خلال يومي 23 و24 يونيو/ حزيران الحالي، شهدت روسيا أحداثًا لن تمحى من مخيلة الروس بسهولة، إذ أقدم “أمير الحرب” الروسي يفغيني بريغوجين على مغامرة نحو موسكو للسيطرة عليها، بعد أن كان الحليف الأول لنظام فلاديمير بوتين وعصاه الغليظة التي يضرب بها بعيدًا عن القانون.
مغامرة امتدّت لساعات وأذهلت العالم، إذ أعلن بريغوجين سيطرت قواته على المنشآت العسكرية في مقاطعة روستوف (جنوبي روسيا)، وهدّد بالتوجه إلى العاصمة موسكو، وتحركت أرتال بالفعل تجاهها، رغم تحذيرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
صحيح أن هذه المغامرة كان مصيرها الفشل، لكنها مثلت نقطة فارقة في مسيرة بوتين السياسية، الذي أصبح يُنظر إليه إلى أنه رجل ضعيف لم يقدر على التحكم بفصيل شبه عسكري، بعد أن كان يهدّد بالسيطرة على أوكرانيا وكل من يعاديه.
بعد التهديد والوعيد بانَ ضعف القيادة العسكرية الروسية، وتراجع دور بوتين وانهيار قوته -التي كان يدّعيها-، إذ سيكون لهذا التمرد الذي لم يتواصل لأكثر من يوم عواقب كبيرة على مستقبل بوتين ونفوذ موسكو في الخارج، خاصة أن جزءًا كبيرًا من هذا النفوذ مستمدّ من نشاط مرتزقة فاغنر.
نفوذ روسيا في أفريقيا
قبل الحديث عن هذا التأثير، دعنا نلقي نظرة خاطفة على النفوذ الروسي في أفريقيا -المكان الأبرز لنشاط موسكو- قبل تمرّد فاغنر ومحاولتها السيطرة على العاصمة، فهذا النفوذ من المؤكد أنه لن يبقَ على حاله بعد هذا التاريخ.
مباشرة إثر وصوله إلى الحكم عام 2000، قادمًا من جهاز المخابرات، انطلق الرئيس فلاديمير بوتين في محاولات إعادة مجد السوفييت ومحاولة وضع أقدامهم مجددًا في القارة الأفريقية، رغم اشتداد المنافسة هناك.
ضمن جهود العودة إلى القارة الأفريقية، اختارت روسيا تنظيم قمم تجمعها مع الأفارقة، استئناسًا بتجارب الدول الكبرى، وكثّفت من الزيارات الدبلوماسية المتبادلة، فقد زار قرابة 15 قائدًا أفريقيًّا موسكو منذ عام 2015، وفتحت مزيدًا من السفارات لتبلغ 40 سفارة في جميع أنحاء القارة.
نشاط فاغنر في أفريقيا لم يكن عسكريًّا فقط، إذ قادت مؤسسات الضغط التي تشرف على العلاقات العامة، فضلًا عن تأسيسها لبعض الشركات الاستثمارية.
فضلًا عن ذلك، دعمت روسيا الاتحادية بقيادة بوتين الأنظمة الاستبدادية في أفريقيا، وذلك من خلال توفير الأسلحة والمعدّات العسكرية والتدخل في الانتخابات لصالح حلفائها في القارة، وغضّت الطرف عن ملف حقوق الإنسان بما يخدم مصالحها ومصالح القادة الأفارقة، خاصة أن مبادئ حقوق الإنسان لم تعرف طريقها بعد إلى موسكو.
امتدَّ النفوذ الروسي، المباشر وغير المباشر، إلى العديد من الدول الأفريقية، خاصة في منطقة الساحل والصحراء وشمال القارة وشرقها، فدول القارة مرتاحة من الوجود الروسي الذي لا يتدخل في قضايا مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويوفّر تسهيلات مهمة في مجال نقل الموارد المالية.
