مع بداية الصيف، بدأ الجيل الغزي الجديد يلحظ في شوارع القطاع مشهدًا لم يألفه، فهذه حقائب سفر كثيرة تحملها سيارات الأجرة الصفراء، وتلك وجوه بملامح فلسطينية تخرج منها لتبحث عن زقاق هنا ويافطة هناك تحدد مكان نُزلهم.
بكل تأكيد هذا مشهد عادي في أي مكان، لكنه غريب في بقعة صغيرة محاصرة منذ عقد ونصف، معابرها مغلقة، حتى إن وجوه ساكنيها ذاتها، فلا مغترب عاد، ولا ضيف عربي أتى ليقيم، فغزة مدينة استثنائية بكل شيء؛ في الحرب والدمار والجمال وحب الحياة.
بمجرد أن يذكر اسم مدينة غزة، يتوارد إلى الأذهان ما حفظته الذاكرة من وسائل الإعلام، القصف والشهداء والدماء والاستغاثة والفقر.. لكن واقعيًّا صنع أبناؤها حياة تليق بصبرهم، فأقاموا بيوتًا من تحت الركام، ودشّنوا المرافق السياحية والثقافية والتجارية، وسعوا لمواكبة التطور التكنولوجي كما في الخارج طيلة السنوات الماضية، لكن بخطوات ثقيلة بفعل الحصار المفروض عليهم.
لم يبقَ الحال كما هو عليه، خاصة حين خُففت بعض العقوبات المفروضة عليهم، وباتت حركة التنقل والسفر أفضل من ذي قبل -فتح معبر رفح الحدودي مع مصر الذي كان يغلق لـ 3 شهور متتالية وحين يفتح يسافر من يدفع أكثر، بينما اليوم هناك دفع لكنه معقول مقارنة بالسابق-، ما شجّع عشرات المغتربين برفقة أسرهم الصغيرة العودة لتمضية الإجازة الصيفية وسط ذويهم بعد غياب طويل.
يرصد “نون بوست” قصص العائدين بعد أكثر من عقد لقضاء الإجازة الصيفية بين الأهل والأصدقاء وفي الحارات الشعبية وعلى شاطئ البحر، بحثًا عن ذكرياتهم تحت ركام بيوت مُسحت بفعل القصف الإسرائيلي لكن بقيت مخزونة في ذاكرتهم.
حقائب سفر وعودة الأبناء
هذا الصيف بات مألوفًا صوت سيارات المرسيدس عند وقوفها على باب أحد البيوت الغزية مع عبارات التهليل والترحيب والزغاريد، فلم يصدق الأهالي أبناءهم حين يخبروهم عبر الهاتف أنهم سيأتون لتمضية الإجازة وعيد الأضحى في غزة.
ما الذي تغيّر؟ هذا ما يجيب عنه نائل الأشرم (42 عامًا) حين قرر أن يأتي من السويد لزيارة عائلته بعدما خرج وهو بعمر 26 عامًا، معلقًا: “خرجت بمعجزة ولم أتوقع العودة يومًا (..) دومًا كنت أحلم بلقاء أهلي في مصر أو أي مكان خارج غزة كون الأمور صعبة”.
ويضيف: “خلال سنوات غربتي أصبح لدي عائلة صغيرة (..) كبر أبنائي ولم يعرفوا أقاربهم إلا عبر الصور ومكالمة فيديو من وقت لآخر، وكل مرة كنت أخشى المجيء إلى غزة خشية ألا أستطيع السفر وأخسر وظيفتي، لكني تشجّعت بفعل التسهيلات منذ العام الماضي، لا سيما تكلفة الدخول أو الخروج عبر معبر رفح أصبحت أقل من السابق، فحين سافرت أول مرة دفعت 3 آلاف دولار فقط لمعبر رفح”.
لم تتوقف سيارات نقل المسافرين من معبر رفح إلى مدن وقرى قطاع غزة، فطيلة ساعات النهار هناك السيارات الصفراء تحمل حقائب كثيرة لأصحاب أتعبهم الطريق لكن بمجرد رؤية الأهل يزول التعب.
لم يمضِ على وجود الأشرم في غزة سوى أسبوعَين، لكنه حرص على زيارة جميع الأقارب وتمضية وقت أطول مع أسرته والذهاب إلى شاطئ البحر، كما اصطحب صغاره الثلاثة إلى الأماكن التي اعتاد في طفولته اللعب فيها.
