أعادت حادثة قتل الفتى نائل (17 عامًا) في نانتير النقاش في الجزائر وفرنسا حول ملف الهجرة، الذي يعدّ أحد أبرز الخلافات القديمة بين البلدَين، إذ تربطهما اتفاقية في هذا المجال تعود إلى عام 1968، وبينما تطالب الجزائر بحماية أكبر لجاليتها التي يزيد عددها عن 5 ملايين في فرنسا، تطالب الأخيرة بتعديل مضمون اتفاقية الهجرة، بحجّة أنها لا تواكب التطورات الحالية.
وقبل مقتل نائل ذي الأصول الجزائرية، كان موضوع تعديل اتفاقية 1968 محل جدل ونقاش كبيرَين في فرنسا، بالنظر إلى أن الحكومة تحضّر لطرح قانون جديد للهجرة، لكنه قد لا يطبَّق على الجزائريين في ظل عدم مراجعة الاتفاقية سالفة الذكر.
جريمة عنصرية
يتابع الجزائريون باهتمام كبير الأحداث الدائرة اليوم في فرنسا، بالنظر إلى أن ذويهم يشكّلون أكبر جالية مقيمة هناك، والتي تقدّرها جهات غير رسمية بأكثر من 5 ملايين، إضافة إلى أن ضحية هذه الأزمة أو سبب اشتعالها من أصول جزائرية.
اتفقت أغلب تعليقات الجزائريين على مواقع التواصل الاجتماعي، على وصف حادثة قتل الشرطي الفرنسي لنائل بـ “الجريمة العنصرية”، عقب قتله يوم 27 يونيو/ حزيران 2023 برصاص شرطي بمدينة نانتير بالضاحية الغربية لباريس، بحجّة عدم امتثال الضحية لتعليمات دورية مرورية بالتوقف.
قالت والدة نائل التي تنحدر من أصول جزائرية، إنها تعتقد أن الحادث له دوافع عنصرية، فقد صرّحت لقناة “فرانس 5” الحكومية: “أنا لا ألوم الشرطة، أنا ألوم شخصًا واحدًا: الشخص الذي قتل ابني. لدي أصدقاء من الشرطة، إنهم يدعمونني تمامًا، لا يتفقون مع ما حدث”، واعتبرت أن “الشرطي رأى وجهًا عربيًّا، طفلًا صغيرًا، وأراد أن يقتله”.
قال ياسين بوزرو، محامي أسرة الضحية، في تصريحات صحفية، إنه بينما يتعين على جميع الأطراف انتظار نتيجة التحقيق، فإن الصور “أظهرت بوضوح شرطيًّا يقتل شابًّا بدم بارد”، مضيفًا أن الأسرة تقدمت بشكوى تتهم فيها الشرطة بـ”الكذب”، من خلال الزعم في البداية أن السيارة حاولت دهس رجال الشرطة.
منذ حدوث الواقعة، ما زالت مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر تشتعل غضبًا واستنكارًا لما حدث مع نائل، مصنّفة ذلك ضمن العنصرية المتجذرة داخل الشرطة الفرنسية، ولا سيما أن الغالبية لم تنسى أحداث 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1961 لمّا ألقت بأكثر من 400 متظاهر جزائري في نهر السين، بأمر من المحافظ شرطة باريس وقتها مويس بابون.
قال الصحفي رمضان بلعمري في تغريدة على تويتر، إن “الفقيد المراهق نائل ليس لديه سجلًّا إجراميًّا.. الشرطي أظهر عنصرية مخفية“. وغرد محمد زيدان قائلًا إن “فرنسا دولة عنصرية لدرجة الإجرام.. فرنسا دولة متطرفة وهذا واضح من تصريحات السياسيين وأفعال رجال الأمن.. المحتجون الفرنسيون لن يتوقفوا حتى تحقيق العدالة لنائل”.
ولم تصدر تهمة “العنصرية” التي تلاحق الشرطة الفرنسية من الجزائريين فقط، والتي قد تُفهم من جانب انتمائي وتاريخي، إنما الأمم المتحدة ذاتها لاحظت هذا العار الذي أصبح لصيقًا بالأجهزة الأمنية الفرنسية، إذ قالت الناطقة باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، رافينا شامداساني، في مؤتمر صحفي عقدته بمدينة جنيف السويسرية: “حان الوقت لفرنسا للتعامل بجدّية مع قضايا العنصرية العميقة والتمييز في أجهزة إنفاذ القانون”، مشددة على أنه “يجب فتح تحقيق في أسرع وقت بجميع مزاعم استخدام القوة المفرطة خلال الاحتجاجات في فرنسا”.
