعة في العالم آنذاك.
تعرضت بخارى للتدمير والتخريب أكثر من مرة، لكنها بعد كل حادثة تنهض أفضل مما كانت عليه، حيث دُمرت على يد قائد المغول چنكيز خان عام 1220م، ثم أعيد بناؤها في عهد خليفته أوكيدي خان، ثم ثار الشعب على حكم المغول وطبقة الملاك عام 1238م لكن سرعان ما أخمدت تلك الثورة، وفي عام 1273 مارس مغول فارس كل أنواع السلب والنهب في مقدرات المدينة وخيراتها، ثم تم تخريبها مرة أخرى عام 1275م وظلت قرابة 7 سنوات كاملة لا يدخلها بشر.
أمير بخارى عبد الأحد خان (1859 – 1911)
أعاد الأمير مسعود بك تعميرها مرة أخرى عام 1283م وبدأت مرحلة تعمير سكاني جديدة، إلى أن أغار عليها مغول فارس مرة أخرى عام 1316م، وأفرغوها من سكانها، وفي عام 1500م فتحها الأزابكة التي شهدت بخارى في عهدهم لا سيما أميري بني شيبان: عبيد الله ابن محمود (1512 ـ 1513م) وعبد الله بن إسكندر (1512 ـ 1557م) أوج مجدها حيث أصبحت مركزًا للحياة السياسية والروحية.
تناوب على حكم بخارى عشرات الأمراء والملوك من شتى الطوائف والكيانات، وصولًا إلى عهد الأمير عبد الأحد خان (1885-1910) الذي كان إيذانًا بتقسيم المدينة، ففي ولايته اتفقت كل من روسيا وإنجلترا التي كانت صاحبة النفوذ في أفغانستان حينها على إعادة ترسيم الحدود بين بخارى وأفغانستان، على أن يكون نهار بانج هو الفيصل الحدودي بينهما، وأعلنت ما سمي بـ”إمارة بخارى” عام 1887م، لكن بعد الثورة الشيوعية في روسيا عام 1918 سيطر الثوار على بخارى وخربوها مجددًا.
في عام 1924 أعلن قيام جمهورية بخارى بشكل رسمي، لكن سرعان ما تقسمت مرة أخرى بين جمهوريات طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان، وصارت بخارى إحدى المدن المهمة في جمهورية أوزبكستان، على الوضع الذي باتت عليه اليوم.
تحفة معمارية
رغم المؤامرات التي حيكت ضد بخارى وعشرات الولاة الذين تعاقبوا عليها، ظلت قلعة معمارية لا نظير لها في آسيا الوسطى، رغم كل المرات التي تعرضت فيها للتدمير والخراب، وهو ما يؤكد قوة تراثها وعظمة معمارها الذي استطاع الصمود أمام كل عوامل التعرية الجغرافية والسياسية والتاريخية.
ووفق إحصاء الباحثين فإن بخارى بها أكثر من 140 أثرًا معماريًا متنوعًا، منها قُبة السامانيين التي شيدت عام 892م على يد إسماعيل الساماني والمبنى عبارة عن مربع تعلوه قبة ترتكز على رقبة تبدأ بثمانية أضلاع وتنتهى بستة عشر ضلعًا في أركانها أربع قباب صغيرة.
قبة وضريح إسماعيل الساماني في مدينة بخارى والتي شيدت بين عامي (892م- 907م)
وهناك كذلك البوابة الجنوبية لأحد مساجد بخارى التي شيدها “القراخانيون” في القرن الثاني عشر الميلادي، وقد جمعت هذه البوابة كل الفنون الزخرفية في بخارى، وعشرات المساجد التي يصفها المؤرخون بأنها تحف معمارية لا نظير لها مثل مسجد “نمازكاه” ومئذنة “كليان” التي أقامها “أرسلان خان” سنة 1127م والمزينة بالطوب المزخرف بمهارة عالية، ومسجد “بلند” الذي يتميز برواق خارجى به أعمدة خشبية تحمل سقفًا خشبيًا.
كما يُحيط بالمدينة سور عظيم، هو بمثابة حائط الصد الأمين لها في مواجهة الرمال الصحراوية، وينتشر على جنبات هذا السور 11 بوابة، وهي: بوابة إمام، بوابة مزار، بوابة سمرقند، بوابة اقلان، بوابة تلياج، بوابة شير كيران، بوابة قره قول، بوابة شيخ جلال، بوابة نمازكاه، بوابة سلاح خانة، بوابة كيرشي.
وبها عدد من الميادين الشهيرة أبرزها ميدان لب حوض (ديوان بيكي) وميدان ريجستان وهو أوسع ميدان عام في المدينة، بجانب عشرات المدارس التاريخية التي تعد من أقدم المدارس الإسلامية عمارة في آسيا الوسطى وأهمها: مدرسة مير عرب ومدرسة كوكلتاش (كوكلاداش) ومدرسة خليف نيازكول (جهار منار) ومدرسة المآذن الأربعة ومدرسة كوش فتعني اثنين.
ونظرًا لهذا التراث الهائل والثروة التاريخية العظيمة أعلنت منظمة اليونسكو عام 1996 إدراج بخارى ضمن قائمة التراث الثقافي العالمي وحمايتها، وفي العام التالي مباشرة 1997م تم الاحتفال بمرور 2500 سنة على تأسيس المدينة على مستوى دولي، وسط احتفاء عالمي بتلك المعالم الأثرية الفريدة.
وفي عام 2020 أسفر الاجتماع التاسع لوزراء الثقافة للدول الإسلامية الذي عقد في باكو عن اختيار بخارى مع القاهرة المصرية وباماكو المالية عواصم للثقافة الإسلامية لهذا العام، استجابة لما أعلنته منظمة الإيسيسكو عام 2015 تدشين مرحلة جديدة لاختيار المدن الإسلامية كعاصمة للثقافة الإسلامية.