تركز روسيا في انتشارها في أفريقيا على ليبيا والجزائر وتونس في شمال القارة، فضلًا عن دول مالي وموريتانيا والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو، دون أن ننسى غينيا وأفريقيا الوسطى والسنغال ونيجيريا ومدغشقر وجمهورية الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى السودان وموزمبيق وأنغولا وسيراليون وإثيوبيا، وهي البلدان الأكثر هشاشة في المنظومة الأمنية.
دور فاغنر في هذا النفوذ
صحيح أن روسيا اعتمدت على دبلوماسيتها للانتشار في أفريقيا، لكن الدور الصلب كان لمرتزقة فاغنر، فروسيا لا تحسن الاستثمار سوى في الفوضى التي لا يمكن إيجاد حل لها إلا عبر الشركات العسكرية الخاصة وأسلحتها.
زادت روسيا نشاطها العسكري خلال وقت قصير في القارة الأفريقية عبر المجموعات الأمنية الخاصة، على رأسها مرتزقة فاغنر، حيث نجحت هذه المجموعة في فرض نفسها لأول مرة في أفريقيا الوسطى، إذ أُوكلت لها مهمة تدريب الحرس الرئاسي، فضلًا عن حماية رئيس البلد والتخلُّص من السياسيين الموالين لفرنسا هناك، بعدها تمَّ تصديرها إلى ليبيا لدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر في حربه ضد حكومات طرابلس المعترف بها دوليًّا.
انتشرت بعد ذلك في موزمبيق، وتدخلت إلى جانب الرئيس فيليبي نيوسي ضد الحركات المتمردة هناك، وفي السودان أيضًا، حيث ينشط عناصر فاغنر هناك منذ عام 2017 لحماية المصالح التجارية الروسية، كما وصلت إلى مالي.
قال ان أسباب #روسيا لشن الحرب على #أوكرانيا هي كاذبة.. ثم اتهم #الجيش_الروسي بقصف قواته قبل أن تنفي #موسكو
ماذا يحدث بين فاغنر اقوى فصيل قتالي في روسيا والجيش الروسي؟
حتى وان لم ينجح الانقلاب او الانشقاق العسكري، فأن هيبة روسيا وقوتها الامنية لن تكون نفسها بعد اليوم pic.twitter.com/UqKMCxBvaQ
— Facts Matter بالعربي (@Facts_Arabi) June 24, 2023
من خلال نشاط فاغنر وانتشارها في دول أفريقية عديدة، تمكّنت روسيا من دعم نفوذها في القارة السمراء ومزاحمة النفوذ الغربي هناك، فقذ وزّعت المجموعة رجالها في القصور ومؤسسات الحكم وتحكموا في القرارات السيادية لبعض الدول.
نشاط فاغنر في أفريقيا لم يكن عسكريًّا فقط، إذ قادت مؤسسات الضغط التي تشرف على العلاقات العامة، فضلًا عن تأسيسها لبعض الشركات الاستثمارية، ما مكّن روسيا من تعزيز قوتها ونفوذها هناك، وإضعاف خصومها في بعض المجالات الاستراتيجية.
انعكاسات التمرد الأخير على هذا النفوذ
أرسلت روسيا في إطار الاتفاقيات الثنائية التي تجمعها بالعديد من الدول الأفريقية، المئات من الجنود النظاميين لدعم الأنظمة هناك، حتى تظهر نفسها كحليف للعديد من الدول الأفريقية التي تحارب حركات تمرد، خاصة في مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو وموريتانيا، لكن تأثير هؤلاء الجنود لم يكن كتأثير فاغنر، حتى أن وصولهم إلى هناك جاء بعد أن مهّدت لهم فاغنر ذلك.
هذا يعني أن السبب الأبرز وراء النفوذ الروسي في أفريقيا هو مرتزقة فاغنر، لكن نهاية الأسبوع الماضي تمرد عناصر هذه المجموعة على القيادة العسكرية في روسيا، وسيطروا على مدينة استراتيجية وهدّدوا بالوصول إلى موسكو، ما يعني أن علاقاتهم بالكرملين لم تعد كما يرام.