ردّ رسمي وحزبي
شكّل ملف الجالية الجزائرية أحد المحاور المهمة التي يركز عليها الرئيس عبد المجيد تبون في ولايته الأولى للبلاد، إذ يحرص في كل زياراته الخارجية على لقاء مواطنيه المقيمين بالخارج، لذلك سارعت وزارة الخارجية الجزائرية على إصدار تصريح زاوج بين الحدة والهدوء الدبلوماسيَّين، تقول فيه أنها “علمت بصدمة واستياء بوفاة الشاب نائل بشكل وحشي ومأساوي، والظروف المثيرة للقلق بشكل لافت التي أحاطت بحادثة الوفاة”، معربة عن خالص تعازيها لأسرة الفقيد التي “تؤكد لها أن الجميع في بلدنا يشاطرها حزنها وألمها”، كما جاء في البيان أن “الحكومة الجزائرية ما زالت تتابع باهتمام بالغ تطورات هذه القضية المأساوية، مع الحرص الدائم على الوقوف إلى جانب أفراد جاليتها الوطنية في أوقات الشدائد والمحن”.
وشدد الرئيس تبون في اجتماع مجلس الوزراء، المنعقد يوم الأحد، على “إيلاء الدولة الأهمية القصوى للاستماع الدائم لانشغالات جاليتنا، والتكفل بها من خلال القنوات الدبلوماسية في إطار الالتزام بالعمل على تحسين ظروف الجالية الجزائرية في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية، وتسهيل عودة الكفاءات والكوادر الجزائرية”.
دانت كذلك الأحزاب السياسية قتل نائل، إذ قالت حركة البناء الوطني: “نعبّر لجاليتنا بفرنسا عن تضامننا الكامل معها في هذه الفاجعة الجديدة التي تضاف إلى المآسي والمعاناة التي تتعرض لها”، مضيفة بالقول: “نعبّر عن قلقنا الكبير من تداعيات هذه الحوادث مستقبلًا، ونحمّل السلطات الفرنسية المسؤولية الكاملة في إجراء تحقيق كامل ونزيه لتسليط الضوء على ملابسات هذا الاعتداء، وضمان تحقيق العدالة الكاملة فيه”.
كما استنكر حزب جبهة التحرير الوطني، أكثر التشكيلات تمثيلًا في البرلمان، ما حدث لنائل، بالقول إن هذه “المأساة الوحشية التي تعرض لها الراحل تعبّر عن مدى الاستهتار الذي تعاملت به عناصر الأمن مع شاب أعزل، ويجعلنا نتساءل عن المبررات التي على أساسها تمَّ إطلاق النار على الشاب الجزائري واغتياله ببرودة أعصاب”.
وشددت جبهة التحرير على أن “فتح تحقيق جاد وصارم ومعاقبة الجناة سيكونان السبيل الوحيد لإرجاع كرامة عائلة نائل، ومن ورائه الجالية الجزائرية التي تتعرض لمعاملات ازدواجية، وتحيلنا إلى شعارات المساواة والحرية التي تتغنّى بها النخب الفرنسية من دون أثر على واقع جاليتنا”.
وطالب حزب جبهة التحرير بضرورة ضمان تمتع الجالية الجزائرية في فرنسا بحقوقها كاملة غير منقوصة، في ظل القوانين والمعاهدات السارية بين البلدَين، في إشارة إلى معاهدة 1968 المنظمة للهجرة وتنقُّل الأشخاص بين البلدَين.
غير أن تصريح الخارجية الجزائرية أثار حفيظة السياسيين الفرنسيين، وبالخصوص المحسوبين على اليمين المتطرف، إذ صنّف زعيم حزب الاسترداد المتطرف، إريك زمور، بيان الخارجية الجزائرية على أنه إهانة للرئيس إيمانويل ماكرون من الجزائر، مدعيًا أن إصدار الخارجية الجزائرية موقفًا بخصوص نائل تعبير عن أنها ترى في المحتجّين مواطنين تابعين لها، ما يعني أن الضواحي الفرنسية صارت جيوبًا أجنبية داخل الدولة الفرنسية، وفق فهم المتطرف ذاته.