يحكي أن أوروبا حلم كل شاب عربي وهو في بلده، كونه يبحث عن الحياة والرفاهية، لكن حين يصل يدرك قيمة بلده رغم ما فيها من انقسامات سياسية وتفتقر لأدنى مقومات الحياة المعيشية، ويعلق متهكمًا: “اشتقت لصوت الزنانة” (طائرة الاستطلاع الإسرائيلية التي تبقى طيلة اليوم تزعج الغزيين).
ويتلهّف الأشرم لحضور فرح شقيقه، بعدما حُرم من مشاركة بقية أشقائه أفراحهم، ويقول: “وأخيرًا سأكون برفقتهم على أرض الواقع بدلًا من الفيديوهات والصور التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر (..) ومن الجيد أن يحفظ أبنائي بعض عاداتنا ويرتبطوا بأبناء عمّهم ويصنعوا ذكريات تجعلهم يطلبون مني العودة مجددًا”.
حالة الأشرم تشبه العشرات من الشباب المغتربين الذين يسعون للعودة إلى قطاع غزة بعد حرمان طويل بفعل ظروف السفر القاسية، لكن قرار وصوله والعشرات من المغتربين إلى ذويهم لا يزال يشجّع البقية للقاء الأهل على أرض القطاع بدلًا من مصر، كما جرت العادة باعتبار أن ذلك أكثر أمانًا.
ولم تتوقف سيارات نقل المسافرين من معبر رفح إلى مدن وقرى قطاع غزة، فطيلة ساعات النهار هناك السيارات الصفراء تحمل حقائب كثيرة لأصحاب أتعبهم الطريق لكن بمجرد رؤية الأهل يزول التعب.
هنا حكاية أخرى، ياسمين نشوان (37 عامًا) عادت لتوها من أمريكا بعد 12 عامًا غياب، لم تصدق أنها وصلت الصالة الفلسطينية لمعبر رفح الحدودي، وأنها ستقابل أشقاءها بعد سنوات من الغربة.
تحكي لـ”نون بوست” أن غصة أصابتها حين وصلت لمكان سكن عائلتها في شارع الوحدة، ولم يعد له أثر بعد قصفه خلال معركة “سيف القدس” عام 2021.
تقول: “حين وصلت لمنطقة سكني قديمًا لم أجد البيوت، فقد تساوت مع الأرض بعد قصفها وإزالة الركام منها، لُجم لساني ولم أنطق بحرف، خاصة أن بعض الجيران والأصدقاء استشهدوا رغم علمي بذلك”.
وتضيف: “تغيرت البلد كثيرًا دون أن تتغير رائحتها التي نشتاق إليها طيلة الوقت، لم أتوقع أني سأرى العمران الحديث والمحلات التجارية التي تشبه الأجنبية لكن بلمسات غزية (..) سأقضي الإجازة الصيفية بأكملها لذا صنعت جدولًا لأولادي بالأماكن التي أحرص على اصطحابهم إليها، كشاطئ البحر والحارات القديمة شرق مدينة غزة”.
ورغم غصة الفقدان على جيران وأقارب فقدتهم بالقصف الإسرائيلي على قطاع غزة، إلا أنها لم تتوانَ عن إعلان سعادتها بتحقيق حلمها ووصولها إلى بلدها، معلقةً: “وأخيرًا الحلم صار حقيقة، وسيأتي عيد الأضحى وأحتفل مع عائلتي والأقارب بعد حرمان طويل، لم يكن يطرق بابي أحد، وكان العيد يمضي كأي يوم عادي، لكن هذه المرة سيعرف أبنائي الطقوس جيدًا وسيشاركون في الأضحية وتوزيعها لتبقى ذكرى لديهم”.
طائرة الزنانة وقطع الكهرباء واللغات
“فش نت، قطعت الكهرباء”، أبرز العبارات التي حفظها الصغار خلال أيام قليلة من وصولهم إلى قطاع غزة، حتى أن صوت طائرة الاستطلاع “الزنانة” شدَّ انتباههم، فكان صوتها ليلًا يزعجهم لكن سرعان ما اعتادوا عليه.