هذا التحول سنسمع ونشاهد صداه في أفريقيا، فموسكو تعتمد على فاغنر في هذه القارة، وتوتر العلاقات مع قيادة هذه المجموعة يعني حتمًا خسارة موسكو لنفوذها في القارة، فدون فاغنر روسيا لا تساوي شيئًا في القارة الأفريقية.
اعتمدت موسكو على المرتزقة للتمدد في الخارج ودعم نفوذها ومكانتها، إلا أنها لم تضع حسابًا لليوم الذي يمكن أن ينقلب فيه المرتزقة عليها ويهدّدوا مصالحها.
تعمل روسيا في أفريقيا غالبًا بعيدًا عن القانون، وتضمن لها فاغنر ذلك، فهي تدعم الحركات الانفصالية والأنظمة الاستبدادية، وتستثمر في الفوضى بالاستعانة بفاغنر حتى لا تتم ملاحقتها في المحاكم الدولية ولا تتم إدانتها.
خسارة حليف مهم كفاغنر ستكلف روسيا الكثير، ففاغنر لا تنشط عسكريًّا فقط، إنما تقود مؤسسات الضغط أيضًا، وتقود عمليات التضليل في القارة الأفريقية وغيرها، فالدعاية الروسية التي تقوم على تبييض صورة موسكو لدى الأفارقة وتشويه صورة الغرب، تشرف عليها مؤسسات تابعة لمرتزقة فاغنر.
لن تخسر موسكو حليفًا مهمًّا كفاغنر فقط، إنما ستخسر ثقة القادة الأفارقة الذين يبحثون عن حليف مهم يقف معهم ويساعدهم في وجه القوى الغربية التي تتهم بنهب ثروات الأفارقة منذ عقود، ما أدّى إلى تفقير شعوب هذه الدول.
يرى بعض الحكام الأفارقة أن دعم موسكو لهم سيوفر لهم السلاح والذخيرة بشروط ميسّرة، ويحمي أنظمتهم في المحافل الدولية، ويمنحهم الحماية من العقوبات الأممية، لكن بعد الآن يبدو أن هذا الاعتقاد سيتغيّر، فروسيا لم تحمِ حتى نفسها.
فرصة الغرب لإعادة الانتشار في القارة
ستكون هذه فرصة مواتية للقوى الغربية لإعادة الانتشار في أفريقيا، ففرنسا لن ترضى أن توضع في الهامش وهي القوة الاستعمارية الأولى في القارة الأفريقية، وستعمل على استثمار هذه الفرصة التي جاءت أمامها على طبق من ذهب لإعادة تركيز نفوذها.
الشيء نفسه بالنسبة إلى إيطاليا وألمانيا، فهذه القوى تبحث لها عن موطئ قدم في أفريقيا، بعد أن تمّت إزاحتها من قبل روسيا والمرتزقة التابعين لها في العديد من المناطق، على غرار ليبيا ومالي مثلًا.
#موسكو لن تنام اليوم فهي أمام ملحمة تاريخية عرابه قيصر #روسيا بوتين الذي ينتهج سياسة قيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر
– بوتين يتذوق السم من طباخه ظل يدعم المشروع الديكتاتوري ونهب ذهب افريقيا عبر مرتزقة #فاغنر
– ماذا لو سيطر مرتزقة فاغنر على الترسانة النووية لروسيا#Wagner pic.twitter.com/y4F0K5331V
— محمد عمرMO.OMAR|🇸🇩 (@MO7_OMAR) June 24, 2023
ستتحرك الولايات المتحدة الأمريكية بقوة، مجددًا، في القارة الأفريقية، وستعمل على استغلال الفرصة رغم المشاكل الداخلية التي تحيط بإدارة الرئيس بايدن، فهذه الفرصة قد لا تتكرر مرة أخرى.
اعتمدت موسكو على المرتزقة للتمدد في الخارج ودعم نفوذها ومكانتها، عكس الدول الغربية التي اعتمدت على الدبلوماسية والعامل الاقتصادي والتجاري، إلا أنها لم تضع حسابًا لليوم الذي يمكن أن ينقلب فيه المرتزقة عليها ويهددوا أمنها في الداخل.