بدوره اعتبر رئيس حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، جوردان بارديلا، بيان الخارجية الجزائرية تدخلًا في الشأن الفرنسي، مضيفًا أنه “إذا كانت الحكومة الجزائرية قلقة على رعاياها، فما عليها سوى استعادتهم”.
تتناسى تعليقات اليمين المتطرف أن الذين تتحدث عنهم هم مواطنون فرنسيون بأتمّ معنى الكلمة، حتى لو كانت أصول آبائهم وأجدادهم من الجزائر، لأن الأمر يتعلق اليوم بالجيل الرابع وحتى الخامس من المهاجرين، بل أن بعض هؤلاء لم يَزُر الجزائر مطلقًا لأنه ولد في فرنسا وتعلم في مدارسها، وكل ما في الأمر أنه شاهد على نظام الازدواجية وعدم العدالة الاجتماعية المطبّق على أبناء الضواحي.
أساس الخلاف
في الحقيقة، لا تشكّل هذه الهجمة الفرنسية المتطرفة على الجزائريين وأبناء الضحايا سوى الوجه الآخر لخلاف عميق بين البلدَين، يتعلق باتفاقية 27 ديسمبر/ كانون الأول 1968 التي جاءت استمرارًا لاتفاقية إيفيان عام 1962 الموقعة بين البلدَين، والتي بموجبها جرى تنظيم استفتاء لاستقلال الجزائر عن المستعمر الفرنسي.
نصّت الاتفاقية في بدايتها على دخول 35 ألف عامل جزائري إلى فرنسا سنويًّا لمدة 3 سنوات، ويتمتع المهاجرون الجزائريون بالعديد من المزايا المتعلقة بتصاريح الإقامة ولمّ شمل الأسرة التي لا يتمتع بها المهاجرون من جنسيات أخرى، إضافة إلى أفضلية في مجال الإقامة والعمل للجزائريين، وبموجب الاتفاقية يستفيد الجزائريون من حرية تأسيس الشركات أو ممارسة مهنة حرة.
وكانت اتفاقية 1968 تسمح للجزائريين بالسفر إلى فرنسا ببطاقة تعريف فقط دون جواز سفر ودون تأشيرات، إلا أنه جرى تعديلها عام 1986 لتفرض حينها التأشيرة على الجزائريين، وذلك بعد التفجيرات التي نفّذتها حركة “مجاهدي خلق” في فرنسا، لتحدث تعديلات أخرى أعوام 1993 و1998 و2001، قلّصت من الامتيازات التي كانت للجزائريين الموجودين في فرنسا، إلا أنها أبقت لهم الأفضلية في الحقوق مقارنة بباقي الدول، خاصة المغاربية والعربية.
تنص الاتفاقية بموجب تعديل 2001 على تسوية وضعية الجزائريين الذين يتزوّجون برعية فرنسية أو أجنبية لها وثائق إقامة في باريس، وفق بند لمّ شمل الأسرة الذي يضمن لأفراد العائلة الحق في العلاج الصحّي والوظيفة والتعليم، ومنح إقامة لمدة سنة قابلة للتجديد.
تمكّن بنود الاتفاقية أيضًا الجزائريين مقارنة بباقي الأجانب من الحصول على ما يعرَف بإقامة 10 سنوات بعد 3 سنوات من الإقامة، مقابل 5 سنوات في القانون العام الفرنسي، كما أنه بعد 10 سنوات من الإقامة بفرنسا -حال استطاع المعنيّ إثباتها- يُمكن للجزائري الذي يوجد في وضعية غير قانونية الحصول آليًّا على وثائق الإقامة.
كما تنصّ الاتفاقية على تسهيل منح الجنسية الفرنسية للجزائريين الذين ولدوا بفرنسا وأقاموا بها لمدة تزيد عن 8 سنوات، وتابعوا تعليمًا بمدارسها، ومن بنود الاتفاقية أن تمنح السلطات الفرنسية تفضيلات في التأشيرة والإقامة للطلبة والباحثين والفنانين والأدباء، وكلّ من له صلة بالإبداع والتأليف إن كان يحمل الجنسية الجزائرية.