أما الكهرباء، فسريعًا حفظ الصغار قبل الكبار موعد وصلها وقطعها، يعلق حاتم أبو شعبان (35 عامًا) القادم من النرويج برفقة زوجته واثنين من أبنائه: “من الجيد أن يعيش أبنائي تفاصيل يومية عشتها قبل سفري، ليشعروا بقيمة حياة الرفاهية التي يعيشونها”.
وذكر أبو شعبان أنه ليس قاسيًا حين يجعل أبناءه يعيشون لحظات فيها شيء من المعاناة، فهدفه هو أن يدركوا الحياة متقلبة وفيها الكثير من العقبات، فمثلًا الكهرباء في النرويج متاحة طيلة الوقت لكن في غزة وقت انقطاعها تنغّص عليهم وتعرقل مصالحهم.
وفي كل مكان أثناء التجول في مدينة غزة أصبح مألوفًا سماع اللغة الروسية والإنجليزية والألمانية والتركية، فهي حاضرة من خلال الحوارات بين الأهالي وصغارهم، سواء على شاطئ البحر أو الأماكن الترفيهية.
وهنا يخبر أبو شعبان “نون بوست” أنه حين أدرك التسهيلات عبر معبر رفح الحدودي، تشجّع أن يصحب أبناءه إلى القطاع ليتعلموا الكثير من الكلمات العربية عند احتكاكهم بالصغار، كما أنه ألحقهم لمدة شهر في حضانة لتعلم اللغة العربية.
نابلسية أبو السعود وبراد كاظم، وترمس أبو كويك
المدهش في قطاع غزة أنك على الشاطئ ذاته يمكنك أن تحتسي فنجان القهوة بـ 15 دولارًا أو 2 دولار أو شيكل واحد ما يعادل ثلث الدولار، وبإمكانك أيضًا السباحة على الشاطئ ذاته مجانًا بالقرب من منتجع فاخر، لذا هو بلد استثنائي، حيث يصنع مواطنوه سعادتهم وفق إمكاناتهم المتاحة.
كما أن العائد إلى غزة يشتاق كثيرًا للأكلات الشعبية التي تتقنها الأمهات، فبمجرد وصولهم تنتظرهم طنجرة المقلوبة أو الفتة الغزاوية، أو السماقية والرمانية، وحتى الكورش والفوارغ التي يشتهيها المغتربون كثيرًا.
أما الفطور غالبًا يكون الفول والفلافل، لكن ليشبع المغترب حنينه يطلبها من محلات شعبية معروفة على مستوى القطاع، مثل زهران وعكيلة والسوسي، قرص واحد من الفلافل كفيل أن يقلب ذكريات كثيرة.
ويحرص العائدون على أكل “نابلسية أبو السعود” و”مرطبات وبراد كاظم” و”ترمس أبو كويك”.. هذا ليس إعلانًا، بل ذكريات عاشوها في تلك الأماكن التي تجاوز عمرها النصف قرن وأكثر، لكن هذه المرة تبدّل الحال، فلن يسمعوا عبارة “أبو كويك وصل”، حيث رحل صاحب الصوت الذي ارتبطت به عدة أجيال في مختلف أنحاء القطاع، وهو يجوب بدراجته الهوائية لبيع الترمس بشكل يومي.
ومع أن مساحة قطاع غزة لا تتجاوز الـ 365 كيلومترًا، ويعيش ساكنوه طيلة الوقت حالة من القلق والتوتر بفعل الحصار والاحتلال، إلا أن هناك قوة تعلُّق كبيرة تجعلهم يبقون فيه حتى وإن غادروه تبقى الغصة ترافقهم حتى عودتهم، فهذا القطاع رغم بساطته فيه الكثير من القصص والخبايا التي تروى لأجيال كثيرة.
وعند انتهاء العطلة الصيفية، يحزم المغتربون حقائبهم المعبئة بأكياس الزعتر والميرمية، وأقراص الكشك وزجاجات زيت الزيتون المغلقة بأحكام، عدا عن برطمانات الزيتون وحلوى النمورة، والتعليقات المطرزة ومفتاح العودة الخشبي، كل تلك الأغراض والصور التي اُلتقطت وأكثر تهوّن على الزائر غربته حين يعود إلى مغتربه.