أبرز علماء بخارى
أنجبت بخارى عشرات العلماء في شتى المجالات، ذاع صيتهم في مشارق الأرض ومغاربها، وما زالوا يمثلون حتى اليوم المرجع الأساسي في العلوم التي برعوا فيها، منهم أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الشهير بـ”الزمخشري” (1074م – 1143م)، وهو أحد أعلام البلاغة واللغة، قال عنه السمعاني: “برع في الآداب، وصنف التصانيف، وَرَدَ العراق وخراسان، ما دخل بلدًا إلا واجتمعوا عليه، وتتلمذوا له، وكان علامة نسابة”.
اشتهر بكتابيه العظيمين: “الكشاف” و”أساس البلاغة” بجانب مؤلفات أخرى زخرت بها مكتبات البلاغة في شتى بلدان العالم منها: “ربيع الأبرار” و”مفصل أنموذج: كتاب في نحو العربية” و”مشتبه أسامي الرواة” و”كتاب النصائح” و”المنهاج في الأصول” و”ضالة الناشد” و”مقدمة الأدب” وهو قاموس من العربية للفارسية.
كذلك الطبيب والفيلسوف الإسلامي الكبير الحسين بن عبد الله بن سينا (981 – 1037م) أحد أعظم رواد الفكر الإنساني في التاريخ، المولود في قرية “أفشنة” من قرى بخارى، وكان ضليعًا في الطب والفلسفة والشعر، لُقب بـ”الريس” و”المعلم الثالث” بعد أرسطو والفارابي، كما عرف بـ”أمير الأطباء”.
تمثال ابن سينا في طاجيكستان
كانت له اكتشافات وإسهامات عظيمة في العلوم الفلكية، حيث استطاع أن يرصد مرور كوكب الزهرة عبر دائرة قرص الشمس بالعين المجردة في يوم 24 مايو/أيار 1032م، وهو ما أقره الفلكي الإنجليزي جيرميا روكس في القرن السابع عشر، ومن أبرز مؤلفاته في الفلك: كتاب “الأرصاد الكلية” و”رسالة الآلة الرصدية” وكتاب “الأجرام السماوية” وكتاب “في كيفية الرصد ومطابقته للعلم الطبيعي”، ومقالة في هيئة الأرض من السماء وكونها في الوسط، كتاب “إبطال أحكام النجوم”.
وفي الجيولوجيا له باع طويل في مجال طبقات الأرض خاصة في المعادن وتكوين الحجارة والجبال، ويعد من أوائل من فسروا الزلازل بأنها حركة تعرض لجزء من أجزاء الأرض، بسبب ما تحته، كما تحدث عن السحب وكيفية تكونها، وفي علم النبات أجرى المقارنات العلمية الرصينة بين جذور النباتات وأوراقها وأزهارها، ووصفها وصفًا علميًا دقيقًا ودرس أجناسها، وأشار إلى اختلاف الطعام والرائحة في النبات.
للبخاري أكثر من 20 مؤلفًا في علوم الحديث، استحق بها أن يكون المرجع الأهم والأكثر مصداقية وثقة لدى المسلمين رغم مئات علماء الحديث الذين عاصروه أو سبقوه
وكان لابن سينا معرفة جيدة بالأدوية وفعاليتها، وقد صنف الأدوية في ست مجموعات، وفي الطب كذلك له إسهامات عظيمة حتى إنه لقب بأمير الأطباء، فكان أول من كشف عن العديد من الأمراض التي سبق بها العلماء المحدثين بمئات السنين، كاكتشافه طفيل “الإنكلستوما” وسماها الدودة المستديرة، حيث سبق العالم الإيطالي دوبيني بنحو 900 سنة، وهو أول من وصف الالتهاب السحائي، كما كشف لأول مرة عن طرق العدوى لبعض الأمراض المعدية كالجدري والحصبة.
وقد أثرى ابن سينا مكتبة العلوم بـ450 مؤلفًا، ما وصل منها 240 فقط والباقي فُقد لأسباب عدة، منهم 150 مؤلفًا في الفلسفة وقرابة 40 في الطب، وله مؤلفات عدة في علم النفس والجيولوجيا والرياضيات والفلك والمنطق، ومعظم كتبه كتبت باللغة العربية باستثناء كتابين اثنين فقط وضعهما بالفارسية (لغته الأم) هما: “موسوعة العلوم الفلسفية” والثاني “دراسة عن النبض”.
أما العالم الثالث الذي أنجبته بخارى فكان أفضل سفير لها على مر الزمان هو العالم المحدث أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، المعروف بـ”الإمام البخاري” (810 – 870م) المولود ببخارى والمتوفي في سمرقند، وهو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه بن الأحنف الجعفي القحطاني، صاحب كتاب الحديث المعروف بـ”صحيح البخاري” أصح كتاب بعد القرآن والسنة.
وللبخاري أكثر من 20 مؤلفًا في علوم الحديث، استحق بها أن يكون المرجع الأهم والأكثر مصداقية وثقة لدى المسلمين رغم مئات علماء الحديث الذين عاصروه أو سبقوه، ومن أبرز تلك المؤلفات صاحبة الصيت الكبير: الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه، المعروف بـ”الجامع الصحيح أو صحيح البخاري” و”الأدب المفرد” و”التاريخ الكبير” و”التاريخ الصغير” و”خلق أفعال العباد” و”رفع اليدين في الصلاة” و”الكُنى” و”الضعفاء الصغير”.