ومع استعداد الحكومة الفرنسية لإصدار قانون جديد للهجرة يرتقب مناقشته في البرلمان الخريف القادم، بعدما تأجل لعدة مرات، تعالت الأصوات المطالبة بمراجعة اتفاقية 1968، وذلك حتى قبل حدوث مأساة قتل نائل.
في هذا الإطار، دعا رئيس الوزراء الفرنسي السابق، إدوارد فيليب المرجّح أن يكون أحد المرشحين لرئاسة 2028، في مقابلة مع أسبوعية “إكسبرس”، إلى إعادة قراءة اتفاقية 1968 بعد 55 عامًا من التوقيع عليها، وفقًا للظروف والشروط السياسية القائمة اليوم، وليس تلك التي كانت قائمة لحظة التوصُّل إليها.
واعتبر السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر، كزافييه درينكور المعروف بخطابه المعادي للجزائر، أن اتفاقية 1968 لا تفي باحتياجات بلاده، مطالبًا بإعادة النظر فيها “حتى لو أدّى هذا إلى أزمة دبلوماسية”. وخلال مقابلة مع مجلة “لو بوان” الفرنسية الشهر الماضي، ادّعى درينكور أن بنود الاتفاقية “باهظة” على فرنسا، كما أنها وضعت المهاجرين الجزائريين في خانة مميزة مقارنة بنظرائهم من جنسيات أخرى، و”كأن قوانين الهجرة لا تنطبق عليهم”، وانتقد الاتفاقية كونها سمحت بأن يحوز الجزائريون على 12% من إجمالي عدد المهاجرين في فرنسا.
يحمل خطاب الساسة الفرنسيين تناقضات كثيرة، بالنظر إلى أن الاتفاقية تمّت مراجعتها 4 مرات في سنوات 1986 و1993 و1998 و2001، عدا عن أن الجزائر لا تمانع تعديل هذه الاتفاقية، إلا أنها ترفض إلغاءها، وأن يكون التعديل على حساب جاليتها التي ساهمت ولا تزال تساهم في تنمية الدولة الفرنسية، سياسيًّا واقتصاديًّا ورياضيًّا وثقافيًّا.
في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، خلال انعقاد الدورة الخامسة للجنة الحكومية رفيعة المستوى التي عُقدت بالجزائر برئاسة الوزير الأول أيمن عبد الرحمان ونظيرته إليزابيث بورن، اتّفق الطرفان على إعادة تفعيل الفريق التقني الثنائي المكلّف بمتابعة اتفاق 1968، من أجل إعداد الاتفاق التكميلي الرابع في الوقت المناسب، كما شدد الطرفان على أهمية وجود عمل منسّق في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية، واستعدادهما استئناف أشكال الحوار التي شُرع فيها قبل جائحة كورونا، مع تأكيد التزامهما باحترام علاقاتهما والإطار القانوني الذي ينظّم العودة والسماح بالدخول مجدّدًا.
جاء في البيان المشترك للدورة أن “تعزيز التنقّل المشروع بين البلدَين، والذي يساهم في تعزيز المبادلات الإنسانية والمؤسّساتية والجامعية والعلمية والثقافية والاقتصادية، وتنظيم تنقل الأشخاص والوسائل الكفيلة لضمان استمراريتها وتعميقها، وذلك في ظلّ احترام الإطار القانوني الثنائي الذي ينظم هذه المسائل، لا سيما من خلال تنفيذ الاتفاق المتعلّق بتبادل الشباب العاملين لعام 2015”.
وبما أن المواثيق الدولية تسمو على القوانين الوطنية في فرنسا مثل الجزائر، ستبقى النخب السياسية في باريس مصرّة على تغيير اتفاقية 1968، بالنظر إلى أن قانون الهجرة الجديد حتى لو جرى اعتماده رغم عيوبه الكبيرة، لن يشمل الجزائريين في ظل استمرار العمل بهذه الاتفاقية التي لن يتم إلغاؤها على الأقل في الوقت الحالي، بالنظر إلى أن باريس لا تريد خسارة مصالح أكثر في الجزائر.
لذلك، ستسعى فرنسا إلى تعديل بنود في الاتفاقية تتكيّف أو تقترب من مضمون القانون الجديد، أو الاستمرار في عدم التقيُّد الكامل بمواد هذه الوثيقة مثلما يحدث في كل مرة، وهو ما يتسبّب في خلافات متجددة بشأن ملف التأشيرات الممنوحة للجزائريين.